مقالات

زمن العراق الإعلامي

كتب رياض الفرطوسي

في زمن التحوّلات السريعة، حيث تختلط الحقيقة بالضجيج، تبدو الحاجة إلى إعلامٍ وطني واعٍ أكثر إلحاحاً من أي وقتٍ مضى. فالإعلام لم يعد مجرّد مرآة تعكس الأحداث، بل صار أداةً لصناعة الوعي الجمعي وصياغة المستقبل.

ومن هنا، تنطلق هذه المقالة لتضع الإصبع على جوهر المسألة:
لماذا يحتاج العراق اليوم إلى قناةٍ إخبارية تُعيد إليه صوته؟

العراق اليوم بحاجة إلى صوته… لا إلى صدى الآخرين.
إلى منبرٍ يروي حكاياته كما هي، لا كما تُروى عنه. فالأمم حين تدخل مرحلة البناء لا تحتاج فقط إلى الإسمنت والحديد، بل إلى الوعي الذي يشكّل الأساس غير المرئي لكل مشروعٍ عظيم.
وهذا الوعي لا تصنعه المنشورات المتناثرة على الشاشات الصغيرة، بل تبنيه قناةٌ إخبارية تعرف معنى أن تكون عيناً للعراق وقلباً له في آنٍ واحد.

القناة الإخبارية ليست مجرد شاشةٍ تبث الأخبار، إنها ذاكرة تُكتب في الزمن.
هي التي تفكّك المشاريع التنموية، وتُبسّط المبادرات الاستثمارية، وتحوّل لغة الأرقام إلى قصصٍ يفهمها الناس ويتفاعلون معها ويؤمنون بها.
على مدار الساعة، وعلى مدار العام، تشكّل هذه القناة خيط الوعي الذي يربط المواطن بالوطن، وتمنح الإنجاز حياته الثانية في وجدان الجمهور.

وحين تظهر النواقص أو الإخفاقات، تكون هذه القناة أول من يُضيء عليها — لا لتُدين، بل لتُصلح.
فالإعلام الحقيقي ليس بوقاً للمديح ولا سيفاً للخصومة، بل ميزانًا للعدل بين الفعل والتقصير.

لكن، وللأسف، ما نراه اليوم في بعض المحطات الرسمية يبتعد كثيراً عن هذا الدور.
هناك مؤسسات إعلامية تضم أعداداً هائلة من الموظفين من دون أثرٍ حقيقي في الشارع أو في وعي المواطن.
طاقات شابة كثيرة تُهمّش داخل المكاتب، تنتظر فرصة لتبدع، لكن الأبواب مغلقة، والقرارات جامدة، والقيادات الاعلامية تعيش في أبراجٍ إدارية عالية لا يصلها صوت أحد.
يضعون سكرتارياتٍ تحجبهم عن الناس، ويتعاملون مع الإعلام كإقطاعيةٍ شخصية، لا كرسالةٍ وطنية.
وهكذا، بدل أن تكون هذه المؤسسات ورشةً لإنتاج الوعي، تحوّلت إلى هياكل بلا روح.

إنها مأساة إدارةٍ قبل أن تكون مأساة مهنة.
فنحن لا نفتقد إلى الكفاءات، بل إلى القيادة الإعلامية الواعية والقرار الشجاع القادر على تحويل الطاقات إلى منجز.
الإعلام لا يُدار بالمكاتب المغلقة، بل بالعقول المنفتحة التي تعرف كيف تصغي، وتحاور، وتُلهِم.
وحين تُفتح النوافذ، يدخل الضوء.

أما حين يغيب هذا النوع من الإعلام، تتقدّم “السوشيال ميديا” لتملأ الفراغ، فينبت الرأي العام من فوضى الأصوات لا من عمق التحليل.
وهنا يكمن الخطر: أن يُختطف وعي الناس من قبل مؤثرين لا يملكون أدوات الفهم العميق ولا مسؤولية التنوير.

القناة الإخبارية، بخلاف ذلك، تمتلك عقلًا مؤسسياً ومنطقاً مهنياً ورؤية تمتد أبعد من لحظة التفاعل.
إنها تضخ دماءً جديدة في شرايين المجتمع كل صباح، وتُبقيه متصلًا بنبض المستقبل.

ولأننا نقف اليوم على أعتاب زمنٍ تتزاحم فيه التحديات — من الذكاء الاصطناعي إلى التحولات المناخية، ومن التضخم إلى الهجرات والحروب — فإن الحاجة إلى قناةٍ إخبارية وطنية لم تعد ترفاً، بل ضرورة وجود.
هي درع الوعي في عالمٍ يتبدّل بسرعة الضوء، وهي الذاكرة التي ستروي للأجيال القادمة كيف واجه العراق زمن التحوّلات بعقلٍ حيّ وروحٍ لا تموت.

لقد تأخرنا كثيراً، نعم، لكن الأوان لم يفت.
فالعراق الذي ما زال حياً رغم كل الجراح، قادرٌ أن ينهض من جديد — بصوته، بفكره، وبإعلامٍ يليق بتاريخه الذي أنجب أول كتابة في البشرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى