الأمطار في العراق تحمل معها الأمل والمشاعر المختلطة، فالبلد بحاجة ماسة إلى الموارد المائية بعد مواسم الجفاف. إلا أن فرحة المواطنين تتحول بسرعة إلى أزمة حقيقية مع سقوط الأمطار الغزيرة؛ إذ تواجه البلاد تحديات مستمرة بسبب ضعف البنية التحتية وتدهور نظام تصريف المياه، مما يتسبب بفيضانات تُغرق الأحياء وتقطع الطرق وتخلف وراءها خسائر بشرية ومادية.
يرتبط تاريخ العراق بارتباطه بالأمطار منذ العصور القديمة، فقد عرف العراق منذ العصر الحجري الحديث طقس الاستسقاء أو “استنزال المطر”، كما كشفت الآثار في مناطق شمال العراق. وكان للدعاء دور مهم كجزء من الثقافة السائدة في هذه المنطقة، حيث كان الناس يرون في المطر نعمة لا غنى عنها لاستدامة الحياة.
في الإسلام، جاءت لفظة “المطر” في القرآن الكريم بمواضع مختلفة، منها ما يشير إلى “رحمة” تُغيث الأرض وتجعلها تنبت، وأخرى جاءت كإشارة إلى “عذاب”. هذه الازدواجية تُبرز الطابع الثنائي للمطر: فهو رحمة أو نقمة بحسب الاستعدادات والبيئة التي يسقط فيها، كما أكد الباحث فالح مهدي الذي أشار إلى الفرق بين المطر والمياه في القرآن الكريم ، حيث ورد “المطر” 15 مرة، بينما ذكر الله “المياه التي تنزل من السماء” 63 مرة، وهو ما يوحي بتكرار الحاجة إلى المياه للحياة، وفي الوقت ذاته، يمكن أن يكون خطرا إذا لم يتوفر نظام تصريف مناسب.
تواجه المدن العراقية، مثل بغداد ومدن الجنوب، معضلة كبيرة كل عام مع سقوط الأمطار الغزيرة، حيث تبرز الفيضانات لتكشف هشاشة البنية التحتية. رغم صرف الحكومة لمبالغ ضخمة على مشاريع الجسور والمجسرات، إلا أن نظام الصرف الصحي وتصريف الأمطار ظل متخلفا، مما جعل من الصعب مواجهة الفيضانات المتكررة. ومع كل موسم أمطار، ترتفع الأصوات المطالبة بتحديث البنية التحتية ووضع خطط شاملة طويلة الأمد، لكن غياب الرؤية الواضحة وعدم توافق النظام السياسي على مشاريع ضخمة كهذه يؤدي إلى تكرار هذه الكوارث.
الحكومة دعت إلى إغاثة المتضررين جراء السيول، وهي خطوة ضرورية لتخفيف معاناة الناس، لكن معالجة الأضرار المؤقتة ليست كافية. إن الحاجة الأساسية تكمن في تأسيس بنية تحتية متينة تستطيع الصمود أمام تقلبات الطقس وتدفق الأمطار.
الأمطار تمثل رمزاً اجتماعياً وثقافياً مهماً لدى العراقيين، حتى أن الأطفال يغنون بها في الأناشيد الشعبية، مثل: “مطـر مطـر حلبي عبر بنات الچلبي”. ولكن واقع الحال يجعل هذه الأهازيج تنقلب إلى أزمات مؤلمة تبرز تدهور الشوارع وتجمع الأوحال وتفجر المجاري المتهالكة. المواطنون ينشرون صورا ومقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر غرق الشوارع وتعطل الحياة اليومية، كما يتضرر بشدة أصحاب البيوت المتهالكة في الأحياء الفقيرة، ممن يجدون أنفسهم في مواجهة خطر السيول، وهم يرسلون دعواتهم إلى الله طلباً للرحمة والنجاة.
أزمة الأمطار في العراق، كما هو الحال مع أزمات أخرى، تحتاج إلى حلول جذرية تستند إلى خطط تنفيذية محكمة، فالنموذج الحضري في الدول المتقدمة يقدم أمثلة كثيرة يمكن للعراق الاستفادة منها لتطوير بنية تحتية تستمر لعدة عقود. تحتاج البلاد إلى رؤية شاملة تتضمن تحسين شبكات التصريف، وتحديث الطرق، وتوسيع المجاري، وذلك لتجنب تكرار الأزمات مع كل موسم أمطار.
على الحكومة أن تُخصص موارد مالية كافية لمشاريع البنية التحتية الحيوية، وأن تعمل على تفعيل التعاون بين الوزارات والمؤسسات المعنية لتوفير حلول مستدامة. كما يقع على عاتق المواطنين دور في الحفاظ على نظافة الشوارع ومنع تراكم النفايات التي تؤدي إلى انسداد المجاري، مما يعزز من قدرة نظام الصرف على تصريف المياه بسهولة.
إن الأمطار، التي تعتبر في الأصل نعمة، تتحول في العراق إلى نقمة بسبب غياب التخطيط السليم وتردي البنية التحتية. في ظل هذه الظروف، يبقى العراق في حاجة ماسة إلى تحول حقيقي نحو تطوير بنيته الأساسية لتجنب تكرار الكوارث السنوية. تحتاج البلاد إلى جهود مشتركة بين الحكومة والشعب، وجهود سياسية تنظر إلى البنية التحتية على أنها ركن أساسي لتطور العراق وتحسين جودة الحياة فيه.