
ليست ملحمة كربلاء حدثاً طارئاً في التاريخ، ولا هي مجرّد مأساة تُروى على المنابر وتُسكب لها الدموع في كل عام، بل هي قضية ذات أصلٍ عميق، يُراد لها أن تكون شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. بيد أن هذا الأصل – الذي لأجله نهض الإمام الحسين (عليه السلام) وارتقى سُلَّم الدم – لا يزال غائباً في كثير من العقول والنفوس، أو على الأقل غائباً في موقعه الأصيل، إذ غالباً ما يلتبس علينا جوهر القضية الحسينية فننقلب إلى الاهتمام بفروعها دون أصلها، فنُبقي طقوسها حيّة، بينما تموت روحها فينا.
إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يخرج طلباً للدمع ولا تأسيساً للعزاء، بل خرج ليحفظ الأصل الذي كاد أن يضيع: أن يكون الدين حيّاً في حياة الناس، فاعلًا في ضمائرهم، حاكماً على سلوكهم وأخلاقهم، لا شعارات معلّقة، ولا مواسم يُكتفى فيها بالصراخ والبكاء. خرج الحسين ليعيد للدين روحه ومكانته، وليقول للعالم: إنّ جوهر الإسلام هو العدل والكرامة والحرية ورفض الذل والخنوع، وإنّ كل شعائر تُقام باسمه ولا تُثمر هذه القيم، فإنها تظل طقوساً خاوية، كالماء الذي اختلّت تركيبته الكيميائية فلم يروِ ظمأ، ولم يُحيِ زرعاً.
في مجتمعاتنا الحسينية اليوم، نرى المواكب تُقام، والطبول تُقرع، والرايات تُرفع، والدموع تنهمر مدراراً، لكن الأصل الغائب يظل غائباً: لماذا لا تُغيّر هذه الشعائر من واقعنا؟ لماذا لا تنعكس كربلاء في أخلاقنا العامة وسلوكنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؟ لماذا نعود بعد موسمي محرم وصفر إلى حياةٍ قد تقترب من يزيد أكثر من اقترابها من الحسين؟
ليس العيب في الشعائر، ولا في البكاء، ولا في المواكب؛ فهي مظاهر محبّة صادقة وأصيلة، ولكن العيب أن تُختزل القضية الحسينية في هذه المظاهر وحدها، وأن يُنحّى أصلها عن التأثير في الوعي والسلوك. الأصل الغائب هو ذلك المعنى الذي يجعل الإنسان حسينيّاً في كل لحظة من حياته، فلا يظلم ولا يفسد ولا يساوم على الحق، ولا يركن إلى حاكم فاسد .
لقد صرخ الإمام الحسين (عليه السلام) في وجه الزيف: «وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدّي»، وهذه ليست دعوة محدودة بزمان أو مكان، بل مشروع دائم لإقامة الحق وهدم الباطل. الإصلاح أصلٌ من أصول الدين، لكننا حوّلناه إلى شعار لا ينعكس على واقعنا؛ فأصبحنا كمن يصلي دون أن تنهى صلاته عن الفحشاء والمنكر، أو كمن يشرب ماءً تبدّلت تركيبته فلم يعد يروي العطش ولا يطهر النجس.
لو كان الأصل الحسيني حيّاً فينا، لصرنا أكثر وعياً وصدقاً وعدلاً، ولأثمرت دماء الحسين حريةً وعدالةً وإصلاحاً في حياتنا، ولأصبحت مجالس العزاء مصانع للأحرار لا مجرد مواسم للبكاء. لكنّ كثيرين، مع الأسف، جعلوا من الفروع أصلًا، ومن الأصل فرعاً، فانقلبت الموازين وضاعت الثمار.
إنّ القضية الحسينية شجرة طيبة، فإن كان أصلها ثابتاً في قلوبنا، فلا بد أن تؤتي أكلها في كل حين، فتثمر أخلاقاً سامية، ومجتمعات نقية، وسلوكاً يليق بأتباع إمام قال: «هيهات منا الذلة».
فلنسأل أنفسنا: هل ما نفعله اليوم حسينيّ في جوهره أم يزيدي في مآلاته؟ وهل نحن أوفياء للأصل الذي خرج لأجله الحسين، أم اكتفينا بفروع تريح ضميرنا لكنها لا تغيّر واقعنا؟
إنّ الأصل الغائب في القضية الحسينية هو أن يكون الحسين حاضراً فينا، لا في دموعنا فقط، بل في أخلاقنا وقراراتنا ومواقفنا اليومية. فإذا أعدنا هذا الأصل إلى موضعه، عادت كربلاء ملحمة حيّة تصنع الأحرار، وتبني المجتمعات على العدل والكرامة، ويصبح الدم الذي أُريق هناك نوراً يهدي الدروب إلى الحق، جيلاً بعد جيل.