مقالات

شجار الفضائيات

كتب رياض الفرطوسي

يطالب الناس بحرية الكلام كما لو أنها غاية الغايات، غير مدركين أن حرية التعبير بلا حرية التفكير لا تُنتج إلا فراغاً صاخباً. سورين كيركجارد قال: “الناس يطالبون بحرية التعبير كتعويض عن حرية التفكير التي نادراً ما تُستخدم”. هذه العبارة تكشف مأساة زمننا: أصوات ترتفع، لكنها لا تحمل معنى، لأن الداخل خاوٍ، والفكر غائب، فلا يبقى سوى صدى ضجيج.

جورج أورويل أوجزها في روايته 1984 حين كتب ساخراً: “لا مانع من منحهم حرية فكرية طالما أنهم مجردون من القدرة على التفكير”. في كثير من الأحيان، يُفتح المجال للكلام لا لأنه يغيّر الواقع، بل لأنه لا يغيّر شيئاً. وهنا تكمن المفارقة: يُسمح للجميع بالحديث، لكن لا أحد يسأل ما جدوى هذا الحديث إن كان بلا أفق أو مشروع.

وما نراه اليوم في فضائياتنا شاهد حي: برامج تحولت إلى ساحات صراع لفظي وجسدي، حيث تُستبدل الحجة بالشتيمة، والمنطق بالسباب، والنقاش بالعراك. نيتشه كان محقاً حين قال: “الهراء لا يناقش بالمنطق”. وما أكثر الهراء الذي يُسوّق هذه الأيام على أنه تحليل سياسي أو فكري.

المحللون الذين يحتلون الشاشات أشبه بأجهزة كهربائية محترقة: يلمعون للحظة، ثم يتفجرون شرراً لأتفه سبب. يمدحونك اليوم ويشتمونك غداً بلا سبب واضح، يحترمونك إذا احتقرتهم ويحتقرونك إن احترمتهم. ألبير كامو حذّر من هذا النوع من “الاحترام القائم على الخوف”، واصفاً إياه بأنه أقذر أشكال الاحترام. وجوه صفيح، عقول ترى في كل نجاح تهديداً، وفي كل خير ضعفاً، لا تعرف الندم لأنها بلا ضمير، لكنها تعرف الانتقام لأنها تخشى الانكشاف.

والأدهى أن هذه المهزلة لم تبقَ في الهوامش، بل صارت تُقدّم للناس على أنها “حوار ديمقراطي”. ثمة عملية تخريب متعمد للمزاج الاجتماعي والذائقة العامة، إذ تُبث هذه المشاجرات على أنها نقاشات، بينما هي في حقيقتها استعراض لعُصاب ذهني ومشاكل نفسية. المفترض أن تتدخل المؤسسات المعنية لتضع حداً لهذه المهازل، لأنها منافية للأدب العام ومسيئة لذوق المجتمع وصورته. العراقيون لا يستحقون هذا المستوى من الابتذال، ولا يجوز تمرير هذه البرامج على أنها حرية تعبير. فهي لا تمثل سوى مرضى نفسيين يفرغون أزماتهم الشخصية على الهواء، فيسممون الوعي العام.

الحرية الشكلية التي نمارسها اليوم لا تحرر العقول بل تكرّس التفاهة. لم يعد الحوار العام وسيلة للتنوير، بل أداة للتسقيط والتشهير. الإعلام الذي كان يُفترض أن يكون منبراً للوعي صار مصدراً لتخريب المزاج الجمعي، يرفع التفاهة إلى مقام البطولة ويترك الفكر الحقيقي في الظل.

لكن القيود الأخطر ليست في الخارج، بل في الداخل. فالسجون تتهدم، والجدران تصدأ، والأصوات تعلو وتخفت، لكن القيود المزروعة في عقول خاوية ونفوس مشوهة تبقى أشد وأطول عمراً. لا معنى للحرية إن لم تتحول إلى فعل تفكير، ولا قيمة للكلمة إن لم تكن ابنة وعي.

إن ما يُبث اليوم من شجارات فضائية ليس تعبيراً عن الديمقراطية بل مسرحاً للتفاهة. هو ضجيج يستهلك المجتمع بدل أن ينيره، ويبيع وهم الحرية بينما الحقيقة أن أحداً لا يفكر، ولا أحد يسمع، ولا أحد يجيب. فالأوطان لا تُبنى بالعراك على الشاشات، بل بالعقول التي تُحرر الداخل قبل أن تصرخ في الخارج.

وبغير ذلك ستبقى الديمقراطية عندنا مجرد شجار فضائيات، صخبٌ يُفسد الذائقة، ويشوّه المزاج العام، ويمنح التفاهة شرفاً لم تحلم به يوماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى