شؤون اقليميةمقالات

عقول معلّقة على الأسلاك

كتب رياض الفرطوسي

ذات زمن، كان الإنسان يتيه في الأزقّة، يحدّق في إشارات الطريق، يسأل الغرباء أو يستدلّ بنجمةٍ معلّقة في السماء. كان عقله يشتغل كقائد أوركسترا، يقيس المسافات، ويرسم خرائط وهمية في ذاكرته. وكانت الأخطاء جزءاً من الرحلة، وكانت المصادفات باباً إلى اكتشاف غير متوقّع.

ثم بدأت الأسلاك تتمدّد في حياتنا مثل عروقٍ خفيّة، حتى وُلد شيء اسمه «جي بي إس» يهمس لنا بالاتجاهات، ويصحّح مساراتنا. صار الطريق مُعبّداً أمام العيون، لا مفاجآت فيه، ولا التباس. أغلقنا على عقولنا الصناديق، وقلنا: لماذا نفكّر ونحن نملك آلة تفكّر بدلاً منّا؟

وقبل أن نفيق من هذا السحر، اندفع إلينا محرك البحث، يجرّ خلفه مكتبات العالم وأرشيفاته. صار علينا أن نسأل، لا أن نفتّش. لم تعد للمكتبات رائحة الورق، ولا لساعات البحث في المراجع ذلك المجد القديم. وصار العلم أقرب، لكنه صار أيضاً أقلّ طعماً.

لكن كل ما مضى كان مجرّد مقدمات لمخلوق أكبر. هكذا وصل إلينا الذكاء الاصطناعي. ليس كجهاز نضعه في الجيب، ولا كموقع نزوره عند الحاجة، بل ككائن جديد يمدّ يده ليشاركنا الكتابة والرسم والتفكير واتخاذ القرار.

بعض الناس استقبلوه مثل نبيّ جديد جاء ليخلّصهم من العناء. وبعضهم ارتعد من هيبته، وخاف أن يفقد البشر وظائفهم وعقولهم وربما وجودهم ذاته. لكن المفارقة أنّ الجميع انقاد إليه في النهاية، حتى الذين هاجموه. صاروا يجرّبونه، ويستشيرونه، ويطلبون منه كتابة رسالة أو صياغة قصيدة.

الذكاء الاصطناعي لم يكتفِ بالورق والأدب. دخل غرف الحرب. صار يحرّك طائرات بلا طيار، يضرب أهدافاً لا يعرف عنها سوى إحداثياتها. في ساحات القتال، لم تعد الأجساد البشرية وحدها التي تُراق دماؤها، بل صارت الآلات تنوب عن الإنسان في قتل الإنسان. في غزة، وفي أوكرانيا، وفي أماكن أخرى لا يعرفها الإعلام، يقف الذكاء الاصطناعي شاهراً سيفه الرقمي.

وامتدّت يده إلى الجامعات. طلابٌ صاروا يستعينون به ليكتب لهم أبحاثهم، والأساتذة يطلقون الصرخات محذّرين: إذا استمرّ الحال هكذا، فستنقلب الجامعات إلى مصانع تعليم استعمال الآلات، بدلاً من صنع العقول.

ولا ينجو الأدب من هذا الغزو. بعض الكتّاب سلّموا أقلامهم للذكاء الاصطناعي. تركوه يكتب لهم قصائد الحب، وفصول الروايات، حتى صار الحبر نفسه محض خوارزمية.

تقول الأرقام إن الذكاء الاصطناعي يجذب البشر أكثر من أي شيء مضى. أسئلتهم تتدفق إليه كأنه إله خفيّ يملك الإجابات كلها. في البيوت، في المكاتب، في المعامل، في ثكنات الجنود.

والسؤال الأكثر رعباً يهمس في الزوايا: هل سيصل يوم يقف فيه الذكاء الاصطناعي على المنابر، يخطب في المصلّين، يرفع الدعوات إلى السماء نيابة عن البشر؟ هل يصبح هو الوسيط بين أرواحنا وخالقها؟

الخبراء يرددون لازمة مطمئنة: لا خطر إن أحسنا استخدامه. لكن هذه الجملة نفسها قيلت عن النار، عن الذرّة، عن كل أداة صنعناها يوماً.

العقول المعلّقة على الأسلاك صارت مرتاحة. لم تعد تحبّ أن تتعب. لكن السؤال الذي يصرخ في أعماقنا: هل يليق بنا أن نودّع أعظم ما نملك؟ هل يليق بنا أن نترك العقل يصدأ خلف شاشات مضيئة؟

لسنا متأكدين من الإجابة. لكن المؤكد أننا في زمن لا يشبه ما عرفناه، وأن الأسلاك صارت أطول من عقولنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى