شؤون اقليمية

الاقتصاد العالمي مشبع بالأزمات والنقيض الأول لأميركا هو العملاق الصيني

حوار مع :د. جورج قرم - رصد ومتابعة : مركز تبيين للتخطيط والدراسات الستراتيجية

 

* في نهايات القرن الماضي تحوّل الغرب إلى مبادئ النيوليبراليّة التي ارتكزت على ضرورة دفع الحكومات ولو بالقوّة نحو الخصخصة الشاملة، ورفع الحكومة يدها عن القطاعات المنتجة بما في ذلك قطاع الصحّة والتعليم. واليوم مع جائحة كورونا وجدت الحكومات الغربية نفسها غير مضطرّة للدفع للطبقات الفقيرة والمتضرّرة فقط، بل للشركات والقطاع الخاص؛ منعًا لانهيارها وإفلاسها. ما هي برأيكم الاثار التي ستتركها هذه الجائحة على الاقتصاديات العالميّة وعلى النظريات الاقتصاديّة الغربية؟

 

– لا يمكن أن نحدّد بدقّة الآثار الناتجة عن جائحة كورونا، خاصّة وأنّها لم تنته بعد، ولا نعلم كم ستدوم. إنّما لا شكّ أنّ التغييرات الاقتصاديّة الدّوليّة والوطنيّة ستكون كبيرة جدًا، ويمكن أن تتّخذ أكثر من منحى، فالواضح إلى الآن التأثيرات السلبية على صناعات مختلفة مثل صناعة الطائرات التي أصبحت تتراجع وكذلك قطاع السفر إجمالًا، وإلى الآن لم تبرز كلّ الآثار السلبيّة الناتجة عن الأزمة؛ ذلك أنّ الجائحة مستمرّة، بل تتوسّع في العديد من الدول. أمّا بالنسبة إلى الاقتصادات العربية فهي أقلّ تأثّرًا نظرًا لعدم دخول العالم العربي في الصناعة والخدمات ذات المحتوى التكنولوجي الرفيع. إنّما لا بدّ من الإشارة إلى حالة العلاقات السيّئة بين الدول العربية بالإضافة إلى التخلّف التكنولوجي والعلمي الذي يعاني منه العالم العربي.

 

السؤال الكبير على مستوى العالم، والذي يدور حول فورات البورصات العالميّة بالرغم من الخسارات الاقتصادية التي تسبّبتها الجائحة، وهي ظاهرة تؤكّد فصل عالم الإنتاج عن عالم المال وسيطرة الشركات العملاقة المتعدّدة الجنسيات على الاقتصاد العالمي. ويصعب أن نتكهّن ماذا سيحصل في ميدان النظريات الاقتصادية، وإذا ما ستتراجع النظرية النيوليبراليّة أم بالعكس ستؤمّن مزيدًا من السيطرة في مناهج تعليم الاقتصاد عالميًا. ومن الناحية السياسية هل ستعود الدول إلى الحمايات الجمركيّة، أم ستبقى التجارة الدوليّة حرّة. وفي هذا المضمار هناك العديد من الفئات الاجتماعية في الدول الصناعية تطالب بالابتعاد عن التبادل الحرّ والذهاب إلى السياسات الحمائيّة، وذلك بسبب تزايد البطالة حتى في الدول الأكثر تقدّماً.

 

* كيف تقيّمون بشكلٍ عام التجربة الاقتصادية الغربية، أعني ما هي أهم الإنجازات وأعظم الإخفاقات؟

 

– إنّ التجربة الاقتصاديّة الغربيّة مرّت بمراحلَ مختلفةٍ حسب الزمن وحسب الدول. فعلى سبيل المثال مرّت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية بما سمّي «الثلاثينيّة المجيدة» التي تميّزت بإقامة أنظمة اقتصاديّة مبنيّة على تدخّل مكثّف للدول في اقتصادها، وعلى الطابع القريب من الاشتراكيّة مع الحفاظ بمبادئ الرأسماليّة أو ما سمّي الديمقراطيّة الاقتصاديّة الاجتماعيّة، وهي فترة حيث كانت ضريبة الدخل مرتفعة للغاية بلغت 90% للشّطر الأخير من الدخل في بريطانيا على سبيل المثال، ومع ذلك كانت أكثر فترة رخاء اقتصادي واجتماعي في أوروبا. المشاكل بدأت مع صعود أيديولوجيا النيوليبراليّة التي اقترفت في بعض الأحيان جرائم ضدّ الإنسانيّة، مثلما حصل في تشيلي ضدّ الرئيس اللندي، أو في البرازيل مع سنين الدكتاتوريات الوحشيّة.

 

* إلى أيّ مدى يمكن الحديث عن أنّ الهيمنة الاقتصاديّة الأميركيّة على الاقتصاد العالمي آيلة إلى الأفول؟ وإذا كان ذلك صحيحًا ما هي علامات أفولها؟ وهل تعتقدون أنّ المنظّرين الاقتصاديين الغربيين عاجزون عن إيجاد الحلول لإبقاء هيمنةٍ غربيةٍ على الاقتصاد العالمي ومنع صعود الصين والشرق بشكل عام؟

 

– إنّ تراجع حصّة الاقتصاد الأميركي في الناتج العالمي يعود إلى السبعينيات من القرن الماضي، غير أنّ الولايات المتحدة طوّرت قدرةً ابتكاريّةً في مجال التكنولوجيا الحديثة، وبشكل خاص صناعة برامج الأدمغة الإلكترونيّة، ولم تهتم بتطوير الصناعات التقليدية والبنى التحتيّة ولذلك التراجع في مكانة الاقتصاد الأميركي في الاقتصاد العالمي. وفيما يختص بالدول الأوروبية فإنّ قواعد الاتّحاد الأوروبي الصارمة في إدارة مالية الدول الأعضاء أدّت إلى معدلات نموّ متدنّية للغاية وإلى أزمات مثل الأزمة اليونانيّة.

 

بطبيعة الحال، إنّ صعود الصين والهند ودول أخرى من العالم الثالث أصبح يغيّر من بنية النّظام الاقتصادي العالمي مع الإشارة إلى عملاقيّة الاقتصاد الصيني الذي أصبح من عمالقة الاقتصاد العالمي خلال سنوات معدودة.

 

* عند الحديث عن أفول اقتصاديات عالميّة وصعود أخرى، غالباً ما يتمّ الحديث عن الصين والهند وماليزيا وما الى ذلك، مع غيابٍ شبه تامٍّ للدول الإسلاميّة رغم ما تمتلكه من إمكانيات وثروات هائلة مادية وبشرية. أين تكمن المشكلة في العالم الإسلامي والتي تبقيه بعيداً عن دائرة التّوقّع بتحوّلهم إلى اقتصاديات فاعلة ووازنة ومؤثّرة بل ومهيمنة؟

 

-مشكلة الدول الإسلامية باستثناء ماليزيا -وهي دولة مختلطة سكانيًا من حيث العرق والدين- أنّ العديد منها خاصّة في العالم العربي تعيش من مصادر ريوع عديدة، مثل توفّر النّفط والغاز بكمّيات كبيرة أو تحويلات المغتربين العرب من الدول النفطية أو من أوروبا والولايات المتحدة. ولذلك نرى حالة الكسل الابتكاري والإنتاجي بينما كانت الحضارة الإسلامية في قرونها الأولى مصدرًا لمعظم العلوم (الفلكية والحسابية والطبية إلخ..) غير أنّ العنصر العربي بعد قرون دخل في حالة تسليم الحكم إلى العنصر التركي والعجمي. فلم تواكب تطوّر العلوم الذي كان يحصل لدى الفرس وشعوب أخرى. أضف إلى ذلك ريع موارد النفط وكذلك ريع بنى تحتيّة مثل قناة السويس التي تؤمّن سيلًا من الإيرادات السهلة بدلًا من التّوجّه نحو إعادة إحياء القدرات العلميّة للقرون الأولى من تاريخ الإسلام. بالإضافة إلى ذلك فإنّ الاقتصادات العربيّة التي لا تتمتّع بموارد نفطيّة أو غازيّة تعتمد على هجرة الأدمغة واليد العاملة، بما فيها اليد العاملة المتعلّمة؛ لكي تحصل على ما يسمّى تحويلات المغتربين. ومن وراء هذه السياسات بقيت الدول العربية بعيدة عن اكتساب القدرات التكنولوجية الحديثة، خاصة وأنّها تستورد من الدول الصناعيّة أو من الهند والصين ما تحتاجه من منتجاتٍ تكنولوجيةٍ دون أن تدخل في إنتاجها.

 

* يقول البعض إنّ الهيمنة السياسيّة يقف خلفها هيمنة اقتصاديّة، وإنّ الهيمنة الاقتصاديّة غير متاحة ما لم تترافق مع قوّة عسكريّة. هل تعتقدون أنّ هذا الأمر دقيق؟ وإذا كان صحيحاً ألا يتعارض مع الحديث عن أفول أو تراجع الهيمنة الاقتصادية الأميركية في ظلّ بقاء تفوّقها العسكري؟ وفي كلّ الأحوال كيف تنظرون إلى جدليّة العلاقة بين التّفوّق العسكري والهيمنة الاقتصادية؟

 

