يعاني الاقتصاد العراقي ومنذ عقود طويلة من اتساع دائرة الاختلالات الهيكلية في بنيته , بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية في اعداد السياسات العامة في البلد , او التخبط في تنفيذها. وقد تأرجحت بين دورين , دور انمائي والاخر تصحيحي , ولكون الاقتصاد العراقي يعتمد في حركته على الايرادات النفطية التي تشكل اكثر من النصف من ناتجه المحلي , والمهيمنة على الصادرات , فضلا عن انها تمثل المورد الاساس للموازنة العامة للدولة , ولذلك فقد مارست اسعار النفط وتقلباتها المفاجئة والوضع السياسي دوراً كبيراً في رسم هذه السياسات بوصفها عوامل حاكمة في هذا الدور , وبخاصة اسس ومبادئ اعداد الموازنة العامة للبلد , ففي حالة اليسر المالي يحتدم الجدل حول اقرار الموازنة , وفي حالة العسكر المالي تخف حدته , لكون الحكومة في هذه الحالة تضطر الى تقليص حجم الموازنة مما يدفع بالكتل والاحزاب السياسية الى التخلي عن مطالبها حتى تتهرب من تحمل مسؤولية الفشل الذي يحتمل ان تقع به الحكومة فاستقراء تاريخ اعداد موازنات البلد العامة , يعطي انطباعاً بان هذه الحكومات لم تدرك حجم الاضرار التي لحقت بالاقتصاد من جراء هذه السياسات . فما تزال السياسات الاقتصادية العامة في البلد تكرس مبدأ الاعتماد على النفط وتبعية الاقتصاد للريع الناشئ عنه . ان ربط الاقتصاد والموازنة بالنفط وايراداته المتقلبة جعل اصحاب القرار مهتمين بتوقيت حدوث الازمة وليس امكانية حدوثها , وهذا يعني مسايرة السياسات الاقتصادية المحلية لدورات الكساد والرواج التي تشهدها السوق النفطية التي تتحكم بها عوامل ومتغيرات اقتصادية وسياسية عالمية , وهكذا تتشكل التحديات امام تحقيق النمو والاستقرار في الاقتصاد العراقي , لأن الاقتصاد العراقي يرتبط مصدر تمويله الاساس بعناصر تمثل قيداً على جانب الايراد العام , ففي مدة اليسر المالي والمرونة الكبيرة في تحصيل الايرادات النفطية يرتفع الانفاق الجاري بشكل كبير لما فيه من ترضيات سياسية واجتماعية مشكلاً قيدا على التوسع في الانفاق الاستثماري المولد لمضاعف الدخل القومي . اما في حقب الركود وانحسار الايرادات النفطية فان الزيادة في الشق التشغيلي تشكل عبئاً كبيرا على موازنة الدولة كون معظمها رواتب واجور ومعاشات لا يمكن المساس بها لأغراض اجتماعية وسياسية .
ولم يسلم الاقتصاد العراقي من مخاطر الهيمنة النفطية حتى امتد تأثير هذه الهيمنة على السياسة النقدية ( خفض قيمة العملة عند انهيار اسعار النفط ورفعها عند تحسن اسعار النفط ) وهو حاصل حاليا واصبح الاقتصاد العراقي يتأثر بالصدمات النفطية ليس فقط عن طريق القناة المالية المعتادة وانما عن طريق القناة النقدية . هذه السياسة لها تداعيات كبيرة على كل مفاصل الاقتصاد , فسعر الصرف تبنى عليه توقعات الاسعار , والقوة الشرائية والعائدات المستقبلية لرجال الاعمال , فهو مؤشر اساس في قطاع الاعمال , ولذا فان ثباته يعتبر مؤشر وعامل جذب للاستثمار. اما تكرار تغير سعر الصرف وخلال فترات زمنية قصيرة , يعصف بالاستقرار المالي والاقتصادي في البلد , ويربك عمل الاسواق واحتمال تكريس الركود الاقتصادي الحاصل الى وقت اطول وهو مؤشر سلبي على تصنيف الاقتصاد . وان اخطر ما في سياسة سعر الصرف المتقلبة هو تشجيع المضاربة على العملة والتوجه صوب الاصول الحقيقية والعينية لحفظ القيمة , مما يزيد من ارتفاع اسعارها وحرمان قطاعات الاقتصاد الانتاجية من عمليات الادخار والاستثمار .