
منذ أكثر من ربع قرن والعالم غارق في السؤال ذاته: كيف يتحول العربي والمسلم إلى إرهابي؟ كتب غربية وعربية، مقالات، روايات، دراسات، كلها تسعى لإقناعنا أننا أبناء الشر بالوراثة، وأن الدم العربي مشبع بالعنف، وأن التاريخ الذي نحمله هو وصمة قدرية لا فكاك منها. حتى الشمس الحارقة جرى اتهامها بأنها صانعة تطرفنا، وحتى شعر الفخر الذي صاغته القبائل صار مداناً بأنه أصل كل عنف لاحق. ومع كثافة هذا الضخ الإعلامي والفكري، وجد كثير من العرب أنفسهم يكررون خطاب الجلاد، يكتبون نصوصاً عن “إرهابنا” وكأنهم شهود زور على أنفسهم، وكأن السردية الغربية قدر مقدس لا يُرد.
لكن أين الكتب التي تسأل: كيف تحول الغربي، والأمريكي، والإسرائيلي إلى إرهابي؟ كيف تحولت قارات بأكملها إلى مسالخ تحت سيوف الاستعمار؟ كيف صار القصف النووي فناً عسكرياً مشروعاً؟ كيف تُحوَّل المدن إلى أنقاض ثم تُروى الحكاية على أنها ملحمة إنقاذ إنساني؟ لماذا تُرسم الثنائية الساذجة: ملائكة في الغرب وشياطين في الشرق، بينما الحقيقة أكثر تعقيداً وأكثر ظلماً؟
جان بودريار كتب بجرأة ما لا يريدون سماعه: نحن ـ الغرب ـ الذين أردنا أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإن نفذها آخرون، فنحن الذين أشعلنا النار. أما دريدا فقد سمّى الولايات المتحدة وحلفاءها “الدول المارقة”، لأنها تصنع الأكاذيب لتشن بها حروباً مدمرة، وتوزع الخراب باسم الحرية. وتشومسكي ذهب أبعد حين وصف الغرب بصانع الإرهاب الدولي، يرعى أنظمة مستبدة ما دامت “منضبطة”، ويهدم أخرى حين تتمرد على المصالح. كلماتهم قلبت المعادلة وأعادت طرح السؤال من الجهة التي يحاول الجميع تجاهلها.
غير أن الأخطر ليس في خطاب الجلاد، بل في الضحية التي تبنّت صورته عنها. لقد أصبح الضخ اليومي للتكرار الإعلامي أداةً لسلب الوعي. الضحية صارت ترى نفسها بعين قاتلها، وتشرح لنفسها كيف وُلدت إرهابية بالفطرة. إنه أشبه بما وصفه فرويد بتماهي الضحية مع جلادها، أو كما قالت هاريت توبمان حين أنقذت مئات العبيد: “أصعب ما واجهني أن أقنع العبد أنه ليس عبداً”. هذه هي المأساة: أن يصبح الإقناع بأننا بشر طبيعيين لا نحمل لعنة الإرهاب مهمة شبه مستحيلة.
الإرهاب ليس ابناً لعقيدة ولا لغة ولا تاريخ، بل ثمرة الظلم كما قال بودريار وأكده إدوارد سعيد. فمن الذي دمّر مدن أوروبا غير الحربين العالميتين بأيدي الأوروبيين أنفسهم؟ من الذي أباد شعوب القارة الأمريكية وحوّلها إلى أطلال؟ من الذي استعبد إفريقيا قروناً طويلة؟ من الذي أشعل فيتنام وأحرق هيروشيما وناغازاكي؟ أية يد عربية شاركت في ذلك؟ وأية راية إسلامية رُفعت فوق قارة لتتحول إلى مقبرة جماعية؟ نحن لم نغزُهم، بل هم الذين دخلوا أوطاننا، حطموا مدننا، سرقوا ثرواتنا، وأطلقوا علينا كل صفات الوحشية.
هكذا تصبح اللعبة أكثر خبثاً: الجلاد لم يعد ذاك الوحش ذي الأنياب كما في الأفلام، بل صار يتحدث عن الحرية والعدالة والحب وحقوق الإنسان. وحين يقتل، يقتل باسم الفضيلة، وحين يسرق، يسرق باسم القانون، وحين يدمّر، يدمّر باسم الإنسانية. هذا التقمص للأقنعة هو أخطر ما في الأمر، إذ يُغري الضحية بأن تصدّق أنها بالفعل “المذنبة”، وأن الجلاد مجرد معلم جاء ليؤدبها.
لكن التاريخ يكشف أن الضحية إن لم تتحصن بالوعي تتحول هي الأخرى إلى جلاد. اليهود مثال صارخ: من مضطهدين على يد هتلر كما يقولون، تحولوا إلى قتلة بلا رحمة في فلسطين. وفي العراق، بعد عقود من الدكتاتورية ثم الاحتلال، خرج الضحايا ليتحول بعضهم إلى وحوش جديدة بأسماء مختلفة، حتى صار العنف ثقافة يومية، والظلم بنية متوارثة، وكأن قدر هذه الأرض أن تنتج جلادين من بين جراح ضحاياها.
هنا تكمن المأساة الكبرى: أن تفقد العدالة حضورها، أن يُسحق الإنسان، أن يتراجع الوعي، فتذوب الحدود بين الضحية والجلاد، ويتحوّل كل جرح إلى سوط جديد. المعركة الحقيقية ليست معركة “الإرهاب” ضد “الديمقراطية”، بل معركة من أجل الحقيقة: أن نرفض صورة الجلاد عن أنفسنا، أن نستعيد وعينا، أن نقول للعبد إنه ليس عبداً، وأن نقول للضحية إنها ليست إرهابية.
لكن، هل تكفي الكلمات كي تنقذ روحاً غُسلت بعقود من التلقين؟ وهل يملك الوعي وحده أن يُوقف عجلة الظلم؟ ربما سيبقى السؤال معلّقاً، ينتظر من يجرؤ على كسره، كجرسٍ يتيم في ليلٍ طويل، يرنّ ولا يوقظ إلا من يملك شجاعة الاستيقاظ.