مقالات

الحوار مع التجربة

كتب رياض الفرطوسي

أخطر ما يواجهه الإنسان هو تضخم الأنا الزائفة، ذلك الشعور بالعظمة والانتفاخ الداخلي الذي يُحوّل الفرد إلى أسير قناع خارجي. هذا القناع يتغذى على الإطراء والتصفيق، لكنه في العمق يخفي شعوراً بالهشاشة والدونية لا يجرؤ صاحبه على مواجهته. هذه المفارقة تجعل صاحب “الثقة الزائفة” أكثر الناس حاجةً لتأكيد ذاته عبر الاستعراض، فيما يعيش داخلياً صراعاً مريراً بين ضعف دفين وصورة متخيلة عن التفوق.

علم النفس يوضح أن مثل هذه الشخصيات لا تمتلك ثقة حقيقية، بل ثقة مصطنعة نابعة من اضطراب داخلي وتعويض مرضي عن الفشل والإحباط. لذلك نجدها أسيرة الكذب والتبرير والتناقض، عاجزة عن الاعتراف بحقيقتها أو مراجعة مسارها، لأنها تدرك أن سقوط القناع يعني انهيار “الذات المزيفة” بأكملها.

وإذا كان هذا المرض مدمراً على مستوى الفرد، فإنه يصبح كارثياً حين يتحول إلى ظاهرة سياسية واجتماعية. ففي العراق نرى كيف تحولت بعض الشخصيات السياسية إلى رموز محنطة، تعيش على أمجاد الماضي أو شعارات الحزب والتيار أو سرديات الهوية والطائفة، دون أن تقدم حلولاً حقيقية لمشكلات الناس اليومية. هؤلاء القادة يكررون خطاباً مملوءاً بالشعارات ذاتها منذ عقود: “الوحدة الوطنية”، “محاربة الفساد”، “الدفاع عن الحقوق”، لكنها بقيت مجرد عناوين مستهلكة بلا رؤية أو مشروع واقعي.

الأخطر أن جزءاً من الجمهور يشارك في تكريس هذه الرموز، فيرفعها إلى مرتبة التماثيل التي لا تُمسّ، ويمنحها حصانة من النقد والمراجعة. تتحول السياسة هنا إلى طقوس تكرار، لا إلى ساحة تغيير. وعوضاً عن مساءلة القادة، يُعاد إنتاج الولاء لهم حتى لو أثبتوا عجزهم عن إدارة مشروعهم السياسي أو تقديم بدائل حقيقية.

هذه الحالة تُغلق باب الحوار. فالحوار لا يمكن أن يقوم مع رمز متخشب يرى نفسه فوق النقد أو يعتبر ذاته تجسيداً للأمة أو الطائفة. تماماً كما قال الفيلسوف برتراند راسل: “المتشددون واثقون بأنفسهم، أما الحكماء فيملؤهم الشك”. الحكيم يسائل ذاته ويعترف بحدود معرفته، أما الزعيم المتغطرس فيرى كل سؤال تهديداً لمكانته، ويغلف عجزه بغلاف القداسة أو الشعارات.

ما يعيشه العراق اليوم هو نتيجة مباشرة لهذه الظاهرة: إعادة إنتاج نفس الطبقة السياسية، بنفس الوجوه والخطابات، مع اختلاف طفيف في الشعارات أو المواقع. والنتيجة أن الدولة ظلت أسيرة الجمود، والشعب ظل يدفع ثمن عجز النخب التي تخلط بين السلطة والزعامة، بين المصلحة العامة وبريق الذات.

إن كسر هذه الدائرة يبدأ من الوعي الشعبي: أن يتعلم الناس التفريق بين الثقة الأصيلة المبنية على الإنجاز والعمل، وبين الثقة الزائفة القائمة على الادعاء والاستعراض. يبدأ من رفض تحويل القادة إلى تماثيل لا تُمسّ، ومن الإصرار على مساءلتهم بلغة المنجز لا بلغة الشعارات.

الحوار مع التجربة يعني أن نجرؤ على الاعتراف: التجربة السياسية العراقية منذ 2003 أعادت إنتاج العجز بأسماء مختلفة، وأن الرهان على الرموز ذاتها سيعني الدوران في نفس الحلقة. وحده النقد العميق، والمساءلة المستمرة، والبحث عن رموز جديدة قادرة على التجديد، يمكن أن يفتح الباب إلى مستقبل مختلف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى