عراقيةمقالات

في الانتخابات ؛ لماذا تخلّى أبناءُ القبائل عن شيوخهم؟

قاسم الغراوي كاتب وصحفي

لم يكن سقوط عشرات شيوخ العشائر في انتخابات 2025 حدثاً عابراً، بل علامة فارقة على تغيّر اجتماعي عميق يجتاح البنية التقليدية للمجتمع العراقي. فالعشيرة التي كان يُفترض أنها “كتلة صلبة” في صناديق الاقتراع، تحوّلت فجأة إلى مجتمع سائل بالمعنى الذي قدّمه زيغمونت باومان: مجتمع تتفكك فيه الروابط التقليدية أمام صعود الفردانية، الاستهلاك، والمصلحة المباشرة.

هل هو تمرد ؟
جزء من الصورة نعم. فالكثير من أبناء العشائر، خاصة الشباب، لم يعودوا يرون في شيخ عشيرتهم “ممثلاً طبيعياً” لهم. ولم يعد الخطاب الأبوي نافذاً كما كان، ولم تعد الهيبة الرمزية تُلزم الناس بقرار جماعي موحّد.
ظهر تمرّد صامت، غير معلن، مارسه الناخب عندما دخل إلى المعزل وترك “الكليشة العشائرية” خلفه.

في المجتمع السائل، لا يصوّت الفرد للرمز، بل لمن يظن أن بإمكانه أن يمنحه شيئاً ملموساً : فرصة، وظيفة، خدمة، حماية، مشروع، أو حتى خطاباً قريباً من اهتماماته.
الناخب العراقي بات يدرك أن:
الشيخ يحصل على الامتيازات بعد الفوز وأما أبناء العشيرة فلا ينالون إلا الوعود

ففي بيئة اقتصادية ضاغطة، أصبح السؤال الحاسم: “ما الذي سأربحه أنا؟”
وليس: “ما الذي سيربحه شيخ العشيرة؟”

ولذلك انحاز الناخب إلى المرشَّح الذي قد يوفّر خدمة أو يملك نفوذاً داخل الدولة، وليس فقط وجاهة اجتماعية.

في الانتخابات السابقة، كانت بعض العشائر تصوّت بنمط قريب من الكتلة الواحدة.
أما الآن، فبرز ما يلي:
تفكك القرار وانقسام العائلة الواحدة بين أكثر من مرشح وتراجع نفوذ “الوجهاء التقليديين” كذلك صعود قيادات محلية جديدة لا تمتلك لقب “شيخ” لكنها تمتلك شبكة خدمات أو علاقات.
لقد هُزم الشيخ أمام المرشح الموظف، والمدير، والناشط، والشيخ الآخر الأكثر نفوذاً .

هذا التراجع ليس سياسياً فقط، بل ثقافي.
فالهوية العشائرية التي كانت تُعد معياراً للاختيار السياسي، أصبحت ـ في المدن خصوصاً ـ معياراً ثانوياً .
تحوّل الناخب من “عضو جماعة” إلى “فرد يبحث عن فرصة”.
إنّه التحوّل الجوهري الذي وصفه باومان:
الروابط السائلة تحلّ محل الروابط الصلبة.

الشيوخ الخاسرون ليسوا مجرد أسماء
وبسقوطهم في الانتخابات يُظهر أن:
سلطة العشيرة لم تعد قادرة على ضمان الفوز والوجاهة الاجتماعية لا تعني بالضرورة وجاهة سياسية واما الصندوق بات أقوى من العرف والناخب لم يعد يشتغل على مبدأ “ننتخب شيخنا مهما كان”
بل “مَن يخدم مصلحتنا الآن؟”

ولهذا خسر الشيوخ… ونجح آخرون ربما أقل وزناً اجتماعياً ، ولكنهم أكثر براغماتية ونفوذا .

ما جرى هو مزيج من:
-تمرّد شبابي صامت
-انصهار في مجتمع سائل استهلاكي
-تفكك الروابط التقليدية
-صعود المصلحة الفردية على حساب الولاء القبلي.
-نهاية احتكار العشيرة للصوت الانتخابي.
إنها ليست خسارة شيوخ فقط…
بل خسارة نموذج اجتماعي كان يُظن أنه ثابت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى