
عاشوراءُ ليست يومًا عابرًا في التقويم الإسلامي، بل هي محطةٌ فارقة في التاريخ الإنساني؛ يومٌ يسجّل فيه الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) عظمةَ التضحية وسموَّ القيم، ويمحو بدمه محاولاتَ الطغيان والظلم لنسج رابطٍ أبديٍّ بين الوعي الإنساني والضمير الحيّ.
منذ واقعة كربلاء في العاشر من محرم، رسم الحسين (عليه السلام) على أرضها خريطةً أخلاقيةً صلبةً ترشد الأجيال إلى طريق الحق والعدل، وترسّخ لديهم وعياً فاعلاً لا يقبل الذلَّ أو الاستكانة.
اولا : الحسينُ على أرض كربلاء: خارطةٌ للقيم
1- الشهادةُ دفاعًا عن الحقِّ :
اختار الإمام الحسين (عليه السلام) الموت في سبيل نصرة الحق والتمسّك بمبادئ الدين، فكرّس بذلك قيمةَ “الشهادة” كأعلى درجات التضحية في سبيل الله.
2- مقاومةُ الطغيان والظلم:
وضع الحسين مثلاً حيًّا للمقاومة، رافضًا بيعة يزيد بن معاوية التي اعتبرها خروجًا على نهج أهله وطمسًا لعدالة الإسلام.
3- إثارةُ الضمير الاجتماعي:
بوقوفه بوجه جيوش الضلال القوية، نبّه أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أُمّةً غاب عنها صوتُ الحقّ، وأيقظ ضمائرَ خامدةً لتدرك خطر السكوت أمام الظلم.
ثانياً: ثورةُ كربلاء وأهميتها في بناء الوعي:
1- بلورةُ مفهوم الولاء للقيم لا للأشخاص
ورسّخت واقعةُ كربلاء مبدأَ الولاء للمبادئ أولًا، فكان الحسين (عليه السلام) نموذجًا للالتزام بالقيم الثابتة، مهما بلغت التضحيات، دون الانخداع بجاه أو سلطة.
2- إعادةُ تركيب الضمير الجمعي:
أدّت ثورةُ الحسين (عليه السلام) إلى صحوة ضميرٍ جماعيٍّ، إذ تولدت من بطولته أسئلةٌ أخلاقيةٌ: “أين مكاني من الحقّ؟” و”هل أؤازر الظلم بحجم صمتي؟”، فكان النصح في مساجد المسلمين وذكراه في المجالس دافعًا دائمًا للبذل والتغيير.
3- تأسيسُ مدرسةٍ للتغيير الاجتماعي:
لم تكن كربلاء مجرّد مشهد دمويٍّ، بل مدرسةً علمت الناس كيف يواجهون الظلم بأساليب حضارية: الإنكار باللسان والنصح بالمعروف والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس إن تطلّب الأمر.
ثالثا: الدروس المستقاة من ثورة كربلاء:
1- ثباتُ الموقف أمام الفتنة:
ينطوي درس كربلاء على ضرورة الثبات على المبدأ حتى لو كان الثمن غاليًا، فالحسين (عليه السلام) علّم أن الرجولة ليست في امتلاك السيف فحسب، بل في تمسّك القلب بالعقيدة.
2- قيمة التضامن والتكافل:
خُصّ أصحاب الحسين من بني هاشم والأنصار بأعلى مراتب الوفاء، فأظهروا أن المجتمع الذي يتشارك القيم لا ينهار أمام المحن مهما اشتدت.
3- مقدّرة الوعي على صناعة التاريخ:
بكلمةٍ واحدةٍ من الحسين “هيهات منا الذلة”، تغيّر مجرى التاريخ، وتحوّل سطوره إلى ملحمةٍ خالدَةٍ تتردّد في وجدان الشعوب.
ثورة كربلاء ليست مجرد قصةٍ تُروى، بل إرثٌ حيٌّ يتجدّد في قلوب المؤمنين والباحثين عن العدل. لقد رسم الحسين (عليه السلام) على تربتها خارطةً للضمير الإنساني: خارطةٌ ترشد كل من تاه في متاهات الدنيا إلى طريق الإيمان والصمود. وأهميّة ثورته تكمن في أنها تظلّ منارةً تنير دروب الوعي والضمير، وتؤكد أن الحرية لا تُشترى بالدنيا، بل تُفتدى بالأرواح.
في كل ذكرى عاشوراء، نستلهم من هذه الثورة الدرس الأسمى: أن الأشياء العظيمة لا تأتي إلا من تضحيةٍ لا تعرف القيود.