مما لا جدال فيه أنّ الأسرة يمكنها أن تلعب الدوراً اللافت في مواجهة تحديات العصر بكافة أشكالها ( الفكرية , و الاجتماعية , و السياسية , والنفسية , و التربوية…الخ ) ؛ بوصفها الأساس الأول الذي يُعتمد في بناء شخصية الفرد ؛ فالأسرة تُعد مؤسسة متكاملة ترفد الذات بمعطيات ذات أثراً بالغاً في خلق طبيعته الإنسانية , فضلاً على أنّها تعمل على صقل توجيهاته وقناعاته وما يحمل من رؤى .
وربما تُحدد العائلة نوع الهدف المتوخى عند الشخص و منذ نعومة أظافره , وهذا يرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بمبدأ الحقوق والواجبات , واجب توجهي يصدر من الأسرة (الأب , الأم , الأخ أو الأخت الكبرى) , وحقوق انصات الأبناء لما يُطرح من هولاء دون تعسف أو فرض مبالغ به .
وعليه فالأسرة عند (ايميل دور كهايم) هي هيئة اجتماعية ذات طابع قانوني وأخلاقي , يلتزم أفرادها من زوج وزوجة و أبناء بجملة من الواجبات , والتي من بينها تحمّل الآباء شؤون أبنائهم والتكفّل بهم , وهي – أيضا – وحدة اجتماعية انتاجية تشكل مركز النشاط الاقتصادي والاجتماعي ( ) .
ولعلّ أهم وظيفة يجب على هذه المؤسسة ( العائلة ) الالتزام بها هو كيفية المحافظة على السلامة الفكرية والثقافية والاجتماعية لشبابها مع هذا القدر من التحدي ؛ ومن ثم تُعد الأسرة الأداة الفاعلة و الحصن الحصين الذي يقي الذات من التحديات المغرضة و المشبوهة .
من هنا أكدت الكتب المقدّسة والتعاليم والشرائع السماوية على الكثير من الأمور المتعلقة بهذا الكيان , منها :
1- ضرورة تحلي الأسرة بالمحافظة على هذا الكيان , وهي مسؤولية شرعية , وقد عبّر عنهم القرآن (الأهل) , يقول جلّ عُلاه : (( يا أيّها الذين أمنوا قُوا أنفُسكم وأهليكم ناراً وقودُها الناسُ والحجارةُ عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )) . التحريم / 6 .
2- ضرورة اختيار الشريك الصالح ( الزوج و الزوجة) الذي يتحلى بحس المسؤولية اتجاه الأسرة واعياً بحجم التحديات التي تواجه أفرادها , ومنها الشباب .
إنّ الأسرة هي المؤسسة الأهم في متابعة ومراقبة الفرد , وتُعد السلاح الأول لمواجهة التحديات .
فلو حاولنا تناول جزئية لافتة تقلق واقعنا المعاصر وسلّطنا عليها الضوء ؛ لنكشف المخاطر ونسيبة الدور الذي تقوم به الأسرة , ألا وهي ظاهرة ( الثورة المعلوماتية الرقمية ) المرعبة التي بدأ تخترق غرف المنازل , وأخذت تسري في جسم الانسان كما تسري المخدرات ؛ التي بات لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال مع ما تحتوي من تطبيقات وبرامج ومنشورات خطرة مشبوهة, وربما سيزداد الأمر خطورة مع بداية انتشار ( الذكاء الاصطناعي) , الذي قد يُعبأ بأفكار تأسس لفكر منحرف ومبرمج وفق ما يرغبه المُصنِّع والشخص الذي يدخل البيانات ؛ بقصد تمرير أفكاره ودعم مشاريعه الخبيثة.
السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه في خضم هذه التحيات الالكترونية الجّبارة :
هل تمارس الأسر مسؤوليتها الحقيقية في توعية الأبناء لطبيعة خطر التفاعل وتعامل مع ما يُطرح من ثورة رقمية أم لا ؟
ويمكننا – أيضاً – أن نسأل :
ما نسبية ( درجة ) الحراك الأسري في توجيه الأبن ثقافياً , و فكرياً , و نفسياً مع وجود هذا التيار الالكتروني والإعلامي ؛ بوصفه حرباً ناعمة موجهة والمخطط له عالمياً ؟
زد على ما طُرح , يجدر بنا أن نسأل كذلك :
مع هذه الحرب الرقمية بشقّها الّشيطاني الساعي لإفساد الكون , وبتقنياتها غير المحدودة وفاعليتها المخيفة وبشكل لا يتصور, هل أنّ الأسرة في المجتمعات العربية الإسلامية قادرة ومهيأة للمواجهة بحيث لا تحتاج إلى تدريبات ووضع برامج عمل علمية لمواجهة هذه الثورة المعلوماتية المعبأة بمختلف التشويشات والتشويهات والتضليل المُقنن والمُصدّر من قبل الآلة الاستعمارية لقوى الشر العالمي ؟
وللإجابة عن السؤال الأول :
المجال الرقمي مجال معقد يحتاج إلى الخوض في جزئياته , لأنّه قائم على برامج الكترونية وتطبيقات عالية الدقة , تتسم مزاياها وفي قسمها الأكبر بالظهور للعيان , في حين تحتوي بعض التطبيقات على حيثيات غير واضحة تحتاج حذراً في التعامل مثل ( التهكير , و فرض منشورات وتطبيقات , و فديوات … الخ ) تظهر بشكل مفاجأ , قد تحتوي جُلّها على أهداف شيطانية مقصودة موجهة للمستهدف تُروّج إلى ( الانحراف الفكري , و الانحلال الأخلاقي , و التشجيع على البغض والعداء والتطرف الطائفي …الخ ) .
أمّا ما يخص السؤال الثاني (ما نسبية ( درجة ) الحراك الأسري في توجيه الأبن ثقافياً , و فكرياً , و نفسياً مع وجود هذا التيار الالكتروني والإعلامي ؛ بوصفه حرباً ناعمة الموجه والمخطط له عالمياً ؟)
يمكنا الجزم ومن خلال ما يذكره المختصون , أن الدور الأسري بات ضعيفاً وبشكل لافت , ويمكننا ؟ أن نجمل بعض الأسباب بما يلي :
1- طغيان عامل اللامباة بين الأُسر لما يُخطط له من قبل دوائر الشر , وأن المُستهدف الأول هم الفئة الشبابة والأطفال , وأن تلك القوى كرست كل طاقاتها ( المادية , والمعنوية) وحربها ( الناعمة , والصلبة) لتطبيق مخططتها الخبيث , كل هذا مع وجود غفلة كبيرة من قبل الكثير من العوائل .
2- تتحجج كثير من الأسر بحجج واهية بعدم المتابعة لأبنائها , منها :
أ – كثرة المشاغل , وتعقد الحياة , وصعوبة الحياة الاقتصادي , المتمثل بكثرة الالتزامات أو انشغال الأب والأم بوظائف أو أعمال اضافية لزيادة الدخل , وهذا – قطعاً – على حساب عدم متابعة الأبناء , ومن ثم تركهم في خضم هذا التحدي وحرب المواجهة وحيداً .
ب- التحجج بكبر حجم المآمرة , وأن هذه الأسر كأنّها تعلن الاستلام برفع الراية البيضاء , متجاهلة بأنّ مبدأ الاستسلام ليس الحل الأمثل , وهذا يُشابه لو أن منزل شخص تعرض لاحتراق كبير أ يقف صاحب المنزل مكتوف الايدي أم لابدّ من قيامه بما يستطيع من محاولات ولو بسيطة للمساعدة في اخماد تلك النار أو انقاذ ما يمكن انقاذه من مواد المنزل .
ج- عدم الضغط على الأبناء مع معرفة بعض الأسر بخطأ ما يقوم به الأبناء , وقد يكون هذا بداعي ( الحرية للأبن ) أو ( ترك الأبن دون مراقبة إلى أن كبر, وبالنتيجة يمسي من الصعب السيطرة عليه بعد ذلك ) أو ما يعرف بمصطلحنا الدارج ( الدلالال ) بمعنى ترك الطفل أو الأبن يفعل ما يشاء بوصفه عزيزاً على نفس الأم والأب لدرجة يُترك بمطلق حريته , وتبدأ هذه الظاهر مع السنين الأولى للأطفال فتنمو وتتفاقم مع الوقت ؛ فيصعب حلها لاحقاً .
ء- حجج واهية متنوعة تحت مسمى متطلبات العصر , ولها مصاديق كثير , ولعلّ أولها ضرورة ترك الأولاد بكامل الحرية كي يكتسبوا التجارب وإن كانت سلبية , من هنا لا يُحاسب الأبن إن رجع متأخراُ إلى المنزل , أو أفرط باستعمال جهاز الموبايل , أو أن يُترك الجهاز بيد الأطفال دون متابعة لساعات كثيرة .
هذا التخلي عن المسؤولية وعدم الشعور بالانتماء للمشروع الاصلاحي الاجتماعي الذي يمثل واجباً شرعياً ينأ بالأسرة عن دورها اللافت , الذي يتمثل بما يلي :
1- ضرورة تربية الأبناء على التفكير الصائب , وتربيتهم على مبدأ التحلي بالتميز ما بين ما هو صالح وما هو طالح , و التنبيه على أن لا يكون الشاب والطفل فريسة حرب ناعمة تستهدفه , وهذا أهم دور يقع على عاتق العائلة الصالحة .
2- مساهمة العائلة في زرع روح الانتماء للمعتقد والوطن في نفوس أبنائها , ولفت انتباههم إلى حملات النيل من الوطن والدين و رجال المذهب و مجاهديه .
3- لابدّ للأسرة أن تسعى جاهدة إلى ترسخ مضامين القيم والمبادئ الإنسانية والإيمانية , واحترام القدوة والمثل الصالح , فضلاً عن التوضيح بأنّ هذا الطرح هو السبيل الذي يعصمهم من المغالطات والتناقضات وخلط الأوراق , ومن ثم تضليهم عن سبيل الحق الذي يضمن لهم راحة الدنيا وسعادة الأخرى.
4- يجب أن تعمل الأسرة جهادة على تعميق معاني المحبة والتعاون والاحترام المتبادل بين الشاب بمن حولهم , و كذلك حثهم على نبذ كل من شأنه أن يعزز الحقد والتفرقة والبغضاء والتناحر والصِدام بين أبناء الوطن وأبناء المعتقد ؛ لأنّها عوامل تفرقة تسعى لترويجها دوائر الشر العالمي .
5- العمل على خلق شباب ينمازون بالوعي والثقافة , بوساطة العمل الجاد بتغذيتهم بالمعلومات وحثهم على الاطلاع والاحتكاك مع أهل العقول الراجحة .
6- السعي بجدية إلى جعل الشاب , شاباً منظماً , يستثمر الوقت وطاقته , وأن لا يضيع وقته باللهو المفرط , عن طريق ممارسة هواياته بشكل مبالغ به وبشكل عشوائي وعلى حساب التزاماته , فضلاً عن صرف أوقات طويلة في استخدام جهاز الهاتف ( الموبايل) دون أي فائدة أو جدوى .
7- عمل الأسرة وبشكل جدي على تثقيف الشاب بتوخي جانب الحذر ولانتباه من مخاطر التيارات الفكرية المنحرفة الهدامة, ودعم وجوب تحلي الشباب بأخلاق الاعتدال والتوازن .
8- عمل العائلة على اشباع الرغبات الحقة للشباب , فالحرمان قد يكون مدعاة إلى البحث عن فرص بديلة خارج نطاق الأسرة ؛ من ثم قد تحتضنه أيادي أو عقول مشبوه فيمسي فريسة سهلة لهم ؛ بسسب تلبيتهم لما يحتاجه.
9- محاولة خلق البديل عند حرمانهم من حيثية ما , فمثلاً عندما أمنع الصبي من استخدام جهاز الموبايل فيجب أن أوفر مستلزمات كرة القدم ليمارس هذه الرياضة كبديل من الموبايل ووفق أوقات ممنهجة و منظمة , أو أن أوفر له مجموعة كتب للقراءة كالقصص أو المجلات الملونة الهادفة .