شؤون اقليميةعراقية

الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 والتوافقية السياسية

بقلم - د . محمد البطاط

بعد إفشال مشروع الانتفاضة الشعبانية كونها نابعة من العمق الشيعي لمحافظات الوسط والجنوب، وبعد السنين العجاف لحكم الطاغية المقبور، وإرهاصات الحصار الاقتصادي الامريكي على العراق، هذا الحصار الذي كان شعاراً مخادعاً ضد النظام السياسي العراقي بينما هو في حقيقته عقوبة جماعية ضد الشعب العراقي لا النظام، بعد كل هذا أدرك الامريكيون ان ورقة صدام حسين لم تعد قادرة على جلب المنافع وخدمة المشروع الامريكي التقسيمي للعراق والمنطقة، لذا قرروا اسقاط الطاغية وحكمه الجاثم على صدور العراقيين، فشكلوا تحالفاً تتزعمه امريكا لاحتلال العراق بعيداً عن الشرعية الدولية للامم المتحدة، وكانت مسألة وقت ليس الا وإنهار الطاغية وأزلامه، وراحوا يلوذون بالفرار؛ فبيتهم السلطوي أوهن من بيت العنكبوت طالما أنه بلا شرعية دينية ولا انتخابات او مقبولية الشعب، وقد كانت لحظة الاحتلال الامريكي للعراق بداية لانتقال الاستراتيجية الأمريكية الى حالة من التسارع والتعجل في تطبيق المشروع التقسيمي، وقد بينا سابقاً ان الاخير ينطلق من العراق، الامر الذي أجبر الأمريكيين على الدخول للعراق واقامة القواعد الأمريكية وتاسيس العملية السياسية الجديدة القائمة على التوافق السياسي.

 

عمد الامريكيون الى تأسيس حالة سياسية جديدة لعراق ما بعد 2003 قائمة على التوافق الثلاثي للحكم (شيعي –سني –كردي) بالاضافة الى اشراك شكلي الى حد ما للاقليات الاخرى، هذه الحالة التوافقية بدأت بمجلس الحكم الانتقالي مروراً بالتقسيمات الثلاثية للسلطات في العراق بشكل يقترب من الانموذج اللبناني، إذ صار منصب رئاسة الوزراء للشيعة لكونهم يمثلون الاغلبية السكانية في العراق، أما رئاسة الجهورية فكانت من نصيب الكرد، في حين راحت رئاسة البرلمان للسنة، والامر نفسه ينطبق على التقسيمات الفرعية من وزراء ووكلاء ومدراء عامين في مختلف مفاصل الدولة وتفرعاتها، وهذا يكشف ان التوازن السياسي في خضم الحالة التوافقية جعل الترسيمة السياسية شراكة بين مختلف مكونات النسيج العراقي، ولم يكن الشيعة وحدهم الحاكمين في عراق ما بعد 2003، غير ان الارادة الأمريكية والمرتبطين بها من العراقيين، بل وبعض من صار عندهم شبهة في تصور الامور على حقيقتها، راحوا يروجون ان العراق الجديد هو العراق الشيعي (الاسلامي)، وان كل الاخفاقات التي حصلت وتحصل تعبر عن نتاج لاخفاق الشيعة الاسلاميين في ادارة الدولة.

 

وقد لعب الخبث السياسي المدعوم بوسائل الاعلام المغرضة دوراً في سبيل تعميق هذه الرؤية المشوهة عن الشيعة ودورهم السياسي؛ بغية تحميلهم إخفاق وفشل إشترك فيه الجميع من شيعة وسنة وكرد وسائر الاقليات الاخرى، والحق ان هذا الفشل جاء نتاج لفعل يتحمله المشتركون في العملية السياسية (كلٌ بحسبه)، دون ان يعني ذلك إنحصاره في المكون الشيعي، صحيحٌ ان الشيعة يمثلون الاغلبية، وان الاسلاميين منهم تمكنوا من تسنم رئاسة مجلس الوزراء لقرابة العقد ونصف من الزمن، بيد ان هذا لا يعني تحميلهم وحدهم ما حصل، مع  التأكيد على فكرة جوهرية هنا تتمثل في أن كلامنا هنا لا يعني تبريراً لاحد، ولا تنزيهاً لأي سياسي مارس الفساد المالي او الاداري، إذ يتحمل الفاسدون مسؤولية ما آلت اليه الامور بمختلف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية، بالاضافة الى الدور السلبي للتدخلات الخارجية في الشأن العراقي، خصوصاً التدخلات الأمريكية والسعودية وغيرها في إيصال العراق الى حالته الراهنة.

 

وعلينا الاشارة الى حقيقة اساسية تتمثل في ان الأمريكيين كانوا يعتقدون ان المعاناة الكبيرة التي تجرعها الشيعة جراء سياسات الطاغية صدام ستجعلهم آخر من يفكر في مقاومة الحتلال الأمريكي، وانهم سيضعون ايديهم بأيد الأمريكيين بوصفهم الترياق المنقذ من سموم الاستبداد والطغيان، لكن الامور سارت عكس ما تهوى التصورات الأمريكية، إذ كان الشيعة من أوائل الذين تعاملوا مع القوات الأمريكية بوصفها قوات احتلال عليها ان تخرج من العراق بشكل فوري، وتم تشكيل الحركات والفصائل الاسلامية المقاومة التي حملت لواء مقاومة هذا الاحتلال مذيقة إياه أشد الضربات الموجعة، بشكل سرّع في عملية خروجهم المنهزم من العراق عام 2011م.

 

ولم يكن الخروج الأمريكي المُذل من العراق بالأمر اليسير على الأمريكيين، إذ راحوا يخططون لتوظيف القوة الناعمة والصلبة على حد سواء بغية إنفاذ وتطبيق مشروعهم التقسيمي للعراق والمنطقة، فعلى مستوى الحرب الناعمة مر معنا سابقاً ما قدمته مؤسسة راند القريبة من مراكز صنع القرار الامريكي من دراسات وتوصيات بخصوص العمل على تغيير القناعات والسلوكيات لبعض العراقيين، وكان من ابرزها ما كتبته شيريل بينارد وفريقها بالاضافة الى توظيف وسائل التواصل الاجتماعي والدورات والورش والسفرات التي تقيمها جهات تابعة الى التوجه الامريكي، اما على مستوى القوة الصلبة فكان المخطط يقتضي العودة العكسية لهذه القوة، ونعني بالعكسية توظيف ورقة الارهاب من جديد، وهو ما سيتحقق بعد ثلاث سنين من خلال التنظيم الارهابي داعش، اذ انتقلت الذريعة الامريكية من قتال العراقيين الى قتال التنظيمات الارهابية التي تحارب العراقيين، وفي الحالتين هي نفس الرغبة الامريكية في البقاء في العراق واقامة القواعد العسكرية الدائمة لها فيه.

 

ان الانسحاب الامريكي من العراق، وعلى الرغم من الخيبات التي تعتري المشهد السياسي العراقي والفساد المستشري في مختلف مفاصل الدولة مالياً وادراياً، الا انه شكل بداية الانعتاق العراقي من حالة الاحتلال والتبعية للانموذج الامريكي، كان الشيعةُ هنا لاعباً وفاعلاً اساسياً على مختلف الاصعدة، من جهة كانوا قطب الرحى في عجلة المقاومة العراقية التي ارغمت الامريكيين على جر ذيول الهزيمة، ومرغمة اياهم على الانسحاب، حتى ان التسريبات السياسية التي كُشفت بعد ذلك، تمثلت في ان المفاوض السياسي العراقي كان يعتمد على ورقة المقاومة الاسلامية المسلحة في تحصيل اقرب موعد للانسحاب الامريكي من العراق إبّان المفاوضات العراقية –الامريكية التي انطوت على وضع اتفاقيات وجدول للانسحاب الامريكي، ومن جهة اخرى، كان للشيعة دور سياسي بارز بوصفهم العماد الاجتماعي-السياسي الاكبر ضمن الترسيمة السكانية للعراق، فضلاً عن الدور المحوري والركائزي للمرجعية الدينية الشيعية في النجف الاشرف التي لعبت وتعلب دوراً اساسياً في حلحلة الامور المستعصية والعقد السياسية منذ ما يربو على الالف عام، وتضاعف هذا الدور عقب تنفس الشيعة الصعداء في عراق ما بعد 2003، كل هذا لم يرق للادارة الامريكية الساعية الى العودة للعراق باي طريقة كانت، وبالفعل تم العمل والتحشيد على اعادة العراق الى الدوامة الارهابية القذرة والمندفعة بفتاوى التكفير والتشدد، وتم الاعداد والتنظيم لاستيلاء تنظيم داعش الارهابي على ما يقارب ثلث الجغرافية العراقية في حزيران عام 2014م، بشكل جعل العالم يرزح تحت وطأةٍ من الذهول والصدمة تجاه مأساوية الفعل الارهابي ونتاجاته الوخيمة، وما فعله هذا التنظيم الارهابي من قتل وتعذيب وتشريد للمواطنين الامنين، فضلاً عن الجريمة الكبرى “مجزرة سبايكر” التي راح ضحيتها بين 1700 الى 1900 شاب عراقي في مقتبل حياته تم ذبحهم وقتلهم بدم بارد، وسط ترحيبٍ من بعض الخونة للدين والوطن.

 

وكالعادة، يأتي دور الشيعة ليقوموا بما اعتادوا عليه من التضحية والاستبسال دفاعاً عن المقدسات والارض والعِرض، وكالعادة ايضاً يأتي دور النجف الاشرف بوصفها الصخرة التي تتحطم فوقها كل مشاريع الارهاب والاحتلال والتقسيم وأي فعل يُراد له ومنه المساس بوحدة العراق وسيادته، فصدرت الفتوى المباركة من سماحة المرجع الاعلى السيد علي السيستاني (دام ظله الوارف) التي حثت العراقيين على الجهاد الكفائي ذوداً عن العراق ضد اقسى ارهابيي العالم واشدهم، فهب العراقيون أفواجاً ملبين نداء المرجعية الدينية بشكل فاجئ العالم بشجاعة الشيعة ومديات استعدادهم للتضحية والفداء، ومستوى تعلقهم وانقيادهم لمرجعيتهم الدينية، وكان من أوائل الملبين لنداء الجهاد هم خَدَمة المواكب الحسينية الذين تشربوا عشق التضحية والفداء من الامام الحسين (ع)، وكذلك ابطال المقاومة الاسلامية الذين تمرسوا الجهاد ضد الاحتلال والارهاب منذ عام 2003، وهكذا توالى الملبون على اختلاف صنوفهم وشرائحهم، وبعد ذلك جرى ترتيب المتعلقات الادارية بهذه الجحافل المجاهدة وتأسيس هيئة جديدة عُرفت ب”هيئة الحشد الشعبي” ترتبط برئاسة الوزراء العراقية.

 

ولعل من الاهمية بمكان طرح السؤال الاتي: لماذا يحتاج شعب من الشعوب المسلمة الى فتوى من مرجعيته الدينية للدفاع عن المقدسات والارض والارواح ونحن نعلم ان  الجهاد الدفاعي لا يحتاج الى فتوى أو مأذونية دينية بخلاف الجهاد الابتدائي؟

 

وعلى الرغم مما ينطوي عليه السؤال من مشروعية معرفية الا ان الاجابة عليه تتمثل في أن ثمة خصوصية للشعب للعراقي في تعاطيه مع المسألة الدينية بطريقة تغاير سواه من الشعوب، وهو ما سيكشف عن مخرج مهم لانسداد الإشكالية المطروحة بهذا الصدد، إذ أن العراقيين يتعاملون مع الدين من خلال منفذ المرجعية الدينية بالشكل الذي يجعلهم يعانقوا المتعلقات الدينية بمختلف تشكلاتها بالمؤسسة الدينية، وهذا الأمر ليس وليد اليوم، بقدر ما هو وليد قرون من السلوك الجمعي الذي أشبع الوعي بترسيخاته المتكررة، وبدورها المؤسسة الدينية سعت الى تعميق هذه العلاقة عبر التأكيد للشعب على أن “لا تقولوا قولاً أو تفعلوا فعلاً إلا بعد مراجعة الحوزة العلمية الشريفة” وما يزيد من توضيح وبيان الموضوع أن من طبيعة الفرد العراقي انه حتى وإن لم يكن ملتزماً دينياً في سلوكه اليومي، إلا انه في القضايا العامة تجده مستعداً للجهاد وللتضحية عبر انتظار الضوء الأخضر من قبل زعامته الدينية، فالقيم الدينية في العراق مترسخة داخل الشخصية العراقية بفعل متوالية تصاعدية تمركزت عبر قرونٍ مديدة.

 

وهكذا إذن نكون أمام صورة شعب تعانقت فيه الهوية الوطنية بالهوية الدينية، بل أنه أضحى لا يتحرك في كثير من القضايا العامة والحرجة حتى ينتظر رأي المرجعية الدينية في هذه القضية وعداها، وهكذا ينكشف أحد الأسباب الركيزة التي دفعت السيد علي السيستاني الى أن يُصدر فتواه داعياً العراقيين الى جهادٍ كفائي

 

وهنا ستنقلب عناصر المعادلة بشكل كلي، وستتحول معادلة مسك والارض وقواعد الاشتباك بشكل جذري، وستنقلب كل التوقعات التي راهن الكثيرون فيها على ان بقاء دولة الارهاب الداعشي في العراق سيكون طويلاً، بيد ان ما حصل خلاف هذه التوقعات المتشائمة، إذ شكل الحشد الشعبي متغيراً اساسياً في مجريات الامور، وتمت عملية تحرير الاراضي ومسكها بعجالة فاقت كل التصورات والتوقعات، ولعل العنصر “العقائدي” ألقى بظلاله في هذا السياق، فالقتال المتأسس على الرؤية العقائدية تعطي دافعاً استبسالياً للمقاتلين في إطار محورية “الشهادة” التي عشّقها الامام الحسين (عليه السلام) وصحبه الاطهار في عاشوراء داخل الوعي الشيعي بشكل جعل الشباب يندفعون بسرعة صاروخية ذوداً عما يؤمنون به، ولا ننسى الإشادة هنا بالدور الايجابي الذي قامت به الجمهورية الاسلامية الايرانية في العراق بدعمها الكبير للعراق في حربه ضد داعش، لا سيما التنسيق العالي الذي حصل بين الشهيدين أبي مهدي المهندس والجنرال قاسم سليماني (رحمهما الله تعالى).

 

وعلى الرغم من كل المحاولات التي ارادت ان تشوه سمعة المقاتلين في الحشد الشعبي خلال معارك التحرير، الا انهم واصلوا الدفاع والعمل المنضبط بشكل عام، لان الغاية الكبرى هي التحرير المنشود حتى آخر شبر من أرض العراق، وبالفعل تحقق ذلك، ولم يكد ينتهي عام 2017 حتى أعلن رئيس الوزراء العراقي وقتها حيدر العبادي اعلان النصر النهائي والكامل على تنظيم داعش الارهابي وتحرير كامل الجغرافية العراقية من دنس الارهاب والتكفير، وإفشال المشاريع الخبيثة التي تقبع خلف الفعل الاجرامي لداعش وتحركاته.

 

إن الضربة القاصمة التي وُجهَت للاستراتيجية التقسيمية للعراق، والتي تم بيانها وشرحها في ما سبق، أن هذه الاستراتيجية كانت تعتقد ان الشيعة العراقيين سيكتفون بالمسارعة في حماية مدنهم في وسط وجنوب العراق، ولن يتحركوا صوب المحافظات والمدن التي يقطنها السنة، هذا الامر الذي لا يفكر الشيعة فيه أبداً، فالمعيارية المذهبية داخل المجتمع العراقي، وإن كانت تطفو على السطح عبر بعض المسامات، الا انها غير مترسخة او متجذرة في العقل الجمعي العراقي بشكل عام، والعقل الجمعي الشيعي بشكل خاص، وهذا يكشف ان الشيعة المدافعين عن العراق لاحقوا داعش الارهابي شبراً شبراً في كل أرض عراقية دون اخذ مذهبية المدن والمحافظات في نظر الاعتبار، كيف لا وهم المنطلقون بفتوى الجهاد التي اطلقها المرجع الذي يردد عن أهل السنة بأنهم “أنفسنا السنة”.

 

ولا يفوتنا الاشارة الى ان التخطيط الامريكي كان يركز على توظيف داعش لانجاح المشروع التقسيمي للشرق الاوسط المنطلق من العراق، إذ ان سيطرة داعش على الثلث العراقي الذي تقطنه الاغلبية السنية، مع لحاظ الوضع الفيدالي “الخاص” لاقليم كردستان”، وعزل المناطق الشيعية التي اعتقد الامريكيون ان الشيعة سيحمونها فقط، عندها سنكون امام تقسيم ثلاثي للعراق “دويلة كردستان” و “دويلة الشيعة” و”دويلة السنة”، وهكذا يتحقق مشروع تقسيم العراق، والانطلاق الى الدول الاخرى في المنطقة لاكمال المشروع التقسيمي الذي تم الاعداد والتخطيط له منذ  عقود من الزمن، غير ان عمليات التحرير التي شاركت فيها القوات العراقية بمختلف صنوفها، لاسيما الحشد الشعبي الذي مثَل الحصان الاسود للرهان الناجح للتحرير، أفشلت المشروع الامريكي للتقسيم، وبذلك يكون نجاح الشيعة في الحفاظ على وحدة العراق وسيادته هو نجاح، في الوقت عينه، في الحفاظ على وحدة دول منطقة الشرق الاوسط من التقسيم؛ لأن هذا المشروع مخطط له ان ينطلق من العراق لا ان يتوقف عنده.

 

وطالما ان الانتصار العراقي على قوى الارهاب والتكفير، ومن يقبع خلفها مخططاً وممولاً، أحبط الاستراتيجية الامريكة وخططها للعراق، فإن القناعة الامريكية لم تكن مستعدة لتحمل خسارتين في آن واحد، الخسارة العسكرية المتمثلة بالقضاء على داعش وتحرير كامل الجغرافية العراقية، والخسارة السياسية في بقاء الهيمنة السياسية للشيعة الاسلاميين، من هنا تم رسم السياسة الخاصة بافشال المشروع السياسي العراقي وصولاً الى حالة “الدولة الفاشلة” التي يُراد للعراق ان يصل اليها لاحقاً كخطة بديلة للانهيار، ومن ثم التقسيم، لهذا البلد، وهو ما يكشف ان الموقف العدائي الامريكي تجاه العراق لا يمكن عدّه موقفاً لحظياً او مصلحياً فحسب، وإنما يتعداه الى ما يمكن تشبيهه بــــ(العقدة الحضارية)، اي انه استعداء تجاه العراق الحضارة/الدين لا فقط العراق الشعب او الثروات.

 

وبسبب ضعف الحنكة السياسية العراقية، الشيعية منها وغير الشيعية، ونتاجاً للتوافقية السياسية المتأسسة من قبل الامريكيين في العراق، تم العمل بعد انتخابات 2018 الى تشكيل حكومة جديدة خالية من الساند والداعم البرلماني، وهذا من اكثر الاشكاليات في النظام السياسي البرلماني، إذ تقوم العملية السياسية في هكذا نوع من الانظمة على وجود طرفين اساسيين، طرف يمثل الاغلبية البرلمانية التي تنطلق منها  الحكومة، ويقدم هذا الطرف الدعم السياسي للحكومة في منحها الثقة البرلمانية من جهة، وتمرير مشاريعها وقوانينها من جهة اخرى، وطرف يمثل الاقلية وظيفته لعب دور المعارضة، والمشكلة التي حصلت ان الحكومة المتأسسة كانت خالية من الكتلة البرلمانية الاكبر التي يفترض ان تتولى ترشيح شخصية رئيس الوزراء، وإنما تم الارتكان الى توافقية شمولية، جعلت الجميع يوافق على تشكيل الحكومة دون وجود اية جهة مستعدة لتحمل نتائجها بوصفه المرشح الرسمي لشخص رئيس الوزراء، ومن ثم تكون المسؤولية الرسمية عن نتاج حكومته.

 

وقد أدت العديد من الفواعل والمسببات الى تصاعد الحركة الاحتجاجية في العراق، هذه الحركة التي رفعت الكثير من الشعارات الحقوقية المشروعة، وكان الكثير من الشباب العراقيين يطالبون بحقهم في التعيين والخدمات وحياة أفضل، لكن الاجندات المغرضة داخلياً وخارجياً لعبت دورها في حرف مسار الحركة الاحتجاجية في العراق، ولا يمكن انكار الدور الفعال للحرب الناعمة الامريكية في حرف مسار هذه الحركة الاحتجاجية التي اراد عبرها شباب العراق المطالبة بحقوقهم المشروعة، ويكفي ان نلحظ ان التوافقية السياسية التي اشرنا اليها سابقاً في تقاسم السلطات الثلاث بين المكونات الثلاث الكبرى، حيث يكون رئيس الوزراء شيعياً، ورئيس الجمهورية كردياً، ورئيس البرلمان سنياً، لم تفعل فعلها في عملية الاستقالة التي جرت، اذ تم تحميل الطرف الشيعي وحده الاخفاق السياسي الحاصل في العراق، وكان الاجدر ان يتحملها الجميع كما ان الجميع يشترك في الغنائم والمكاسب، على ان لا يفوتنا هنا التأكيد ان كلامنا لا يعني التبرير او شرعنة اي فعل سياسي مارس الاخفاق او الفشل او الفساد، لكن ألم يكن المنطقي ان تطال الاستقالة الرئاسات الثلاث؟ لماذا انحصرت في الطرف الشيعي وحده؟ هذا ما نؤكد عليه من ان “المشروع الإفشالي” متوجه بالدرجة الاساسية الى الشيعة بوصفهم الركن الركين لحفظ وحدة العراق وسيادته، ولا نعني بالشيعة هنا السياسي “س” او السياسي “ص” الذين تلطخت ايديهم بالفشل والفساد، وعدم القدرة على الانتقال من حالة “رجال السلطة” الى حالة “رجال الدولة”، وإنما نعني بالشيعة عموم المكون الشيعي الذي تقف على قمته المرجعية الدينية، مروراً بالشباب المدافع عن العراق والمحرر له عندما كان الارهاب على تخوم بغداد.

 

ولا شك عندنا من ان الولايات المتحدة الامريكية ستبقى ساعية بكل جهدها الى تحطيم مشروع الدولة العراقية، وربما لا نبالغ اذا قلنا ان ما حصل في افغانستان من انسحاب امريكي حصل فيه تسليم الدولة الافغانية الى حركة طالبان على طبق من ذهب، كان سيحصل في العراق لولا وجود الفاعل الشيعي مرجعيةً وحشداً، دون ان نغمط أو نغفل حق الوطنيين الاخرين من سائر المكونات والاتجاهات، إذ ان امريكا  تهدف، بعد عجزها عن ايصال العراق الى التقسيم عبر ميكانزم/آلية الارهاب، ستسعى الى الخطة البديلة في ايصاله الى حالة “الدولة الفاشلة”، وتعني الاخيرة، كما يعرفها مايكل ايجناتييف، بانها الدولة التي تفقد فيها الحكومة المركزية احتكارها لحق استخدام العنف المشروع في اقليمها، والذي يراه من الوظائف الرئيسية للدولة، ومن خلاله لا يمكن تقديم وظائف الدولة الاخرى مثل تقديم الخدمات الاجتماعية، بينما يرى وليام زرتمان ان الدولة الفاشلة تعبر عن الحالة التي تضحى فيها الدولة عاجزة عن اداء وظائفها نتيجة انهيار او تفكك هياكل الدولة، وفقدها شرعيتها، مع انهيار القوانين والنظام السياسي بأكمله، غير ان الرغبة الامريكية الجامحة في تحطيم الدولة وتقسيمها، جعلتها تسعى الى محاولة ترطيب أو تجميل المشهد الساعية اليه من خلال ربطه بنظرية “الفوضى الخلاقة”، وهي اشارة الى حالة الدولة التي تتآكل، وتبدأ بالفشل، وتعمها الفضوى، لكنها فوضى مقبولة –وفقاً للرؤية الامريكية- لانها ستقود الى وضع (خلّاق/بنّاء)! وهو فخ يُراد ايقاع الدول فيه، فهل حلّ الجيش العراقي، على سبيل المثال، الذي قامت به امريكا عام 2003 قد سهّل بناء الجيش الجديد ام صعّب المهمة؟ النتائج الواقعية والعملية اثبتت انه صعبها؛ لانها لم ترد لهذا البلد ان ينهض من جديد، إذ لو كانت لديها الرغبة والارادة لاكتفت بتغيير القيادات التابعة للنظام المستبد، والابقاء على الجيش العراق وتقويته، هذا مثال بسيط على أكذوبة الفوضى الخلاقة التي يروج لها الامريكيون، كذلك ما حصل خلال تحطيم البنية التحتية للصناعة العراقية، على ما عليها من ملاحظات، وعدم إقامة بديل ناجح لها، وأيضاً فتح الحدود بطريقة جعلت العراق مرتعاً لمختلف التدخلات الخارجية بأقبح صورها، فضلاً عما حصل في افغانستان.

 

ومن خلال جميع ما مر معنا سابقاً، تبقى الاستراتيجية الامريكية تعمل على تقويض الدولة العراقية واضعافها، ومن ثم تقسيمها، إنجاحاً لمشروعها التخريبي في المنطقة، الا ان ما يهون الخطب هو وجود الفاعل الشيعي الذي اسهم ويسهم في افشال هذه الاستراتيجية بتوفيق وتسديد من الله تعالى وبركة صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.

المصدر :

https://tajalhadara.com/2023/08/14

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى