ثقافية

إشكاليات مفهوم الأعلميـة في ضوء وظائف المرجعية الشيعية

د. علي المؤمن

لا يزال مفهوم أعلمية مرجع التقليد هو المفهوم الموروث السائد في الحوزات العلمية، ويقصد به الأعلم في الفقه والأُصول أو الأقدر والأمهر في تطبيق القواعد الشرعية على الموضوعات في عملية الاستنباط؛ للتوصل إلى الحكم الشرعي، وهي أحكام الحلال والحرام، وقد عبّر عنها السيد الخوئي بقوله: «المراد بالأعلمية كون المجتهد أشدّ مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها، وأقوى استنباطاً، وأمتن استنتاجاً للأحكام عن مبادئها وأدلّتها، وهو يتوقّف على علمه بالقواعد والكبريات، وحسن سليقته في تطبيقها على صغرياتها، ولا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر»(1). وخلاصته أنّ الأعلم هو «الأعرف بالقواعد والأشدّ مهارة من غيره في تطبيقها على صغرياتها»(2). ويُقصد بالكبريات هنا القواعد الفقهية والأُصولية، أما صغرياتها فيعني موضوعاتها ومصاديقها. أي أنّ هذا التعريف يستند إلى موضوعة الفتوى وقاعدة الكفاءة العلمية الفتوائية، دون غيرها من وظائف المرجع الديني وشروط تقليده.

وقد وضع الفقهاء شرط الأعلمية للمرجع؛ ليكون شرطاً ترجيحياً تدبيرياً عقلائياً يفرز مرجع التقليد من بين عشرات الفقهاء، وتزداد أهميته كلما ازداد عدد المجتهدين وعدد من يطرحون أنفسهم مراجع للتقليد. وبما أنّ طبيعة النظام الاجتماعي الديني الشيعي تستدعي وجود رأس له يتزعم الشأن العام ورئاسة الحوزة العلمية دون غيره من الفقهاء والمراجع؛ فقد اقترن هذا الموقع الرأسي بأعلمية من يشغله. ويذهب الفقهاء القائلين بشرط أعلمية مرجع التقليد، إلى أن تقليد الأعلم هو مبنى عقلائي وخيار عقلائي بالدرجة الأساس، فضلاً عن وجود بعض الإشارات الشرعية النصية غير المتفق على دلالتها.

ومع سرعة التحولات الزمانية والمكانية ومتطلباتها، وتراكم الموضوعات والحاجات المجتمعية والتنظيمية، وانحصار خيار الأُمّة بتفعيل وظائف المرجعية الأُخر؛ أخذت تبرز إشكاليات وأسئلة موضوعية حول مفهوم الأعلمية ومبنى شرطيته ومعاييره المتجددة ووسائل إحرازه، وصلته بباقي شروط المرجعية، وهي إشكاليات تنسجم مع تزايد صعوبة إنتاج الفتوى والحكم الشرعي والإدارة الاجتماعية. ونقارب هذه الإشكاليات في إطار ستة محاور:

1ـ الإجماع على شرط الأعلمية وشرعيته:

لا يوجد إجماع بين الفقهاء على وجود مرجّح شرعي وعقلي لتقليد الأعلم، سواء وفق التعريف التقليدي للأعلمية، واللصيق بالفتوى ومسائل الحلال والحرام، أو وفق التعريف المتجدد المنفتح على قضايا العصر ومتطلباته. كما لا يوجد إجماع بين الفقهاء على كونه مبنى عقلائياً وضرروة عقلائية، وهو خلاف ما عدّه بعض علماء السلف من وجود إجماع بديهي على شرط الأعلمية، كما ذهب السيد المرتضى(3). أمّا الإمام الخميني فإنّه يرى بأنّ الأعلمية ليس بناء عقلائياً؛ بل إنّ اشتراطه من باب حسن الاحتياط أو الاحتياط الوجوبي(4).

وبالتالي؛ فإنّ عدم الإجماع على شرط الأعلمية في التقليد، وعدم الإجماع على وجود مرجحات شرعية وعقلية عليه؛ يجعله شرطاً تدبيرياً مرناً قابلاً للتعديل والتجديد، ويختلف عن شرطي الاجتهاد والعدالة الثابتين؛ بل إنّ من الفقهاء(5) من يربط بين مفهوم الأعلمية ومعايير الاجتهاد الجديد، ويرى بأنّ المعايير التقليدية لبلوغ الاجتهاد لم تعد وافية وكافية، ومن الأولى أن تسـري هذه المعايير على شرط الأعلمية أيضاً.

2ـ معايير الأعلمية ومواصفاتها:

بناءً على المفهوم السائد في الفقه الشيعي؛ فإنّ جميع الشيعة وعلمائهم ومجتهديهم يدخلون في ولاية المرجع الأعلم، أي أنّ الأعلم تكون له الولاية تلقائياً على الفتوى والحسبة والمال الشرعي والقضاء، وصولاً إلى قضايا الحكم، ولا تقتصر ولايته على الفتوى فقط. وهنا تنشأ المشكلة حين يكون هناك أكثر من مرجع يشهد أهل الخبرة بأعلميتهم، في زمان واحد ومكان واحد، كما هو الحال في قم والنجف، وحينها من سيدخل في ولاية من، ومن سيدخل في حكم من؟!

ونلاحظ على المستوى النظري أنّ الأعلمية وفق معاييرها التقليدية؛ تمنح صاحبها حق قيادة الأُمّة والتصرف في مصيرها وتولي شؤون النظام الاجتماعي الديني الشيعي بكل تفرعاته وتعقيداته. وهذه الصيرورة ـ بحد ذاتها ـ تتعارض مع المبنى العقلائي ومع معايير الاحتياط؛ إذ إنّ مبنى العقلاء ومبنى الاحتياط يقتضيان معايير أعم من معايير أعلمية الإفتاء أو الأعلمية الخاصة المتجزئة الموروثة التقليدية، وهي معايير الأعلمية الجامعة المطلوبة التي تنسجم مع الوظائف الأساسية الكثيرة والمتنوعة لمرجع التقليد، ومع المتطلبات الاجتماعية والحاجات العامة الواسعة والمتراكمة.

ولكن على المستوى العملي نرى ـ أحياناً ـ أنّ المرجع الذي يتقدم باقي المراجع في التقليد ويمسك بزمام قيادة الاجتماع الديني الشيعي، لا يكون هو الأعلم؛ بل إنّ هناك من هو أعلم منه فقهياً وفق المفهوم التقليدي للأعلمية، وحينها يدخل الأعلم في ولاية الأكفأ في الشأن العام، أو ما يعبر عنه «الأصلح». ولدينا عشرات الأمثلة التاريخية والمعاصرة التي تؤكد تنازل الأعلم أو من يرى في نفسه الأعلمية لمصلحة المرجع الأكفأ والأصلح؛ ليكون الأصلح هو المرجع الأعلى المتصدّي لزعامة الشأن العام. فإذا كان مناط الولاية هي الأعلمية؛ فكيف يجوز شرعاً لمن يعتقد في نفسه الأعلمية التنازل عن ولايته إلى مرجع لا يرى أنّه الأعلم؟ وهنا تبرز مفارقات بين الجانب النظري والجانب العملي، تتجسد في تقديم المصلحة العامة على المعيار الفقهي البحت.

ولطالما تحدّث بعض أهل الخبرة عن ضرورة تقديم «الأصلح» على «الأعلم» للمرجعية؛ فيقول ـ مثلاً ـ بأنّ مرجعية هذا الفقيه أو ذاك المرجع فيها مصلحة للإسلام والمذهب(6). ويأخذ هذا الصنف من أهل الخبرة معايير أُخر يراها أكثر أهمية، كمستوى التقوى والورع، والوعي العام، والكفاءة القيادية والقدرة الواقعية على رعاية الاجتماع الديني الشيعي. وهذه المرجحات التي تقدم مرجعاً على آخر، تعني أنّ المرجع الأعلم الحقيقي هو المرجع الأصلح من جميع الجوانب، وليس الأعلم في الجانب العلمي الفتوائي وحسب. أي أنّ الأعلمية هنا تتسع لجميع المساحات الموضوعية للأعلمية.

3ـ إحراز الأعلمية:

تعارفت الحوزة العلمية على عدد من الوسائل الأساسية لإحراز أعلمية مرجع التقليد، منها متفق عليها وأُخر غير متفق عليها، وقد ذكر الفقهاء منها وسيلتين:

الأُولى: شهادة أهل الخبرة ممثلين بمجتهدَين عادلَين مطلعَين اطلاعاً كاملاً على أحوال الفقهاء الأحياء ومستوياتهم العلمية.

والثانية: الشياع المفيد للعلم، وهو شياع العلماء تحديداً. وهناك وسائل أُخر غير متفق عليها، ولكن يتم العمل بها أحياناً، كشهادة الأعلم الميت قبل وفاته بالمرجع الأعلم من بعده، بناءً على قاعدة خبروية المجتهد، فضلاً عن أنّ هذه الشهادة ممنوحة من المرجع الأعلم قبل رحيله، فتكون حجة على من كان يقلده، وكذلك زعم عالم الدين نفسه بأنّه الأعلم، دون شهادة من أهل الخبرة؛ بل من منطلق كونه خبيراً أيضاً، ومن حقه أن يكون له رأي في تحديد الأعلم.

وهنا تثار مجموعة أسئلة على هذه الوسائل، أولها يتعلق بشهادة المرجع الأعلم قبل موته للمرجع اللاحق. هذه الشهادة ستكون مقتصـرة على أبناء مدرسة المرجع المتوفى وتلاميذه أو بعض زملائه، وقد يستطيع المرجع الأعلم السابق تشخيص من هو الأعلم والأورع بين تلاميذه وزملائه، ولكنه لن يستطيع تشخيص الأعلم من تلاميذ المراجع الآخرين أو المراجع الذين لم يزاملوه في الدراسة، ولا سيما الفقهاء الموجودين في حوزات أُخر وبلدان أُخر، بل نجد في بعض الجماعات الدينية المنظمة والخطوط المرجعية الخاصة أنّ المرجع المتوفى يوصي للمرجع الذي يليه من داخل خطه حصراً، في حالةٍ شبيهةٍ بالوراثة. وبالتالي لن تكون شهادة المرجع المتوفى حجة على المكلفين؛ لأنّها ليست شهادة شمولية مستوعبة لجميع المراجع والمجتهدين الموجودين.

وينطبق هذا الأمر على شهادة خبيرين مجتهدين بأعلمية المرجع؛ فهؤلاء الخبراء أيضاً لن يستطيعوا استيعاب جميع المراجع والفقهاء في تقويماتهم ونقدهم العلمي، لاسيما وأن كثيراً منهم بات يرجِّح المرجع الأصلح والأكفأ وليس الأعلم. وهنا سيكون الاختلاف على معايير المرجع الأصلح أكبر من الاختلاف على معايير المرجع الأعلم. فإذا قصـرنا الحديث على الجانب الموضوعي في الأصلحية؛ سنجد من الخبراء من يذهب إلى أن الأصلح هو الفقيه الأكثر زهداً وورعاً وتقوى، بينما يرى آخرون بأنّ الأصلح هو الأكثر وعياً بمصالح الناس، والأكثر إلماماً بالشأن العام، والأقدر على إدارة المجتمع الشيعي، وهناك من يرى بأنّ الأصلح هو الأكثر إنتاجاً من الناحية العلمية.

وبالتالي ستكون الأعلمية والأصلحية نسبية تماماً، ومعبرة عن وجهة نظر الخبير الشخصية وتوجهاته الفكرية والاجتماعية والفقهية. ومنها ـ مثلاً ـ أنّ المجتهد الذي يؤمن بولاية الفقيه العامة ربما لن يشهد بأعلمية وأصلحية مرجع التقليد الذي يؤمن بولاية الفقيه الخاصة، وأن الخبير من مدرسةٍ مرجعيةٍ بعينها، لن يشهد لمرجع من خارج مدرسته أو يعارض مدرسته، وإن كان هذا المرجع هو أعلم علماء دهره.

كما أنّ الاكتفاء بشهادتي خبيرين سيؤدي إلى التعارض المخل في آراء الخبراء، وتنازع الرأي العام الحوزوي، كما لا يزال يحدث؛ لأنّ أهل الخبرة في الحوزة العلمية، ومعهم طبقة الفضلاء (أساتذة السطوح العالية من غير المجتهدين)، هم الذين يصنعون الرأي العام الحوزوي وهم المسؤولون عن توجيهه. ونرى أنّ بعض هؤلاء الخبراء لا يعترف باجتهاد عالم دين معين، في حين يشهد خبير آخر لعالم الدين هذا بأنّه الأعلم، وليس مجتهداً وحسب. فضلاً عن أنّ هذه الشهادات الثنائية تقود إلى كثرة مراجع التقليد بصورة كبيرة. فإذا افترضنا وجود (500) مجتهد في الحوزات العلمية، يمثلون عماد الرأي العام الحوزوي، وشهد كل عشرة منهم ـ مثلاً ـ بأعلمية أحد المراجع؛ فسيكون هناك خمسون مرجع تقليد، كل منهم هو الأعلم بشهادات متعارضة من المجتهدين الخبراء.

أمّا طريقة الشياع كوسيلة لإثبات الأعلمية؛ فربما لم تعد طريقة عملية وواقعية مع وجود كل وسائل التأثير الإعلامي والمالي والسياسي وتطورها العجيب بمرور الزمان. وربما هي الطريقة الأكثر إثارة للشبهات في أجواء حراك جماعات المصالح والضغط الداخلية.

كما تثير شهادة المجتهد لنفسه بالأعلمية، إشكالات أُخر؛ إذ يطرح السؤال نفسه ابتداءً: هل تصح شهادة المجتهد لنفسه بأنّه هو الأعلم؟ بل هل تصح شهادة عالم الدين لنفسه بالاجتهاد؟ وكيف يستطيع المكلّف (الإنسان العادي) الذي لا يمتلك أدوات المعرفة العلمية ولا يمكنه التشخيص الحقيقي، أن يتوصل إلى أعلمية هذا المجتهد أو إلى اجتهاده أساساً؟ فإذا كان العقل الشرعي يقبل بهذه الطريقة، فإنّها تفتح الباب على مصراعيه على كل أنواع المزاعم والادعاءات، دون ضوابط ومعايير، خاصة إذا كان بعض مدعي الأعلمية لم يشهد له أي من المراجع والمجتهدين بالاجتهاد والفضل العلمي.

هذه الإشكاليات ربما تشير إلى صعوبة، وربما استحالة إحراز الأعلمية والتوصل إليها بالطرق السائدة. وإذا كان إحراز الأعلمية صعباً حتى في إطار التعريف الموروث؛ فكيف يمكن إحرازها ـ إذاً ـ وفق المعايير الجديدة الطموحة؟

ولكن ـ دون شك ـ فأنّ الإبقاء على الطرق الثلاثة التقليدية المذكورة المثبتة في المدونات الفقهية؛ يمثل حدوداً معينة مقبولة من الضبط، ووجودها أفضل بكثير من عدمها. لكنها تبقى دون مستوى الطموح الذي تمثله الشهادة الجماعية للخبراء بأعلمية وأصلحية المرجع الأعلى؛ أي من خلال طريق مجلس أهل الخبرة المنتخب من بين مجتهدي الحوزة العلمية العدول المقبولين اجتماعياً، والذي تحدثنا عنه وفصّلنا في هيكليته وأدواته فيما سبق.

ونلفت الانتباه هنا إلى أننا لا نتكلم عن براءة ذمة المكلف في تقليد هذا المرجع أو ذاك، فهذه البراءة موضوع في غاية السهولة؛ لكننا نتحدث عن موقع رئاسة الحوزة العلمية الدينية وزعامة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وولاية المجتمع، وهي أكبر وأهم بكثير من موضوعة براءة ذمة المكلف وحصوله على الفتوى؛ لأنّه موقع يرتبط بمصير مجموع الشيعة أفراداً ومجتمعات، وحياتهم وأعراضهم وأموالهم.

4ـ الأعلمية وشرط العدالة:

إنّ الأعلمية لا تصنع فقيهاً عادلاً متقياً، ولا الاجتهاد يبني فقيهاً ورعاً. وبما أنّ الاجتهاد الفقهي هي صنعة، شأنها شأن الطب والهندسة والقانون وعلم الاجتماع؛ فإنّ الأعلمية في علوم الكلام والقرآن والحديث والفقه والأُصول والرجال هي صنعة أيضاً؛ أي أنّها أمهرية علمية في الصنعة لا أكثر، ويمكن للمسيحي والبوذي والهندوسي أن يكونوا مجتهدين في الفقه الإسلامي؛ بل يستطيع الملحد أن يكون الأعلم المطلق في الفقه والأُصول والتفسير والدراية والرجال؛ لأنّ إمكانية التدرج حتى بلوغ الأعلمية المطلقة في الحوزة العلمية متاحة لأي إنسان؛ بصرف النظر عن إيديولوجيته ومذهبه ودينه. وهو يشبه قدرة الإنسان المؤمن على أن يكون الأمهر والأعلم في الطب. أي أنّ الأعلم في الفقه والأعلم في الطب يمكن أن يكونا ملحدين أو مؤمنين أو فاسقين؛ فكلاهما صنعة.

وهنا تأتي الضوابط والمعايير الرديفة لتقيّد حركة فرز مرجع التقليد؛ كمعيار الإيمان المذهبي، أي: أن يكون إماميّاً اثنا عشـرياً، ومعيار العدالة، أي: أن يكون متقياً زاهداً ورعاً، فضلاً عن المعايير المتجددة، وفي مقدمتها الكفاءة والمقبولية العامة. أي أنّ شرط الأعلمية لا يمكن فصله عن الشـروط الأُخر؛ بل إنّها جميعاً تمثل حزمة واحدة من الشروط.

5ـ الأعلمية وشرط الكفاءة:

إنّ توافر شرطي الأعلمية والعدالة في الفقيه لا يحوِّله إلى فقيهٍ كفء قادر على تشخيص مصلحة المجتمع والأُمّة، ووعي المصالح والمفاسد، وعلى حفظ النظام العام وإدارة الأُمور الحسبية والمال الشرعي، فضلاً عن قضايا الدولة. ولا تفرز الأعلمية والعدالة مرجعاً حكيماً شجاعاً مدبّراً عارفاً بزمانه وبمتطلبات عصره. ونشير هنا إلى أهم قضيتين تكشفان عن علاقة شرط الأعلمية بشرط الكفاءة، وأيهما يتقدم على الآخر عند تعارضهما، وهما: القدرة القيادية والوعي الكامل بمتطلبات الزمان.

والفرق بين الأعلم فتوائياً والأمهر قيادياً؛ كالفرق بين المفتي والمرجع؛ فالمفتي يبقى عمله منصباً على الجانب النظري، وينبغي أن يكون متميزاً في علمه وقدرته الفتوائية، أي أنّ مدخلية شرط الأعلمية في المفتي لها موضوعية وجوبية، في حين أنّ المرجع الديني لدى الشيعة يقود المجتمع عملياً من خلال الفتوى والحكم الشرعي، ويعزز موقعه القيادي والإرشادي والولائي من خلال الفتوى والحكم الشرعي أيضاً.

ولم يعد الواقع الشيعي كما كان قبل العام 1979؛ فمنذ ذلك التاريخ والواقع الشيعي يعيش عصر تحديات النهوض والصعود، وهو عصـر يختلف تماماً عن المسار الشيعي منذ أكثر من ثلاثة قرون من التراجع والتهميش. وقد بات الفقهاء الذين يمثلون قيادة هذا الواقع؛ في مواجهة تطورات العلوم الطبيعية والتطبيقية، ومواجهة منظومات معقدة في العلاقات الدولية والقوانين، وباتت مسؤولية الفقيه فاعلة تلقائياً بكل وظائفها الافتائية والتحكيمية والحسبية والولائية والإرشادية. وبالتالي؛ فإنّ كفاءة الوعي والحكمة والشجاعة والقيادة ستتقدم على الأعلمية النظرية السائدة، عند الترجيح بين الفقهاء لموقع المرجعية.

6ـ الأعلمية ووظائف المرجعية:

تتوقف النظرة إلى علاقة شرط الأعلمية بوظائف المرجعية الدينية الشيعية؛ على تعريف المرجعية، ومساحات ولايتها، والدور المطلوب منها. فالمرجعية الدينية كما توضح المدونات الفقهية الشيعية أصلها التشريعي؛ تمثل نيابة الإمام المعصوم في عصر غيبته، وأن المرجعية هي للفقيه العادل، ولهذا الفقيه ولاية من خمسة فروع: ولاية الفتوى، ولاية القضاء، ولاية الحسبة، ولاية المال الشرعي وولاية الحكم. وهناك إجماع بين الفقهاء على الفروع الأربعة الأُولى، ويختلفون في تشريع الولاية الخامسة (الحكم). وبالتالي؛ فإنّ بحثنا هنا يقتصـر على الوظائف الأربع التي يجمع عليها الفقهاء، ونترك وظيفة ولاية الحكم إلى بحوث لاحقة.

هذه الولايات الأربع المجمع عليها تشير بوضوح إلى وظائف المرجع الديني وطبيعة موقعه، ولا سيما المرجع الأعلى المتصدّي، وهي وظائف تتنوع بتنوع فروع ولايته. وتؤكد هذه الفروع بما لا يقبل الشك أنّ وظيفة المرجع لا تقتصر على الإفتاء؛ بل إنّ الفتوى هي واحدة من أربع أو خمس وظائف أساسية. وهذا يعني أنّ الأعلمية لا يمكن أن تقتصـر على الفتوى ومسائل الحلال والحرام؛ بل لا بدّ أن تنسجم مع كل هذه الوظائف والصلاحيات والولايات، وتلبي تنوعها، وأنّ المرجع يختلف عن المفتي اختلافاً ماهوياً. نعم، المرجع هو مفتي أيضاً؛ لكن الإفتاء يمثل 20% فقط من وظائفه. ومن خلال هذه الصلاحيات يتبين أنّ المرجع الديني عند الشيعة هو «الحاكم الشـرعي» وصاحب الولاية الاجتماعية والولاية التشريعية والولاية القضائية والولاية المالية وولاية الحكم، ومنصبه لا يشبه المفتي السني، الذي هو ـ عادة ـ موظف حكومي، ولا البابا الكاثوليكي، الذي يمارس دور الأُبوة الروحية المحضة؛ بل هو منصب يمثل الإمامة الدينية والدنيوية في عصـر غيبة النبي والإمام المعصوم. أي أنّ المرجع الديني هو ولي أمر المسلمين الشيعة وقائد النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وهو ما يصفه السيد محمد باقر الصدر بقوله: بأنّ «المجتهد المطلق إذا توفرت فيه سائر الشـروط الشرعية في مرجع التقليد… كانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين، شريطة أن يكون كفوءاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية معاً»(7).

وحتى في الجانب العبادي الفردي والجماعي التقليدي، فإنّ كثيراً من الأحكام الشرعية بحاجة إلى أُذونات الفقيه قبل تنفيذها من قبل المكلف، ومنها أحكام الخمس والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أي أنّ الفقيه يقوم بدور الولاية الشرعية المالية والحسبية والتحكيمية حتى في مجال الأحكام العبادية المحضة.

وإذا كان أغلب الفقهاء يشترطون الأعلمية في مرجع التقليد؛ فإنّهم يذهبون إلى أنّ الأعلمية لا تُشترط في وظائف الفقيه الأُخر، كالقضاء والحسبة والحكم؛ إذ إنّ شرط القيام بالوظائف المذكورة هي أن يكون الفقيه أعلماً في موضوعاتها ومتطلباتها، وأمهراً في أداء مهامها، وهو ما يلخصه الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب كتاب جواهر الكلام) بعدم اشتراط الأعلمية في باب القضاء والأُمور الولائية(8)، بل إنّ الإمام الخميني يُسقط مفهوم الأعلمية في الموضوعات على أصل الاجتهاد، ويذهب إلى أنّ معايير الاجتهاد السائدة لم تعد كافية، وأن من يمتلك القدرة على الاستنباط في الموضوعات التقليدية لا يُعدّ مجتهداً، فضلاً عن أن يكون أعلماً؛ فيقول: «إنّ الاجتهاد المصطلح في الحوزة غير كاف؛ فإذا كان هناك شخص هو الأعلم في العلوم المعهودة في الحوزة؛ لكنه لا يستطيع تشخيص مصالح المجتمع… ويفتقد الرؤية الصحيحة وقدرة اتخاذ القرار في المجالات الاجتماعية والسياسية؛ فهذا الشخص ليس مجتهداً في المسائل الاجتماعية والسياسية، ولا يستطيع قيادة المجتمع»(9).

ويعالج بعض الفقهاء هذا الجانب بطرح مفهوم المرجع الأصلح مقابل المرجع الأعلم كما ذكرنا، ويرى بأنّ الأصلح للسفارة والأعلم للإفتاء(10)، وهو تعبير عن أنّ أعلمية المرجع تقتصر على الفتوى في الجوانب التقليدية، أمّا وظائف الفقيه الأُخر، وهي الوظائف الأكبر حجماً ونوعاً، والتي لخصها بمصطلح «السفارة»؛ فهي بحاجة إلى المرجع الأصلح. ومفهوم «الأصلحية» هنا ينسجم مع الواقع من جهة، ومع المفهوم اللغوي للأعلمية من جهة أُخرى، وفق ما ورد في سنة رسول الله وأهل بيته، وكما في قول رسول الله: «ما ولّت أُمّة قط أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلّا لم یزل أمرهم یذهب سفالاً حتى يرجعوا ما تركوا»(11). ومعيار الأعلمية الذي يقصده رسول الله هنا ينسجم تماماً مع وظائف تولية الأُمّة وزعامتها، ولا يقتصر على الجانب العلمي الديني الفتوائي.

نخلص مما سبق إلى أنّ «الأصلحية» الواقعية هي تعبير دقيق عن الأعلمية الجامعة المطلوبة لمرجع التقليد، وهي الأعلمية الحقيقية التي تنسجم مع وظائف الفقيه الأربع أو الخمس المذكورة. أمّا الأعلمية المتجزئة التقليدية؛ فإنّها لم تعد تنسجم مع الواقع ومع تطورات العصـر ومتطلباته وتراكم موضوعاته. ويعضِد هذا التحول المفاهيمي الواقعي؛ التغيير النوعي والكبير في النظام الاجتماعي الديني الشيعي على الصعد كافة. فالشيعة في كثير من البلدان لم يعودوا يعيشون حالة التهميش والعزلة والتغييب عن الحكم والدولة والاقتصاد والثقافة والإعلام والشأن الدولي. أي أنّ ضرورات التحول المفاهيمي الواقعي لم تعد مقتصرة على ملاحقة الفقيه لقضايا الطب والفلك والرياضيات والفيزياء؛ بل إنّ ثلاثة أرباع هموم الشيعة وموضوعاتهم هي اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية وثقافية وإعلامية وعقدية، وهي موضوعات واقعية ميدانية أكثر من كونها نظرية، ولا تحتاج إلى فتاوى وتكييفات فقهية وحسب؛ بل إلى قيادة وزعامة وولاية؛ لتصحيح مسارها، وهي مهمة المرجع الأعلى حصراً. أمّا أبواب العبادات والعقود والإيقاعات والمعاملات، فتوافر أحكامها يسير جداً، ولم يكن مشكلة يوماً.

وعليه، فإنّ مفهوم الأعلمية المتجدد الذي يتطلبه الواقع، وينسجم مع وظائف المرجع، ينطوي على ثلاثة مفاهيم متفرعة، هي: «الأعلمية التقليدية»، و«الأصلحية الموضوعية»، و«الأقدرية القيادية». كما يترشح عن مفهوم الأعلمية المتجدد خمسة معايير متداخلة تكمّل بعضها:

  • أعلمية في مسائل الحلال والحرام.
  • أعلمية في الموضوعات، ولا سيما الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
  • أعلمية في فهم مقاصد الإسلام ونظامه العام.
  • أصلحية في وعي مصالح الأُمّة ومتطلبات نهوضها.
  • أقدرية على قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

شرط الكفاءة في المرجع الأعلى

ينعكس تأثير السمات الشخصية السلبية المتعلقة بالتكوين النفسـي للفقيه على ملكة التقوى والعدالة تلقائياً، وليس على توجيه مسار استنباط الفتوى وحسب، ولا سيما في القضايا المتعلقة بالنظام العام. فمن الصعوبة ـ مثلاً ـ اجتماع شرط العدالة وملكة التقوى مع صفات الجبن والاستبداد وضيق الصدر والبخل والحسد والتعصب، أو التسامح المفرط والسذاجة وقلة التدبير وضعف الشخصية؛ إذ ستكون العدالة والتقوى حينها مفهومان فضفاضان لا يكبحان جماح التأثيرات النفسية والشخصية للفقيه وانعكاساتها على «عدالة الفتوى» و«تقوى الحكم الشرعي». وبالتالي، فإنّ الفقاهة والأعلمية لا تخلقان ملكة التقوى ولا نزعة العدالة، كما أنّ الأعلمية والعدالة لا تمنحان الفقيه قوة الشخصية وحسن الإدارة والتدبير والحكمة.

ولذلك، تقود الحاجة إلى إضافة شرط أساس للمرجع الأعلى المتصدّي لزعامة الشأن العام، هو شرط الكفاءة. هذا الشرط الترجيحي ربما هو الأهم إطلاقاً في ترجيح فقيه على آخر لتبوُّء منصب القيادة المرجعية؛ بل مرجحاً على الأعلمية النسبية، أو ما يمكن تسميته «شبهة عدم الأعلمية». فإذا كان هناك ـ مثلاً ـ خمسة مراجع متقاربين في المستوى العلمي، وكان أحدهم مشتهراً بأعلميته، والآخر مشتهراً بكفاءته؛ فمن الأولى هنا ترجيح الأكفأ للتصدّي للمرجعية العليا، مع لحاظ الشرط الرابع: المقبولية العامة.

والكفاءة هنا تعني الصفات والمهارات والسمات الشخصية الذاتية التي مرّ ذكرها، والتي تجعل الفقيه أو المرجع المتصدّي يمتلك قدرة تشخيص المصالح والمفاسد، والقدرة العملية على الزعامة والتدبير في الشأن العام الاجتماعي والسياسي والثقافي والمعيشي، ومن بينها القضايا ذات العلاقة بالمجتمعات والدول التي يتواجد فيها الشيعة. ويمكن إجمال هذه السمات والصفات والمهارات بما يلي:

  • الحكمة ورجاحة العقل والاتزان المقترنة بالشجاعة.
  • الوعي الدقيق بالمحيط الاجتماعي والوطني والدولي، إلى مستوى القدرة العميقة على تشخيص المصالح والمفاسد على المستويين المحلي والعام.
  • قدرة الإدارة والقيادة والتدبير، بدءاً بالحاشية والمكتب الخاص ومؤسسة المرجعية والحوزة العلمية، وانتهاء بالمجتمع والشأن العام.
  • الثقافة العامة، ولا سيما في العلوم والمعارف المرتبطة بفتاوى الشأن العام وإدارته، كعلوم الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا والسياسة والقانون والاقتصاد.
  • نزعة استشارة أهل الاختصاص الحقيقيين في موضوعات الفتاوى والأحكام والشأن العام، سواء من علماء الحوزة أو غيرهم.

وتعقيباً على المهارة الخامسة السابقة، فإنّ جزءاً من مظاهر الحكمة وكفاءة الزعامة والتدبير؛ الاستعانة بأصحاب الاختصاص الحقيقي في تشخيص الموضوعات؛ كخبراء الاجتماع والسياسة والاقتصاد والنفس والإعلام والعلاقات الدولية والقانون والتعليم، فضلاً عن خبراء استحصال المعلومات وتحليلها، وليس الاقتصار على الخواص وأعضاء المكتب. وهنا تفرض آلية المشورة وجود مجلسين لأهل الخبرة في مؤسسة المرجعية، أحدهما ديني خاص بكبار علماء الحوزة، والمتمثل بمجلس أهل الخبرة الحوزوي الذي سبق أن تحدثنا عنه، والآخر مجلس مختلط يجمع بين علماء الحوزة والخبراء المدنيين في مختلف الاختصاصات. فضلاً عن وجود مراكز للدراسات وتحليل المعلومات فائقة التخصص خاصة بمنظومة المرجعية.

وأن يكون المجتهد أعلماً في العلوم الدينية؛ لا يعني أنّه كفوء في الجانب القيادي والإداري، أو أنّه يمتلك وعياً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، أو أنّه حكيم؛ لأنّ العلم الديني والاجتهاد والفقاهة والأعلمية في الشـريعة لا تخلق من صاحبها قائداً أو مثقفاً أو واعياً في المجالات الحياتية الاجتماعية أو شجاعاً وحكيماً. في حين أنّ الكفاءة القيادية وقابلية التدبير والوعي الاجتماعي والحكمة والشجاعة هي معايير القائد الحقيقي، أي أنّ هذه الشروط هي التي تجعل من الفقيه قائداً دينياً، وليس تبحره في قواعد الاستنباط وتطبيقها على موضوعاتها وحسب.

إنّ السمات والمواصفات الكاشفة عن الكفاءة، والتي تفرضها طبيعة وظائف المنصب، وإن كانت نسبية وليست مطلقة؛ هي سمات ترجيحية، ومن يكشفها هو مجلس أهل الخبرة الذي تمت الإشارة إليه سابقاً. وهذا الترجيح يشبه ما يقوم به مجلس خبراء القيادة في إيران، والذي يكشف عن توافر شروط العدالة والكفاءة المساوقين لوظائف الولي الفقيه. وهذا هو السبيل الواقعي الحسي الوحيد، أو ما يسمونه «الحكم الظاهري»(12) الذي يبذل البشـر المتخصصون جهدهم من أجل الوصول إليه. أما حقيقة العدالة والتقوى والكفاءة والأعلمية، فلا يعلمها إلّا الله.

وتحتاج الإدارة التخصصية بكل أشكالها إلى كفاءة إدارية تنسجم مع طبيعة الوظيفة، إلى جانب الاختصاص، بدءاً بمدير المستشفى ومدير المشـروع الهندسي وانتهاء برئيس الجامعة ووزير الصحة والولي الفقيه، وإن كان تطبيقها عملياً يتم بصورة نسبية؛ لكنها ـ في الحد الأدنى ـ مثبتة في القوانين الإدارية عادة. أما المنصب الوحيد الذي لم يوضع له شرط الكفاءة المساوقة لطبيعة الوظيفة، ولا يؤخذ بنظر الاعتبار؛ هو منصب مرجعية التقليد؛ في حين أنها كإدارة دينية اجتماعية؛ تعد أخطر أنواع الإدارة وأكثرها حاجة إلى الكفاءة الإدارية والقيادية.

وربما تتضاءل أهمية شرط الكفاءة في المرجعية الدينية في إيران؛ بالنظر لوجود الولي الفقيه الحاكم، والذي يقوم بالأدوار الاجتماعية والسياسية والرعوية للمرجعية. بينما يزداد هذا الشـرط أهميةً في النجف؛ لأنّ مرجعية النجف تتفرد بقيادة الاجتماع الديني والثقافي والسياسي الشيعي، ليس في العراق وحسب؛ بل تشترك مع الولي الفقيه ومراجع آخرين في قيادة الواقع الشيعي في بلدان التواجد الشيعي الأُخر.

قد ينظوي مبدأ ولاية الفقيه العامة على مقومات النجاح بالأساس، إلّا أنّ عناصر نجاح تطبيق المبدأ في إيران، والتطور الشامل الذي حازه هذا البلد لا تقتصر على المقومات الخاصة بالمبدأ؛ بل يعود إلى مجموعة عناصر موضوعية متكاملة أُخر، أهمها:

  • شخصية الإمام الخميني وكفاءته القيادية المتفردة، ومن بعده الكفاءة القيادية للسيد الخامنئي.
  • وجود خبرة تراكمية سياسية اجتماعية عامة؛ أي توافر عنصـر الحيوية والتفاعل بالأساس في الاجتماع السياسي الشيعي الإيراني.
  • وجود إيديولوجية شعبية موحدة تمثل الناظم الموحد للشعب، وهو المذهب الشيعي الذي يعتنقه ما يقرب من 85% من الشعب الإيراني.

وهي عناصر ربما يصعب توافرها في بلد آخر، وكأنّ مبدأ ولاية الفقيه العامة مفصّل على مقاس إيران وشعبها، وربما لو تم تطبيقه في بلد آخر يفتقر إلى الكفاءة القيادية المرجعية، والاجتماع الديني والسياسي المتفاعل، والناظم الإيديولوجي الموحد لأغلبية الشعب؛ لفشل المبدأ في التطبيق، كما فشلت ـ مثلاً ـ الديمقراطية الليبرالية فشلاً ذريعاً في عراق ما بعد 2003، بسبب عدم توافر الشروط الموضوعية لتطبيقها.

شرط المقبولية العامة في المرجع الأعلى

شرط المقبولية العامة في المرجع الأعلى من الشروط الأساسية المطلوبة، والتي يطمح إليها کل من يريد تسنّم موقع المرجعية، والتي تعمل بصورة مقننة على تحويل ولاية المرجع المتصدّي في الحسبة العامة أو الحكم، من ولاية بالقوة إلى ولاية بالفعل؛ أي من ولاية كامنة إلى ولاية ظاهرة فاعلة. ومن خلال قبول الجمهور الشيعي لهذا المرجع أو ذاك بأن يكون هو الراعي والمرشد والزعيم في قضاياه العامة؛ فإنّ الجمهور يعمل على تفعيل ولاية المرجع وزعامته ليكون هو المرجع الأعلى المتصدّي.

ويتحقق شرط المقبولية العامة من خلال ثلاث وسائل:

  • اختيار المرجع المتصدّي للولاية والزعامة والشأن العام من مجلس أهل الخبرة الحوزوي، وهو المجلس الذي يحظى أساساً بالمقبولية العامة وفق آليات تحدثنا عنها سابقاً، أو اختيار الفقيه المتصدّي من مجلس أهل الخبرة المنتخب شعبياً بالنسبة للولي الفقيه الحاكم، وهو المعروف في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ مثالاً ـ بـ «مجلس خبراء القيادة»(13).
  • رجوع أغلبية المؤمنين في التقليد إلى مرجع بعينه. هذا الرجوع يمثل بذاته مقبولية عامة، على أن يكون هذا المرجع أحد مرشحي مجلس أهل الخبرة، أو المرجع الأعلى الذي اختاره مجلس أهل الخبرة.
  • التأييد الشعبي الذي يتمظهر في تنفيذ توجيهات المرجع وفتاويه في الشأن العام من الجمهور.

وفي كل واحدة من هذه الوسائل، وعلاقتها ببعضها، تفاصيل كثيرة، سنتناولها في بحوث تكميلية لاحقة. ويتوضح هنا وجود ثلاث حالات لتفعيل ولاية المجتهد:

  • الحالة العادية المتوارثة: وهي حالة عدم وجود دولة إسلامية شيعية قائمة على مبدأ ولاية الفقيه العامة. وهنا يختار أهل الخبرة المرجع المتصدّي، ويتبعهم توجه الجمهور نحو هذا المرجع تقليداً وولاءً وتنفيذاً لقراراته وتوجيهاته. وهذا هو الحاصل في النجف غالباً، وكذا في قم قبل تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية.
  • حالة الحراك الجماهيري العام أو الثوري: وهي حالة استثنائية، وتتجسد في إعلان الفقيه أو المرجع عن حراك عام ضد حالة سياسية أو اجتماعية معينة، ومثالها أنظمة الحكم والاحتلال الأجنبي. وفي حال تبعته أغلبية الجمهور بمرور الوقت، ونفذت أوامره وتوجيهاته؛ فهذا يمثل بيعة عامة أو مقبولية عامة؛ على أن لا يتعارض ذلك مع قرار أهل الخبرة. وهو الذي حصل في إيران خلال ثورة المشروطة (1906 إلى 1910)، والثورة الإسلامية (1978 وما بعدها)، وثورة العشرين في العراق (1920).
  • حالة الدولة: ويقصد بها الدولة الإسلامية الشيعية، التي يقوم فيها مجلس أهل الخبرة المنتخب شعبياً بانتخاب الفقيه المتصدّي أو الولي الفقيه الحاكم. وهو الحاصل في إيران حالياً.

ولعل أول من طرح شرط المقبولية العامة في المرجع المتصدّي أو الولي الفقيه هو السيد محمد باقر الصدر، الذي يعبِّر عن هذه المقبولية بتكامل ولاية الأُمّة وولاية الفقيه، إذ أطلق على الولاية الأُولى تسمية «خلافة الأُمّة»؛ باعتبار الخلافة الممنوحة للإنسان على الأرض، وأسمى الولاية الثانية «شهادة الفقيه»؛ باعتبار نيابة الفقيه العامة عن الإمام المعصوم. ومن خلال اختيار الأُمّة لفقيه بعينه سيلتقي خط الخلافة بخط الشهادة، ويكون هذا الفقيه حينها مجسّداً للخطين. ويشترط الشهيد الصدر في الولي الفقيه أن يكون مرجعاً دينياً، ومرشحاً من قبل مجلس المرجعية (أهل الحل والعقد)، ومنتخَباً من قبل الأُمّة (في حال تعدد المرجعيات المتكافئة المرشحة)(14). وتقف هذه الأُطروحة على أربع قواعد شرعية:

  • لا ولاية بالأصل إلّا للَّه تعالى.
  • النيابة العامة عن الإمام المعصوم هي للمجتهد المطلق العادل الكفوء، وهو مصدر الولاية الممنوحة للفقيه، بمعنى القيمومة على تطبيق الشـريعة، وحق الإشراف الكامل على المجتمع والدولة.
  • الخلافة العامة للأُمّة على أساس قاعدة الشورى، وهي التي تمنحها حق ممارسة أُمورها بنفسها ضمن إطار الإشراف والرقابة الدستورية من قبل نائب الإمام (المرجع المتصدّي أو الولي الفقيه).
  • فكرة أهل الحل والعقد، التي طبقت في الحياة الإسلامية، والتي تؤدي بتطويرها على النحو الذي ينسجم مع قاعدة الشورى وقاعدة الإشراف الدستوري من قبل نائب الإمام إلى افتراض مجلس يمثل الأُمّة (مجلس الشورى)، وينبثق عنه بالانتخاب(15).

وهنا يتحدث السيد محمد باقر الصدر عن الحالة الثالثة، أي حالة تفعيل ولاية المجتهد المتصدّي في ظل وجود الدولة الإسلامية القائمة على مبدأ ولاية الفقيه العامة. ولكن يمكن الاستفادة من هذه الأُطروحة أيضاً في الحالة العادية المتوارثة، أي حالة عدم وجود الدولة وعدم وجود حراك نهضوي عام. وهو ما أشار إليه السيد الصدر أيضاً في أُطروحته «المرجعية الرشيدة».

ويجمع فقهاء الإمامية على أنّ النصب المباشر للولاية هو من الله (تعالى)، كما في حالة النبي والأئمة الاثني عشر، ولا تنعقد الإمامة لغير المنصوب إلهياً مع وجوده والتمكن منه. أمّا في حال غياب المعصوم، فإنّ الفقيه يقوم مقام الإمام في قيادة الأُمّة، وفق النصوص الشرعية، أي أنّ الفقيه العادل منصوب بصفاته من الإمام المعصوم(16)، وأنّ ولايته شرّعها الحديث الشـريف(17). وهنا نذكر الرأيين الفقهيين الأساسيين بشأن دور قبول الأُمّة في منح الشرعية للفقيه:

الأول: يقول بأنّ انتخاب الناس ليس له أثر في تعيين الفقيه للقيادة، ولا علاقة لجمهور المؤمنين بإنشاء هذه الولاية بالأصل. ولكن بما أنّ لكل الفقهاء العدول هذه الولاية، فلا بدّ من إيجاد صيغة تحدد الفقيه المتصدّي، أي المرجع الذي يقوم بمهام قيادة المجتمع أو الحكم، وتكون له الولاية الفعلية دون غيره من الفقهاء، وهو تدبير عقلائي؛ إذ لا بدّ للمجتمع أو الدولة من قائد أو مرشد أو مدير واحد، وإلّا سينهار المجتمع تلقائياً بوجود أكثر من قائد وولي ومدير. أي أنّ دور الجمهور أو الأُمّة ينحصر في اختيار أحد هؤلاء الفقهاء، سواء اختياراً مباشراً أو عبر مجلس أهل الخبرة، دون أن يكون لهذا الدور أثر في منح الشرعية للفقيه المتصدّي أو الحاكم. وبذلك تكون المقبولية العامة مجرد أداة لتفعيل الولاية والقيادة.

الثاني: يعتقد بأنّ للأُمّة حق اختيار ولي أمرها ورئيسها وقائدها الشرعي من بين من عينهم المعصوم تعييناً نوعياً في زمان غيبته. أي أنّ اختيار الأُمّة ليس اختياراً مفتوحاً ومطلقاً، بل تقوم الأُمّة باختيار قائدها ووليها الشرعي من بين الأشخاص الذين تتوافر فيهم شروط الولاية ومواصفاتها، وفي مقدمتها الاجتهاد والعدالة والفقاهة. وبهذا الاختيار تنعقد الولاية للفقيه الذي قبلت الأُمّة بقيادته. وهنا لا يكون دور الأُمّة مجرد تفعيل للولاية، بل إنّها تشارك في منح الشرعية للفقيه المتصدّي(18). فشـرعية الولاية هنا مشتركة بين النص الشرعي الذي يمنح الولاية لكل الفقهاء وبين اختيار الأُمّة التي تمارس دورها في الخلافة، وتفوضه لواحد من هؤلاء الفقهاء.

وسواء كانت المقبولية العامة شريكة في منح الشـرعية لولاية المرجع المتصدّي، أو أداةً لتفعيل الولاية من خلال ترجيح فقيه على آخر؛ فإنّ النتيجة واحدة، وتتمثل في ضرورة المقبولية العامة كشـرط من شروط المرجعية المتصدّية، وأنّ قيادة الأُمّة الشرعية تتمثل في الفقيه الجامع لشـروط المرجعية والولاية حصراً. وبالتالي؛ فإن الخلاف بين الرأيين الفقهيين المذكورين هو خلاف نظري بحت، ولا يترتب عليه أي أثر واقعي.