– ليس صحيحاً تماماً أنّ الهيمنة السياسية تقف خلفها هيمنة اقتصادية. هناك استثناءات عديدة لدول ليس لها أيّة أهميّة عسكريّة، إنّما هي من عمالقة الاقتصاد، وخير دليل على ذلك دولة سنغافورة التي لا تتعدّى مساحتها 720 كلم مربع، وهي عملاق اقتصاديّ، وصادراتها حوالي الـ 400 مليار دولار من المنتوجات ذات المحتوى التكنولوجي الرفيع. ويمكن أيضًا أن نُشير إلى جزيرة تايوان، وهي دولة ليس لها مواد أوّليّة، ولكن إنتاجها الصناعي كبير جدًا خاصّة في الصناعات الحديثة ذات المحتوى التكنولوجي. ويمكن أن أعطي مثلاً إضافياً وهي جزيرة كوبا التي تخصّصت في إنتاج الأدوية وفي القطاع الطبي. أمّا في حالة الولايات المتحدة فإنّ حجم اقتصادها ناتج عن قدرتها على الابتكارات التكنولوجية العسكرية أو المدنية، وأصبحت الصين تنافس اقتصادها وقدرتها العسكرية. مع الإشارة إلى وضع روسيا التي ما تزال ضعيفة في قطاع الإنتاج المدني، بينما هي قويّة للغاية في الإنتاج العسكري.

 

* ركّز علماء الاجتماع على قضية الاستهلاك، وكيف أنّ المجتمع تحوّل إلى استهلاك الرفاهيّة، كيف تنظرون إلى قضيّة الاستهلاك اليوم، وما هي أسبابها؟ ما علاقتها بالتكنولوجيا؟ وإلى أيّ مدى يُمكن الحدّ من هذه الظاهرة وكيف؟

 

– قضيّة الإسراف في الاستهلاك هي سمةٌ عامةٌ في كلّ المجتمعات تقريباً، وهي نتيجة قدرة الشركات المتعدّدة الجنسيات وخاصة الأميركية والصينيّة عبر الدعاية المكثّفة في زيادة متواصلة في استهلاك العديد من السلع، وخاصة السلع ذات المحتوى التكنولوجي الرفيع، كما يحصل في التنافس في بيع الهواتف الذكية. وما لا شكّ فيه أنّ تطوير أساليب الدعاية للمنتجات الجديدة هي ظاهرة تساهم في زيادة مفرطة للاستهلاك، وهذا ما يُبيّنه حجم نفقات الدعاية عالميًا. ويصعب اليوم لأيّة دولة أو حكومة أن تفرض قيودًا على الاستهلاك المفرط، خاصّة في ظلّ العولمة والقضاء على الحمايات الجمركيّة العالية.

 

* هل تعتقدون أنّ ما يجري اليوم من انهيارات في النّظام الاقتصادي العالمي، سواء لناحية تداعيات فيروس كوفيد-19 أو غير ذلك، يمكن أن يترك أثره على العولمة؟ وهل يمكن تأييد القول بأنّ العولمة قد انتهت؟

 

– لا أرى انهيارات في نظام الاقتصاد العالمي، بل ربّما تراجع في المبادلات بين الدول؛ نظرًا للتأثيرات السلبيّة على النمو الناتجة عن انتشار فايروس كورونا. وما لا شكّ فيه أنّ التجارة الدولية والقطاع الخدماتي الدولي يتأثران كثيراً من انتشار الفايروس عالميًا، ويكفي أن ننظر إلى تباطؤ حركة الطيران عالميًا.

 

* فيما يُسمّى بالدول النامية، يجري جدالٌ كبيرٌ حول صندوق النّقد الدولي والبنك الدولي. كيف يمكن تشريح عمل هذه المؤسّسات من منظورٍ اقتصاديٍّ أوّلاً، ومن منظورٍ سياسيٍّ ثانياً؟

 

– إنّ مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي هي من أهمّ وسائل تأثير الرأسماليّة الغربية في اقتصاد الدول النامية، التي ما تزال تعاني من سمات التّخلّف الاقتصادي، خاصّة في المجالات التكنولوجية الحديثة. فهي تعتمد على المعونات الخارجية بشكلٍ كبيرٍ لتأمين حاجياتها، وتخضع بالتالي إلى وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين المتكاملة. ومن المؤسف أن نرى بعض الاقتصادات العربية أو غير العربية تلجأ إليهما وتطبق وصفاتهما في غياب حلولٍ بديلةٍ، أو في رفضهم التوجّه نحو الصين بقدراتها الهائلة. لكن لا ننسى أنّ هناك العديد من الدول النامية التي تخرج تدريجيًا من نفوذ الصندوق والبنك وتتوجّه نحو الصين ومؤسّساتها التمويليّة والاستثماريّة.

 

 

المصدر : موقع المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى