مقالات

رسالة إلى طالب ياسر وهو في منتبذه السماوي

كتب رياض الفرطوسي

أكتب إليك، وأنت في منتبذك السماوي، حيث لا ضجيج ولا تمثيل، حيث لا أخبار عن الخيبات، ولا تذاكر سفر إلى المنافي.

أكتبك كما يُكتب الحنين حين يتيه بلا وجهة، وكما يكتب القلب رسالته الأخيرة إلى من اختار الصمت الأبدي عن هذا الزمن الرديء…

في البلاد التي صار فيها الحيّ هو من يستحق الرثاء والبكاء، لا الميت الذي أفلت من قبضة الزمن الرديء، أجدني أكتب عنك يا ابا جعفر ، لا كما تُكتب المراثي في الصحف أو في بيانات الأحزاب أو فوق المنابر التي يعلو فيها صوت العويل، بل كما يكتب قلبٌ خسر ضلعاً من أضلعه.

أكتبك لأنك كنت أخي، وصديقي، ووطني الصغير الذي حملته معي في الغربة كحقيبة يد لا تفارقني، أفتش فيها عن وجه مألوف وسط الوجوه الغريبة، أو أتحسس منها رائحة ذكرياتنا في قرداغ حين كان الثوار يكتبون قصائدهم بالبندقية والثلج، أو أبحث فيها عن دفء بيت غادرناه مذ كنا شباباً نحلم أن الوطن أكبر من أن يبتلعه حاكم أو يسجنه قرار أو يخنقه حصار.

أكتبك يا طالب لأن الموت صار في بلادي أهون من حياة محشورة بين نفاق وزيف وأسواق تُباع فيها الذاكرة والأسماء واللغة والدين والوطن قطعة قطعة، مثل لحم يُفرم على طاولة الجزار.

رحلتَ، نعم، لكنك سبقتنا إلى موت ربما كان أهون من حياة من بقي هنا. أفلتّ من زمن صار فيه حتى القبر مُهدداً أن يتحوّل مبولة عمومية، أو مساحة تُبنى فوقها كافتريا لبيع الشاورما.

أفلتّ من زمن صار فيه لاعب كرة قدم أسطورةً، وعالم الاجتماع علي الوردي قبره مهدداً بالإهمال، ومن زمن يمشي فيه التاريخ على عكاز، بينما تركض التفاهة على أجنحة الضوء.

أعرف جيداً أن الموت ليس جريمة حين يكون موتاً طبيعياً، لكن في مجتمعنا قتلوا الموت نفسه، فصار كل موت جريمة، وكل جنازة مسرحاً للتمثيل، وكل خيمة عزاء سوقاً للتهريج والبكاء الطروب.

لهذا أكره أن أرثيك كأي ميت آخر. لأنك كنت حيّاً حتى وأنت في طريقك إلى الرحيل. كنتَ حيّاً حين أصررت أن تعود للعراق، كما يعود طائر النورس إلى الضفاف، أو عصفور إلى عشه القديم. قلت لي يومها: “الغربة طويلة يا أخي، أطول من الليل، وأضيق من تابوت”.

يا طالب، يا من كنتَ أهلي وأنا أهلك، كيف أرثيك وقد رحلتَ وفي قلبك كتابٌ لم يُكتب، وقصة لم تكتمل، وشتاء لم نعشه سوياً في بغداد، وليلٌ طويلٌ كنا نخطط فيه لغدٍ أجمل؟

أيها الولد الطليق، سلام عليك، ستبقى في قطار القصة والسرد، وستبقى قبعتك تموج بريشها الرقيق، وستجيء عندك الغزلان طوعاً، وتمنحك الحقول ما يليق بك من بهاء.

أتذكرك حين كنا نتكئ على أسوار دمشق، ونناقش كيف يُمكن أن يُصنع وطنٌ من كلمات، وكيف يمكن للقاص أن يكون حامل رسائل ، يحمل رسائلنا إلى الذين سبقونا. كنا نؤمن أن الموت ليس فناءً، بل رسالة يحملها الراحلون إلى الماضين قبلهم، ليخبرهم أننا ما زلنا نحاول.

تذكرت وأنا أكتبك، ذلك الشيخ الطاعن في السن، الذي هزج خلف جنازة قائلاً: “ها يا الرايح بلغ النايم… كلها تسلم عليك”. فحملتُ إليك سلاماتنا جميعاً. سلام الأحياء وسلام الأموات.

أعرف يا طالب أن موتك موجع، مثل أي موت آخر. لكننا في بلادنا تعلّمنا أن نفجع بأحبابنا سرّاً، ونبكيهم في عتمة الليل، لأن النهار هنا مشغول بالبكاء على أشياء أخرى: حلقة جديدة من مسلسل لا ينتهي، أو ظهور نجمة تستعرض ثيابها وأظافرها على الشاشات، أو خبر طلاق أحد المشاهير، أو فضيحة على وسائل التواصل، أو مباراة كرة قدم تتحوّل إلى معركة مصير، أو أغنية صاخبة تغرقنا في الزيف. هكذا صار حزننا مؤجَّلاً دائماً، مؤجَّلاً إلى الليل، حين لا يجد أحد وقتاً للبكاء إلا على من يستحقه حقاً.

صحيح أنك لم تكن نجماً في الملاعب، ولا صاحب هدف يهتف له الجمهور في مدرجات الرياضة، لكنك أحرزت أهدافك في مرمى العتمة، حين أشعلت كلماتك كقناديل تهدي التائهين في ليالي الغربة. كتبت قصصك كأنك ترسم درباً في العتمة، وخلّفت لنا أثراً يشبه الطريق لمن يجيئون بعدك. صحيح أنك لم تكن وجهاً تلفزيونياً أو اسماً يلمع في وسائل الإعلام، لكنك كنت أعمق حضوراً، وأصدق ضياءً، وأبقى أثراً في الوجدان.

رحلتَ يا صديقي، لكنك كنت دائماً تقول لي إن الإنسان لا يُقاس بطول حياته، بل بقدر ما يترك من أثر. والآن أفهم كلامك أكثر من أي وقت مضى.

نم هادئاً، أيها الغائب الحاضر.

سلام عليك في رحلتك الطويلة، وسلام على غيوم بغداد التي كانت تظللك، وسلام على بيروت التي شهدت هروبنا من الموت إلى الكتابة، وسلام على العراق الذي عدتَ إليه كطائر وجد ضفافه أخيراً، حتى لو كانت الضفاف تئنّ من الطين، ومن غدر الزمان، والعقوق، والهجران . سلام عليك يا طالب، أيها المسافر الذي قرر أخيراً أن يضع حقيبته ويخلد إلى الراحة.

أكتب لك هذه الرسالة، لا لأرثيك، بل لأحملك في قلبي كما كنت دائماً: أخي الذي لم يخذلني، وصوتي حين كنت أحتاج لمن يسمعني، وظلي حين كانت الغربة طويلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى