بعد مرور عام على قيام الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش بغزو العراق، الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ضمن تحالف في 2003، واجه أربعة متعاقدين أمنيين مدنيين أميركيين في سيارات دفع رباعي مصيرا مشؤوما في مدينة الفلوجة العراقية.
وكانت مهمتهم حماية قافلة من شاحنات التموين المهمة الأخيرة لهم.
كان ما حدث نقطة حاسمة في صراع بدأ للتو، وبدا أبعد ما يكون عن عبارة “المهمة أُنجزت” التي أعلنها بوش قبل ذلك بأقل من عام.
ونصب مسلحون ملثمون كمينا للمتعاقدين مستخدمين قذائف صاروخية وبنادق كلاشينكوف في شارع رئيسي في الفلوجة، وهي جزء من المثلث السني، التي تسكنها أغلبية من سنة العراق وتقع في وسط البلاد، وكانت قاعدة لدعم صدام حسين الذي أطاح به الغزو.
ويذكر صحافي مؤسسة تومسن رويترز مايكل جورج كيف كان يدون الملاحظات في محاولة لاستجلاء الضجة عندما اقترب طفل ربما كان في التاسعة من العمر وعرض مساعدته.
وقال وهو يقفز فوق جثتين متفحمتين “علقنا الآخرين على الجسر. هل تريد رؤيتهما؟ يمكنني أن أصحبك إلى هناك”.
عندما انسحبت القوات القتالية الأميركية من العراق في 2011، كان 4418 جنديا لقوا حتفهم إلى جانب مئات من القوات الأجنبية والمتعاقدين والمدنيين
وتابع “بعد نحو ساعة من الكمين في 31 مارس 2004، شاهدت حشدا يركل رأس جثة محترقة، فيما جر آخرون جثة متفحمة من رجلها”.
ولم ينذر الهجوم في الفلوجة، على بعد 50 كيلومترا إلى الغرب من بغداد، وتلك المشاهد العنيفة بالمزيد من الهجمات على القوات الأميركية فقط، بل بتمرد واسع النطاق أدى إلى تضخم صفوف تنظيم القاعدة ومن بعده تنظيم الدولة الإسلامية، مما أغرق العراق في أتون صراع وفوضى لم يتعاف منهما تماما بعد مرور عقدين من الزمن.
ومازالت الفلوجة تحمل ندوب المعارك التي اندلعت في شوارعها، وخارج الطريق الرئيسي المؤدي إلى مدخل المدينة مازالت الجدران تحمل آثار طلقات الرصاص وبعض المباني مدمرة نتيجة القصف خلال العمليات العسكرية.
وأبلغ رئيس مجلس قضاء الفلوجة طالب الحسناوي بأن المدينة لا تزال تعاني من نقص مزمن في التمويل لإعادة تشييد البنية التحتية التي دمرتها الحرب وستتكلف أكثر من ملياري دولار.
وأضاف “صحيح أن عملية إعادة الإعمار تسير أبطأ من توقعاتنا بسبب محدودية الموارد والميزانية، لكننا لا نتوقف عن إعادة بناء ما دمرته الحروب”.
وأشار الحسناوي إلى أنه على الرغم من ذلك تحسن الأمن في المدينة كثيرا، وتأتي العائلات من بغداد لتناول العشاء في مطعم البادية الشهير للكباب بالفلوجة، وازدهرت التجارة والزراعة ومزارع الأسماك.
وقبل 20 عاما تأججت أعمال العنف في جميع أنحاء العراق بسبب التوترات الطائفية، بين الأقلية السنية التي كانت تتمتع بمكانة مميزة في عهد صدام حسين، وهو مسلم سني، والأغلبية الشيعية التي عانت من الاضطهاد تحت حكمه.
سرعان ما أُحبط العراقيون مما اعتبروه سوء إدارة أميركية بعد اجتياح القوات الأميركية والتحالف بغداد ومدن العراق
وقُتل عشرات الآلاف من المدنيين والمسلحين العراقيين في السنوات التي أعقبت الغزو الذي شنته الولايات المتحدة على أساس اتهام العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل، وهو الادعاء الذي ثبت أنه محض وهم.
وعندما انسحبت القوات القتالية الأميركية من العراق في 2011، كان 4418 جنديا لقوا حتفهم إلى جانب مئات من القوات الأجنبية والمتعاقدين والمدنيين.
وعلى مدار عقدين من الاضطرابات منذ اندلاع الغزو، كانت الفلوجة باستمرار بؤرة ساخنة.
وفي أحد أيام 2004 هتفت الحشود “الفلوجة مقبرة للأميركيين”، عندما قتل مسلحون المتعاقدين الأربعة الذين كانوا يعملون لصالح شركة بلاك ووتر الأميركية للأمن وهم جيري زوفكو وويسلي باتالونا ومايكل تيج وسكوت هيلفنستون.
وشاهد جورج عراقيا يسكب البنزين على إحدى الجثث مما أطلق ألسنة اللهب في الهواء.
وقال شهود إن أشخاصا ربطوا جثتين على الأقل في سيارتين وسحلوهما في الشوارع. وفي وقت لاحق من ذاك اليوم شوهدت أشلاء تتدلى من أحد خطوط الهاتف.
وسرعان ما أُحبط العراقيون مما اعتبروه سوء إدارة أميركية بعد اجتياح القوات الأميركية والتحالف بغداد ومدن العراق.
وقال بول بريمر، الذي قاد سلطة التحالف المؤقتة في العراق لمدة 13 شهرا بعد الإطاحة بصدام حسين، إن هجوم الفلوجة كان “عملا مروعا بالتأكيد”، لكنه أبلغ رويترز خلال مقابلة بأن القوات الأميركية لم تنتشر في العراق بأعداد كافية لمنع التدهور الأمني.
قبل 20 عاما تأججت أعمال العنف في جميع أنحاء العراق بسبب التوترات الطائفية، بين الأقلية السنية التي كانت تتمتع بمكانة مميزة في عهد صدام حسين
وأضاف “لم نملك العدد الكافي من القوات على الأرض في العراق”.
وفي النهاية حل بريمر الجيش العراقي، مما ترك 400 ألف جندي دون عمل، وقال معارضون غربيون وعراقيون للخطوة الأميركية إن هذا ساهم في انضمام مجموعة جاهزة من المجندين إلى الجماعات الإسلامية والمسلحين الآخرين الذين ظهروا.
ودافع بريمر عن قراره مشيرا إلى أن الجيش، المكون من جنود صدام حسين، هاجم الأكراد والشيعة ومن ثم أنذر الإبقاء على الجيش بوقوع حرب أهلية.
ومع تصاعد العنف فرض متشددو القاعدة سيطرتهم على الفلوجة، مما أدى إلى هجومين أميركيين، وبعد انسحاب القوات الأميركية من العراق سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على المدينة في 2014 وهو ما تسبب في حصار من جانب الجيش العراقي والمسلحين الشيعة.
ويقول جورج “في 2004 تبعت الطفل الذي عرض مساعدتي عبر شوارع الفلوجة، وهي مدينة ذات منازل بسيطة للطبقة المتوسطة تقطنها عائلات عانت جراء سنوات من العقوبات الدولية منذ غزو صدام حسين للكويت في 1990 – 1991، والذي انتهى بعد تدخل تحالف آخر بقيادة الولايات المتحدة. وصلنا إلى الجسر الذي تتدلى منه جثتان من جثث المتعاقدين الأربعة، وأسفله كانت هناك عائلات بعضها بصحبة أطفالها، تطلق أبواق السيارات أو تصفق احتفالا”.
وقال طفل يدعى محمد يبلغ من العمر 12 عاما “أنا سعيد بذلك، الأميركيون يحتلون بلادنا، وهذا ما سيحدث لهم”.
وألقى المسؤولون الأميركيون في ذلك الحين باللوم على مؤيدي صدام قائلين إنهم يريدون إعادة النظام القديم، لكن الولايات المتحدة لن تحول خطاها عن بناء الديمقراطية.
ورد الجنرال مارك كيميت على عملية القتل بقوله “سنعود إلى الفلوجة، سيكون ذلك في الوقت والمكان اللذين نختارهما، وسنلاحق المجرمين”.
وبعد ذلك بأيام شن الجيش الأميركي هجوما قال إنه يهدف إلى “تهدئة” الوضع في المدينة وتخليصها من المسلحين والعثور على المسؤولين عن كمين 31 مارس.
وتحت حكم صدام حسين القمعي، استمتع السنة في الفلوجة وفي جميع أنحاء العراق بالمحاباة في الأعمال التجارية والمناصب الحكومية والجيش فيما عانت الأغلبية الشيعية من التهميش. وتغير الوضع بعد الغزو الأميركي.
ومع انتقال السلطة إلى الشيعة تزايدت وتيرة التمرد السني، كما ظهرت ميليشيات مدعومة من إيران ذات الأغلبية الشيعية.
وارتفع عدد القتلى في العراق وسط تفجيرات سيارات وشاحنات مفخخة وعبوات ناسفة وانتحاريين وقطع رؤوس وفرق موت طائفية وغرف تعذيب.
ويعود سلمان الفلاحي، وهو شيخ عشيرة من الفلوجة، بالذاكرة إلى العنف الذي ألقى بظلاله النفسية على شباب الفلوجة وكان يمكن تفاديه.
وقال الفلاحي “أعتقد أننا لو عدنا بالزمن لما فعل الأميركيون ما فعلوه، ولم نكن لنرد بهذه القسوة، كنا لنتفادى العديد من الأمور”.
وقال الحسناوي، رئيس مدينة الفلوجة، إن قتل المتعاقدين كان ضد الإسلام وبعدها “عاشت الفلوجة وكل أهلها في جحيم بسبب هذا الحادث”.
لكنه شدد على أن الناس الآن على استعداد لتجاوز الأمر والخروج مما وصفه بـ”الفترة المظلمة”.
وأضاف “الآن يدرك كل شخص في الفلوجة تقريبا عواقب مثل هذه الأعمال المتهورة… كل الدمار والموت في الفلوجة كان نتيجة قتل الأميركيين الأربعة وتشويه أجسادهم. لقد طفح الكيل”.