
– مشروع تأويلي توراتي لتشويه التاريخ الإسلامي وتبرير المطامع الصهيونية
المقدمة
يُعدّ كتاب «العودة إلى مكة» واحداً من أكثر المؤلفات المثيرة للجدل في سياق الصراع الثقافي والديني بين الغرب الصهيوني والعالم الإسلامي.
الكاتب دينيس آفي ليبكين *، الذي يُقدَّم على أنه حاخام صهيوني وناشط سياسي يميني متطرف، حاول من خلال هذا العمل صياغة رواية جديدة للتاريخ الديني والجغرافي للجزيرة العربية، متكئاً على نصوص توراتية وتأويلات شخصية بعيدة عن أي منهج علمي أو تاريخي معتمد.
ورغم محدودية انتشاره في الدوائر الأكاديمية الغربية، فإن خطورة الكتاب تكمن في الرسائل العقائدية والسياسية التي يحملها، وفي إمكانية توظيفه كمبرر أيديولوجي لمشروع اختراقٍ ثقافي وديني يستهدف الإسلام ومقدساته.
أولًا: خلفية عن المؤلف والبيئة الفكرية
ولد دينيس آفي ليبكين في الولايات المتحدة ثم هاجر إلى فلسطين المحتلة، وارتبط بعدة منابر إعلامية إسرائيلية ذات توجه توراتي متطرف.
عرف بخطابه الديني الذي يمزج السياسة بالعقيدة، وبترويجه لنظرية «التحالف الإبراهيمي» من منظورٍ صهيوني يهدف لفرض التفوق اليهودي الروحي والتاريخي على المنطقة.
عمل في بعض الأجهزة الإعلامية التابعة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ما أضفى على أطروحاته بُعداً دعائياً أكثر من كونه بحثاً علميًا.
ثانيًا: مضمون الكتاب وأطروحته المركزية
يرتكز الكتاب على فرضيةٍ أساسية مفادها أن أصول الديانات الإبراهيمية واحدة، وأن ما يسميه «الانحراف الإسلامي» حدث نتيجة «تحريف في المكان والزمان»، وفق زعمه.
ومن هنا ينطلق ليبكين إلى القول بأن مكة المكرمة ليست الموقع التاريخي الأصلي للبيت المقدس، وأن الشعائر الإسلامية تعود إلى «جذور يهودية قديمة» زُعِمَ أنها فُسِّرت لاحقاً على نحوٍ مغاير.
يحاول الكاتب إعادة رسم خريطة دينية زائفة تجعل من الحجاز أرضاً توراتية، وتُبرّر – ضمنياً – الحديث عن «عودة اليهود» إلى تلك البقاع بوصفها جزءاً من إرثهم التاريخي.
ثالثاً : المنهج المعتمد في الكتاب
يعتمد ليبكين على ما يمكن وصفه بـ “التأويل الإسقاطي”؛ أي قراءة النصوص الإسلامية من خلال منظار توراتي مسبق، لإخضاعها لمقولات عقائدية يهودية.
وهو بذلك يخالف أبسط قواعد البحث المقارن في الأديان، إذ يتعامل مع النص القرآني كمادة تابعة، لا مستقلة.
كما يستخدم مزيجًا من:
•نصوص التوراة والتلمود.
•أساطير ومرويات من القرن الأول الميلادي.
•تأويلات جغرافية قائمة على تطابق أسماء الأماكن (etymological parallels).
•معلومات غير موثقة حول التاريخ العربي قبل الإسلام.
وهذه المنهجية تفتقر إلى الدليل الأثري والنقد النصي العلمي، ما يجعل الكتاب أقرب إلى خطابٍ دعائي مؤدلج منه إلى دراسة أكاديمية.
رابعًا: تحليل نقدي للمضمون
1-خلط بين الميثولوجيا والتاريخ:
يعتمد الكاتب على رموز وأساطير توراتية قديمة كحقائق تاريخية، دون التحقق من صحتها وفق المعايير الأثرية الحديثة.
2-التزييف الجغرافي للمقدسات:
يحاول نقل “بيت الله” من مكة إلى موقع آخر، بهدف نزع الشرعية الدينية عن الإسلام وإضفاء «أصل توراتي» عليه.
3-تشويه الذاكرة الدينية الإسلامية:
يعيد تفسير طقوس الحج والقبلة والبيت الحرام في ضوء “التقليد اليهودي”، ما يهدف إلى إضعاف البنية الرمزية المقدسة للمسلمين.
4-إسقاط سياسي مضمَر:
تُقرأ أطروحاته على أنها تمهيد أيديولوجي لتوسيع النفوذ الإسرائيلي نحو الجزيرة العربية ضمن مشروع “الشرق الأوسط الإبراهيمي الجديد”.
5-تغييب المنهج العلمي:
لم يستخدم الكاتب مراجع أكاديمية معتمدة، ولم يُخضع رواياته لنقدٍ تاريخي أو مقارنة نصية، بل بنى استنتاجاته على انتقائية فكرية تخدم سرديته الصهيونية.
خامسًا: خطورة الكتاب وتداعياته
1-خطر ديني:
محاولة نزع قدسية مكة والمدينة تمسّ صميم العقيدة الإسلامية، وتشكل استفزازاً لمشاعر أكثر من مليار مسلم حول العالم.
2-خطر سياسي وأمني:
مثل هذه الطروحات قد تُستثمر لتبرير مشاريع جغرافية أو أمنية في الجزيرة العربية، تحت شعارات “إبراهيمية” أو “سلم ديني” مزيف.
3-خطر ثقافي وفكري:
إعادة كتابة التاريخ الإسلامي على يد منظّرين صهاينة تُعدّ خطوة في سياق الحرب المعرفية التي تستهدف وعي الأجيال العربية والإسلامية.
4-خطر إعلامي وتطبيعي:
قد يُستخدم الكتاب لتغذية الخطاب التطبيعي الذي يسعى إلى إضعاف الحسّ الديني المقاوم عبر مفاهيم “التوحيد الإبراهيمي” و”التحالف الروحي”.
سادساً: الردّ العلمي المطلوب
1-تأسيس لجان أكاديمية عربية وإسلامية لإعداد دراسات نقدية تفصيلية حول المزاعم التوراتية الزائفة.
2-الاستعانة بعلماء آثار ومؤرخين مختصين لتوثيق المواقع الإسلامية عبر الدلائل المادية والتاريخية.
3-إطلاق برامج توعية تكشف الخلفية السياسية لمثل هذه المؤلفات وتبيّن أهدافها البعيدة.
4-إنشاء أرشيف ردود علمية موحدة باللغات الأجنبية لتفنيد تلك المزاعم في بيئتها الغربية نفسها.
إن كتاب «العودة إلى مكة» ليس مجرد عمل ديني، بل وثيقة دعائية تعبّر عن عقيدة صهيونية توراتية جديدة تتقاطع مع ما يسمى بـ”المشروع الإبراهيمي” في بعده الجغرافي والديني والسياسي.
يكشف الكتاب عن نزعة فكرية استعمارية مغطاة بلغة دينية، تسعى لإعادة صياغة وعي المنطقة بما يخدم المشروع الصهيوني في القرن الحادي والعشرين.
ولذلك، فإن قراءته لا بد أن تكون قراءة واعية مقاومة، تنطلق من منهج علمي صارم، وتحذر من الانزلاق في تبرير خطابٍ يوظّف الدين لإضفاء الشرعية على الهيمنة.
المراجع والمصادر المعتمدة
1. Dennis Avi Lipkin, Return to Mecca: Discovering the Route to Mecca, 2012.
2. Victor Mordecai (alias Avi Lipkin), Interviews and public statements, 2013–2019.
3. دراسات في نقد التأويل التوراتي للمقدسات الإسلامية، مجلة الدراسات الحضارية، العدد 27، القاهرة 2018.
4. المركز العربي للأبحاث – وحدة تحليل الخطاب الصهيوني، “التوظيف الديني في المشروع الإبراهيمي”، الدوحة 2022.
5. مقالات نقدية منشورة في مواقع بحثية عربية حول الكتاب (مركز الأهرام، ومركز الزيتونة).