سيكولوجيا الفقيه

تؤثر البنية السيكولوجية للشخصية تلقائياً في قراراتها، أياً كان موقعها، وأنّ تكوينها النفسي والأُسري والاجتماعي يؤثر تأثيراً مباشراً في هذه القرارات. وتزداد حساسية التكوين السيكولوجي وخطورته لدى الفقيه أكثر من غيره من الشخصيات العامة؛ لأنّها تتحول تلقائياً إلى مساهم في صناعة الخطاب الديني، سواء في الفتاوى أو في أحكام الحسبة والشأن السياسي؛ أي أنّ ذاتيات الفقيه تؤثر تأثيراً مباشراً في إنشاء قرار الفتوى قبل النظر في الأدلة الشـرعية، وتحديداً في قضايا الشأن العام، ثم يسخِّر الفقيه الأدلة الشرعية لتسويغ فتواه أو رؤيته الشجاعة أو الجبانة أو الحكيمة أو الجريئة أو المحافظة. والخطورة هنا تكمن في أنّ نوازع الفقيه الذاتية ستتحول عبر الفتوى والحكم الشـرعي إلى خطاب شرعي، أي إلى دين، بينما تتضاءل هذه الخطورة في قرار الزعيم السياسي، والقائد العسكري والوجيه الاجتماعي.

وعناصر التكوين السايكولوجي والسوسيولوجي للفقيه لا يتم استحضارها وصناعتها؛ بل هي حاضرة ومؤثرة تلقائياً. أي أنّ الفقيه خلال عملية الاستنباط واتخاذ القرار يتأثر تلقائياً بسمات شخصيته؛ لأنّها جزء أساس من تكوينه النفسي وأساليب تفكيره وميولاته الذاتية.

وهناك مداخل علمية كثيرة يمكن من خلالها دراسة العناصر الخارجية المؤثرة في إنشاء الفقيه للفتوى والحكم الشرعي، أهمها علم نفس الشخصية(19). وليس المقصود هنا مصادر الاستنباط وأدلته وعناصره الداخلية، وليست الموضوعات أو عناصر تشخيصها؛ بل العناصر التي تساهم في التوجيه النفسي للفقيه خلال عملية الاستنباط أو اتخاذ القرار العام، والتي تشكل «شخصية الفقيه». وأهم ثلاثة عناصر مكونة لهذه الشخصية:

  • التكوين النفسي للفقيه، والذي تصنعه صفاته الوراثية البيولوجية وتربيته الأسرية.
  • التكوين الاجتماعي للفقيه، والذي تصنعه بيئته الاجتماعية وزمانه ومكانه.
  • القبليات المعرفية الأساسية، والتي تعبر عن النزعات الإدراكية الذاتية.

وفي شخصية الفقيه تتمظهر السمات الخاصة التي تميز كل فقيه عن غيره من الفقهاء، وانعكاس هذا التميز على فتوى كل منهم، أو بكلمة أُخرى: الصفات والاتجاهات والميول والمهارات والخبرات والاستجابات الثابتة في الشخصية، وأخلاقها وسلوكها الخارجي ومزاجها، والمؤثرات النفسية والعاطفية والوجدانية في أساليب تفكيرها(20)، والتي تساهم بمجموعها في توجيه الفقيه ذاتياً نحو مضمون الخطاب الشرعي والقرار الاجتماعي والسياسي.

كما ينعكس تغير الزمان والمكان على وعي الفقيه بالموضوع، ويستتبع ذلك تغييراً في فتواه حيال الموضوع نفسه. أي أنّ تغير وعي الفقيه بالموضوع من خلال تغير الزمان والمكان سيؤدي إلى تغيير الفتوى والحكم الشـرعي لزاماً، وهو ما يمكن تسميته بـ «بيئة الفتوى» أو «ظرف الفتوى».

وأهم فروع علم النفس التي تدرس تأثير العناصر المكونة لشخصية الفقيه: علم نفس الشخصية وعلم النفس التربوي وعلم النفس المعرفي أو الإدراكي. كما يدرس علم الاجتماع التكوين الاجتماعي للشخصية وتأثير سماتها الاجتماعية على قراراتها وميولها(21). ومن المخرجات الموضوعية لهذه المداخل العلمية، ما يمكن أن نصطلح عليه «ذاتيات الفقيه»، أو «سيكولوجيا الفقيه» و«سوسيولوجيا الفتوى»، أو «علم نفس الفقيه» و«علم اجتماع الفتوى». أما موضوعنا هنا فينحصر في مدخلية علم النفس، أو ما أصطلحنا عليه «سيكولوجيا الفقيه».

حين يبلغ الإنسان مرحلة الشباب تكون شخصيته قد اكتملت تقريباً من الناحية النفسية والتربوية والاجتماعية. أي أنّ الشخص الذي يدخل الحوزة بعد سن الثامنة عشرة؛ فإنّه يكون حاملاً لسمات شخصيته النهائية تقريباً. لذلك؛ لا يمكن تغيير البنية النفسية للشخصية وسماتها الأساسية داخل الحوزة من جديد، إلّا بالحدود الدنيا. أي أنّ طالب الحوزة العلمية لا يختلف عن أي إنسان آخر في توصيفات سمات الشخصية وأساليب تكوينها وتمظهراتها. فمن الممكن أن يكون الطالب الحوزوي قوي الشخصية أو يكون ضعيف الشخصية أساساً، وقد يتمتع بشخصية جاذبة آسرة أو شخصية منفِّرة طاردة، وقد يكون فعالاً منظماً أو لا مبالياً، منفتحاً حيوياً أو انطوائياً منعزلاً متحفظاً، حساساً قلقاً أو مطمئناً واثقاً، نبيهاً فطناً أو بسيط التفكير ساذجاً، حكيماً عاقلاً متزناً كيساً أو أرعناً أحمقاً متسرعاً، كريماً جواداً أو بخيلاً، شجاعاً جريئاً أو جباناً متردداً، مديراً مدبِّراً ذا نزوع قيادي أو فاقداً لملكة التدبير والإدارة والقيادة، يتمتع بالوعي العام والذكاء الاجتماعي أو غبياً اجتماعياً، حسوداً حقوداً لئيماً فضاً غليظاً أو طيب القلب كريم النفس جميل الأخلاق، مستبداً برأيه ومتعصباً أو يؤمن بالمشورة ومتسامحاً، حسن الظن بالآخرين أو شكاكاً سيء الظن، معافى من أي مرض نفسي أو يعاني من التوتر والعُصَاب والكآبة وغيرها.

هذه الملكات والمهارات والخصوصيات الشخصية والنفسية للإنسان، لا علاقة لها بالموقع الاجتماعي والسياسي أو القدرة المالية أو المستوى العلمي، ولا يمكن للموقع، أياً كان، أن يعيد تركيب الملكات الشخصية والنفسية، إلّا ما ندر، فقد يبلغ الإنسان أعلى مراتب العلم والمعرفة، لكنه لا يتمتع بالوعي والذكاء الاجتماعي، ولا يكون كريماً، ولا شجاعاً، ولا حكيماً، ولا يمتلك القدرة على الإدارة والتدبير والزعامة، ولا يكون قوي الشخصية.

وتزداد أهمية هذه الملكات ومدخليتها وخطورتها، كلما اقترب الشخص من المناصب ذات العلاقة بالشأن العام، كمنصب رئيس الدولة أو الزعيم الديني والسياسي والحزبي والاجتماعي. وبالتالي، تنعكس الملكات الشخصية على أحكامه وقراراته وسلوكه، وتجعل من نجاحه نجاحاً للجميع، ومن فشله انتكاسة للجميع.

ويدخل موقع الفقيه، وتحديداً الولي الفقيه والمرجع الأعلى ضمن المواقع التي تلعب الملكات الشخصية والتكوين النفسي لمن يشغلها، دوراً أساسياً في صناعة الواقع العام؛ لأنّ المرجع ليس مجرد مفتي يقدم الحلول الشرعية النظرية المحضة للأفراد في مجال العبادات والعقود والإيقاعات والمعاملات؛ بل هو زعيم ديني اجتماعي، يمتلك الولاية على الحسبة العامة والنظام المجتمعي.

وينعكس التكوين الشخصي والنفسي للفقيه ـ بشكل وآخر ـ على مسارات توصله إلى الفتوى والحكم الشرعي والقرار ذي العلاقة بالشأن العام. ولا نقول إنّه العنصر الأساس؛ بل هو أحد العناصر الدافعة باتجاه مضمون الفتوى والحكم الشرعي. ولهذه الفتوى أو الحكم أو القرار ـ كما أسلفنا ـ علاقة مباشرة بمصير مجموع المكلفين وأعراضهم ودمائهم وأموالهم؛ بل بمصير الأُمّة. أي أنّ خطورة سايكولوجيا الفقيه تتكرّس في القرارات ذات العلاقة بقضايا الأُمّة والمجتمعات الشيعية في مختلف البلدان وأُمور الحسبة العامة، كأساليب مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية، والتعامل مع التحديات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والمعيشية وغيرها. أما انعكاساتها على جوانب العبادات والمعاملات الفردية وعموم الشؤون الشخصية للمكلفين؛ فإنّه ليس بالأمر المهم أو المصيري.

ولا يقتصر تأثير سمات شخصية الفقيه وسيكولوجيته على الفتوى وتسخير الأدلة الشرعية لتوجيه مسار استنباط الفتوى وتسويغ قرار الفتوى السابق على النظر في الأدلة وحسب؛ بل يمتد التأثير إلى ميزان عدالة الفقيه وتقواه أيضاً؛ إذ إنّ سيكولوجيا الفقيه وسمات شخصيته هما اللتان تفرزان تلقائيا مستوى العدالة والتقوى، وحجم القدرة الإدارية والقيادية، ومستوى الوعي والحكمة والكاريزما. ومن الصعوبة اجتماع ملكة العدالة مع صفات مثل الجبن والاستبداد وضيق الصدر والبخل والحسد والتعصب والتهور، أو التسامح المفرط والسذاجة وقلة التدبير وضعف الشخصية؛ إذ تكون العدالة في هذه الحالة مجرد مفهوم فضفاض لا يكبح جماح التأثيرات النفسية والشخصية للفقيه وانعكاساتها على عدالة الفتوى. وبالتالي؛ فإنّ الفقاهة والأعلمية لا تخلقان عند الفقيه ملكة التقوى ولا نزعة العدالة، كما أنّ الأعلمية والتقوى لا تخلقان عنده قوة الشخصية وحسن الإدارة والتدبير والحكمة.

أمّا إذا كان الفقيه شجاعاً مجبولاً بشكل ذاتي على مجابهة التحديات العامة؛ فإنّ تعاطيه مع القواعد والأدلة الشرعية، يتجه ـ عادة ـ نحو إنتاج فتوى شجاعة؛ أي أنّه يكون ميالاً تلقائياً وفي عقله الباطن نحو الأدلة التي تنتج هذا اللون من الفتوى؛ فيسخِّرها في خدمة الفتوى التي يستبطنها عقله، وإذا اتصف الفقيه بالحكمة ورجاحة العقل والاتزان؛ أُضيفت إلى الفتوى الشجاعة جرعات أساسية من الحكمة والعقلانية والتوازن، وإذا كان هذا الفقيه يتمتع أيضاً بالوعي الدقيق بالمحيط الاجتماعي وبالفهم العميق بالوضع العام والقدرة على تشخيص المصالح والمفاسد؛ فستكون الفتوى الشجاعة الحكيمة مستوعبةً لمصالح المذهب والمجتمع والبلاد بدقة، وإذا كان الفقيه المتصدّي يتمتع بكل تلك الصفات، إضافة إلى صفة التدبير والقيادة؛ فستتحول الفتوى الشجاعة الحكيمة الواعية المستوعبة للمصلحة العامة إلى خارطة طريق عملية يشرف المرجع الديني على حسن تنفيذها بنفسه. وتصل الفتوى في الشأن العام إلى ذروة تمتعها بعناصر الصحة والانطباق مع مقاصد الشـريعة ومصالح الناس، عندما يكون الفقيه مؤمناً باستشارة أهل الاختصاص الحقيقيين في موضوع الفتوى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

([1]) السيد أبو القاسم الخوئي، «التنقيح في شرح العروة الوثقى»، تقريرات بقلم: الشيخ علي الغروي التبريزي، ج۱، ص۲۰۳.

(2) المصدر السابق، ص204.

(3) الشريف المرتضى علم الهدی علي بن الحسين، «الذريعة إلى أُصول الشريعة»، ج٢، ص٦٣٥.

(4) الإمام الخميني، «الاجتهاد والتقليد»، تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر الإمام الخميني، مؤسسة العروج، ص80.

(5) وفي مقدمهم الإمام الخميني وأغلب الفقهاء من تلاميذه. أُنظر: «صحيفه إمام» (فارسي)، ج21، ص177 ـ 178.

(6) أحد الفقهاء الذين نظّروا لمفهوم «الأصلح»؛ الشيخ عبد الهادي الفضلي. يقول: «الالتزام بنظريّة الأعلم في التقليد من حيث العمل والتطبيق فيها شيء غير قليل من الوقوع في العُسـر والحَرج للاختلاف في مفهوم الأعلم، وشبه استحالة المقارنة بين جميع المجتهدين المتعاصرين لتعيين مَن هو الأعلم، وتعارض البيّنات دائماً من غير وجود مرجِّح في تحديد من هو الأعلم. كما أنّ السيرة العمليّة التي كان عليها أتباع أهل البيت في الرجوع إلى الفقهاء الذين كانوا في عصرهم، والذين أمر وأرشد أئمّتُنا الأطهار بالرجوع إليهم كانوا يتفاوتون في مستوياتهم العلميّة، كذلك ما في روايات التقليد من شموليّة للأعلم وغيره». عبد الهادي الفضلي، «ماذا لو توحدت المرجعية والقيادة»، مجلة شعائر، العدد 13، أيار 2011، ص25.

(7) محمد باقر الصدر، «الفتاوى الواضحة»، ص115.

(8)  الشيخ محمد حسن النجفي، «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام»، ج40، ص11 ـ 27.

(9) «صحيفه إمام»، ج21، ص177 – 178.

(10) المراد من السفارة هنا القيادة والإدارة وتدبير العلاقات مع الجهات خارج النظام الديني، وهو ما يقتضي الكفاءة القيادية والإدارية، وليس الأعلمية الفقهية. أمّا الإفتاء الذي يحدد مسائل الحرام والحلال، فإنّ مهمته موكولة إلى الأفقه والأعلم بالشريعة.

(11) المجلسي، «بحار الأنوار»، ج١٠، ص١٤٣.

(12) محمد باقر الصدر، «دروس في علم الأُصول»، ج2، ص165 ـ 168.

(13) دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المواد: 99، 107، 108 و177.

(14) محمد باقر الصدر، «لمحة فقهية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية»، و«الإسلام يقود الحياة»، ص13و14.

(15) المصدر السابق، ص16 ـ 17.

(16) أي ليس تعييناً شخصياً بالاسم، أُنظر: الشهيد محمد باقر الصدر، «الإسلام يقود الحياة»، ص146.

(17) راجع الفصل الثالث من هذا الكتاب.

(18) أُنظر: علي المؤمن، «النظام السياسي الإسلامي الحديث»، ص147 ـ 152، و«الفقه والدستور»، ص289 ـ 305.

(19) أُنظر: لورانس أ برافين، «علم الشخصية». د. حلمي المليجي، «علم نفس الشخصية». كامل محمد عويضة، «علم نفس الشخصية».

(20) المصادر السابقة.

(21) أُنظر: انتوني غدنز، «علم الاجتماع»، ترجمة د. فايز الصباغ. محمد حامد يوسف، «علم الاجتماع: النشأة والمجالات». د. عبد الباسط عبد المعطي، «اتجاهات نظرية في علم الاجتماع»، ميشيل مان، «موسوعة العلوم الاجتماعية»، ترجمة: عادل الهواري وسعد مصلوح.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى