مقالات

صورٌ ومشاهد من غزة بعد إعلان انتهاء العدوان (5)

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

الجرحى جرحٌ عميقٌ وهَمٌ كبيرٌ
لا شيء ينزع فرحة الفلسطينيين العائدين إلى مناطقهم المدمرة، ويفسد عليهم أجواء السعادة والرضا بتوقف الحرب وانتهاء العدوان، رغم أنهم لم يجدوا بيوتهم، ولم يعرفوا مناطقهم، ولم يميزوا بين شوارعهم، إلا أنهم سعدوا بالعودة، وفرحوا بالجلوس فوق ركام بيوتهم وأطلال منازلهم، واعتبروا أنفسهم قد انتصروا على عدوهم الذي خطط لاقتلاعهم من أرضهم وطردهم منها، وقتل معالم الحياة فيها وأعدم سبل العيش لمن بقي فيها، ليجبرهم على الهجرة والخروج منها، إلا أنهم عادوا وفرحوا، ودخلوا مناطقهم وحمدوا الله عز وجل وسروا، وهيأوا فوق ركام بيوتهم أماكن تؤويهم، وجهزوا ما استطاعوا وبما توفر لديهم من أدوات بعض ما يحتاجون إليه.

ترحم الأهل العائدون إلى مناطقهم على شهدائهم ومن فقدوا في الحرب على مدى عامين، ودعوا الله عز وجل أن يتقبلهم شهداء عنده في عليين، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ، وأن يجمعهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والشهداء الذين سبقوهم، وعددهم ربما سيتجاوز بعد تمام العد والإحصاء، واستخراج رفات المفقودين وحصر الغائبين، المائة ألف شهيدٍ، وإن كان التعداد الرسمي حتى الآن هو أقل من هذا العدد بقليل، لكن الحقيقة التي ستظهر بعد أيامٍ قليلةٍ، والأرقام التي سيتم الكشف عنها ستثبت أن هذا العدو قد أجرم كثيراً في حق الشعب الفلسطيني، وارتكب من الجرائم والموبقات ما لا يقوى ضميرٌ بشري سويٌ عاقل على احتماله.

لكن الجرح الذي لا يدمل، والحزن الذي لا ينتهي، والهم الكبير الذي يسكن النفوس ولا يفارقها، وينتزع الفرحة من القلوب ويكبتها، والقلق الذي لا يفارقهم، والخوف الشديد الذي يساورهم ويسيطر عليهم، إنما هو موضوع الجرحى والمصابين، وعددهم يفوق بكثير المائتي ألف جريحٍ، إلا أن المستعصية حالتهم، والبالغة جراحهم، والمتعذر في قطاع غزة علاجهم، والمطلوب خروجهم لتلقي العلاج في مستشفيات دول العالم، يكاد يفوق عددهم ألـــــ 25 ألف جريحٍ، إلا أن حالتهم وبسبب استمرار الحرب والحصار، ومنع إدخال الأدوية والأدوات والمستلزمات الطبية، تتفاقم سوءً يوماً بعد، وكثيرٌ منهم يستشهدون بعض طول معاناة، ويفارقون الحياة بعد صراعٍ من الألم والعجز، واستسلامٍ مفجعٍ أمام الحصار والحرمان.

لا شيء يقلق أهلنا في قطاع غزة اليوم مثل موضوع الجرحى والمصابين، فهو شغلهم الشاغل وهمهم الدائم، وهم قطاعٌ كبيرٌ من شعبنا ومن كل الفئات العمرية، ومن الجنسين، ومن المدنيين والعسكريين على السواء، فمنهم أطفال وشيوخ ونساء، وحالات الكثير منهم صعبة وقاسية، بل ومؤلمة ومحزنة، ممن فقدوا أطرافهم، وفقئت عيونهم، وتمزقت أحشاؤهم، أو كسرت ظهورهم وشلت أجسادهم فباتوا طريحي الفراش لا يتحركون، وعاجزين لا يستطيعون خدمة أنفسهم ولا يقدرون، في ظل انعدام فرص العلاج في مستشفيات القطاع المدمرة، وندرة الأدوية والعقاقير الطبية، وانقطاع الكهرباء واستمرار الغارات الحربية.

كما ستكشف الأيام القادمة عن أسماء كثيرة، وسيكون من بين الجرحى أعلامٌ كبيرةٌ، ورموز وقادة وشخصياتٌ نحبها كنا نظنهم في عداد الشهداء، وقد أعلن العدو قتلهم، ممن أصيبوا خلال العدوان وجرحوا، إلا أن معاناتهم كانت أكبر وألمهم كان أشد بسبب الإجراءات الأمنية التي اتخذت لملائمة ظروفهم، حيث نقلوا إلى بيوت غير آمنة، وتفتقر إلى كل وسائل الراحة، وتخلو من كل مستلزمات العلاج، أو أجبروا على البقاء في الأنفاق حيث الرعاية متعذرة والعلاج فيها شبه مستحيل، وحتى الآن لا تستطيع المقاومة إخراجهم من مكامنهم، أو الإعلان عم حالتهم، خشية استهداف العدو لهم وإعادة قصفهم ومحاولة قتلهم، إذ ما يزال يراقب ويتابع، ويرصد ويسجل، قبل أن يغير عليها ويصفها بأنها “صيد ثمين”.

ربما لا يستطيع أهل غزة وحدهم تجاوز هذه المحنة والانتصار على هذه الأزمة، فقدراتهم محدودة، وإمكانياتهم ضيقة، والعدو يتربص بهم ويغير عليهم، ولا يدع لهم فرصة للشفاء من جروحهم، ولهذا نرى خلف الفرحة حزناً، وفي العيون البراقة ألماً، وفي القلوب حسرةً ووجعاً، وهم وقد نسوا شهداءهم وتعالوا على أحزانهم، وعضوا بصبرٍ على جراحهم، لا يستطيعون الصبر طويلاً على معاناة الجرحى والمصابين، الذين يئن بعضهم ألماً ويشكو وجعاً، ولا يستطيع الاحتمال ضعفاً.

لهذا فإننا نهيب بكل الدول العربية والإسلامية، القريبة والبعيدة، الفقيرة والغنية، أن تفتح مستشفياتها، وأن تهيئ مراكزها الطبية لاستقبال بعض الجرحى والمصابين الذين يؤمل شفاؤهم، ويرجى علاجهم، وأن توفر لدعم اللازم والمال الضروري لاستكمال علاجهم، وتغطية تكاليف سفرهم وانتقالهم ومرافقيهم، فهذا لعمري عملٌ عظيمٌ وجهدٌ مبارك، ولا جزاء له ولا يكافئ فاعله إلا الله عز وجل، وبه نبرأ إليه عز وجل من تقصيرنا وعجزنا، ونستعيذ به سبحانه وتعالى من ضعفنا وخورنا، ويستدرك المتخاذلون بعض الدور الذي فاتهم، وينالون بعض الشرف الذي كان سيكون لهم لو أنهم سبقوا وما تأخروا، وأعطوا وما حبسوا، ودافعوا وما جبنوا، وأنفقوا وما منعوا.
يتبع ……
بيروت في 24/10/2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى