هل تخشى أن يستبدلك “تشات جي بي تي” في العمل؟ كيف ستشعر لو أخبرك الطبيب أنه اعتمد على الذكاء الاصطناعي في تشخيص أعراضك؟ وهل ستغير رأيك بعمل فني أعجبك لو علمت أن الفنان استعان بتطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحضيره؟
قد تبدو هذه الأسئلة وكأنها مستقاة من قصص الخيال العلمي لكنها أصبحت مؤخرا واقعا معاشا أو وشيكا وخاصة بعد إصدار شركة “OpenAI” لتطبيق المحادثة “تشات جي بي تي” منذ سنة ونيف. حيث يقوم على نوع من الذكاء الاصطناعي يعرف بالذكاء الاصطناعي التوليدي (أو المولد). وكما يوحي الاسم، يتميز هذا النوع التوليدي بإنتاج وتوليد معطيات جديدة قد تكون نصا أو صورة أو صوتا.
وهذا النمط التوليدي من الذكاء الاصطناعي ليس اختراعا حديثا (نسبيا على الأقل) ولكن توفر البيانات والتقدم التكنولوجي في الفترة الأخيرة أدى إلى سهولة تطوير النماذج التوليدية مما نتج عنه هذه النقلة النوعية التي نرى أثرها من حولنا. وقد يذكر البعض ضجة مماثلة منذ حوالي السنتين أحدثتها نماذج توليدية أبهرتنا بقدرتها على خلق التصاميم وتعديل الصور (ميد جورني مثلا).
إن أهم ما تتميز به هذه النماذج وتطبيقاتها أنه حتى من لا يملك أي مهارة فنية أو تقنية في استخدام برامج التصميم أصبح بين ليلة وضحاها من خلال تلقين النموذج بنص أو صورة قادرا على توليد تصاميم جرافيك أو صور معدلة تبدو وكأنها محضرة من محترف، فهل تتحقق نبوءات الخيال العلمي وتحل الآلة التي صنعناها بأيدينا محلنا في العمل؟
سؤال استبدال الآلة للبشر في العمل سؤال قديم حديث يطرح كلما وصلت البشرية لنقطة تحول في طرق الإنتاج مثل الثورة الصناعية والأتمتة بالحاسب ويعاد طرحه هذه الأيام بقوة بعد شيوع تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وأناقش في هذه المدونة ثلاثة محاور:
خطوات أولى:
مع تفوقها الكبير على النماذج القديمة، ما زالت النماذج التوليدية (جي بي تي وأخواتها) تخطو خطواتها الأولى، وبالرغم أنها أبهرت الكثيرين في الفترة الأولى، لكن استخدامها كشف عن ثغرات وإشكالات يعمل الباحثون والمطورون على تلافيها. فمثلا يعاني بعضها من مشكلة يشار لها بالهلوسة حيث ينتج التطبيق إجابات قد تبدو صحيحة في صياغتها ولكن عند التدقيق يتبين أن المحتوى خاطئ من حيث المعلومة، فقد ينتج مثلا نصا عن حدث معين فيه تواريخ أو أسماء غير متطابقة مع الوقائع. ونجد مثل هذه الأخطاء في نماذج توليد الصور حيث يعاني بعضها من توليد صور غير واقعية من حيث الأبعاد الفيزيائية للأجسام في الصورة كالانعكاسات في المرايا أو تشوها في وضعية العينين وغيرها من أجزاء الجسد. ولن أتعرض هنا لمحاذير أخرى تتعلق بمحتوى النصوص والصور المولدة من النواحي القانونية والأخلاقية أو أمن المعلومات (مثل إنتاج صور غير لائقة أو تسريب معلومات شخصية حساسة وردت في بيانات التدريب) حتى لا يتشعب الموضوع.
دور تكميلي:
حتى الآن لا يعمل الكثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل مستقل عن الإنسان، بل تساهم في تسهيل إنجاز مهمة محددة وتقصير وقتها وقد تساعد في تحسين الجودة. فيكون دورها دور المساعد في العمل مما يفسح المجال للمستخدم للتركيز على مهام تتطلب محاكمة بشرية. والذكاء الاصطناعي قد يساهم في مهام كتلخيص النصوص أو تجميع مصادر المعلومات وكتابة نسخة أولى من مسودة تقرير، وهذه مهام تستغرق وقتا وجهدا لا يستهان بهما.
لكن كتابة النسخة النهائية قد تحتاج لجهد بشري من مختص له خبرة في هذا المجال لضمان جودة المحتوى. وقد يستعان بها في مهمات ربما تحسنها الآلة أكثر من البشر مثل الأعمال الروتينية المتكررة التي تتطلب العمل ضمن إطار ثابت مثل مراجعة وتحضير العقود أو جداول الحسابات والضرائب. ولعل أحد أبرز الأمثلة التي نلحظ من خلالها فعالية استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي كمساعد ساهم في تسريع وتيرة العمل وتحسين جودته هو تطبيقات مساعدة مبرمجي الحاسب التي بدأ المبرمجون باستخدامها في عملهم حيث يكون لها دور تقديم اقتراحات لطرق أوضح لكتابة البرنامج الحاسوبي أو آليات اختباره واكتشاف الثغرات فيه.
آفاق مبشرة:
يتوقع أن تتسبب تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة في تغيير طبيعة بعض المهن وفي إلغاء بعضها بشكل كلي في المستقبل. ولكنها أيضا ستفتح آفاقا جديدة للتعلم والإبداع والعمل لم تكن موجودة من قبل في مجالات تقنية وغير تقنية، ولعل توفر تطبيقات الذكاء الاصطناعي يكون بديلا عن خدمات حيوية غير متوفرة في ظروف معينة مثل تقديم الدعم في أوقات الحروب أو الكوارث الطبيعية. وفي البلدان النامية والبيئات ذات الدخل المنخفض سيكون لتطبيقات الذكاء الاصطناعي دور مهم في خلق فرص للتعليم والتدريب والإبداع لا تتوفر عادة إلا في البلدان الغنية ولمن لديه الإمكانات المادية، فهل نتصور كيف سيكون حالنا لو استطاع المبدعون في بلادنا إنتاج أعمال فنية تحكي قصصنا دون أن تكون مرهونة بتوفر ميزانيات شركات الإنتاج؟ وكيف سيتغير العالم لو استطاع كل طفل في أي بلد ومهما كان مستوى الدخل التواصل مع مدرس خاص به يعلمه اللغات والعلوم متوفر ليجيب عن أسئلته دون كلل أو ملل في أي وقت؟
من نسابق؟
تبقى بعض الأسئلة مشرعة عن مساهمة الذكاء الاصطناعي في أداء بعض المهن التي يكون للخطأ فيها تبعات جسيمة بسبب تعاملها المباشر مع البشر وتأثيرها على سلامتهم مثل التشخيص الطبي والدعم النفسي والتعليم، ورغم أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي أثبتت في بعض التجارب أنها قادرة على لعب دور في هذه المجالات الحساسة فإن الحذر يقتضي وضع أسس قانونية ومهنية صارمة لضمان عدم تعرض المستخدم للأذى، ويبقى أيضا سؤال جوهري يتعلق بالمهن التي يلعب الجانب الإبداعي فيها دورا محوريا مثل التأليف أو التصميم الفني أو الرسم والموسيقى. فهل يغنينا “إبداع” الآلة عن اللمسة البشرية إن كان إنتاج الآلة أسهل وأقل كلفة؟ وإذا كانت نماذج الذكاء الاصطناعي هذه من صنعنا وهي مدربة باستخدام بيانات هي أساسا من إنتاج الإنسان من كتابات وفنون، فهل يعد ما تنتجه من إنتاجنا في المحصلة؟
يعد الذكاء الاصطناعي التوليدي بفتح آفاق واسعة لتحسين ظروف الحياة والعمل لنا جميعا وفي مجالات متعددة لا حصر لها. ومع أن كثيرا من هذه التطبيقات ما يزال في حيز التطوير فإن نتائجها تحمل وعودا مبشرة بتغيير حال العمل ليصبح أعلى جودة وأسرع إنجازا وأكثر سلامة، ومع التطور السريع لهذه النماذج فإن التغييرات في مجال الأعمال ستلحق لا محالة ولكن بصورة أبطأ توازن الكلفة والجودة مع حاجات السوق وطرق الإنتاج الحالية. أما عن سباقنا مع ذكاء الآلة فهو في حقيقته سباق للإنسان مع نفسه ولعل تبني روح التطوير والتعليم المستمرين هو الطريقة الأفضل لضمان اللحاق والسبق.
موقع الجزيرة نت