
حين تخفتُ أصواتُ الرصاص لا تسكت البنادق؛ إنّها تُبدّل لغتها فحسب، بل تدخل قاموس الحياة اليومية على هيئة ظلٍّ طويلٍ يتمطّى فوق الأشياء، وتسيل- كالزيت- في عروق مجتمع ما بعد الحرب: في الذاكرة التي تنتفض على ومضةٍ عابرة، في تربية الأطفال، في التحيّات العابرة بين الجيران، في طريقة النظر إلى الشرطة والقانون والعدالة والبطولة.
“إرث البنادق” هنا ليس خشباً وحديداً وأغلفة طلقات، بل اسمٌ جامعٌ لكلّ ما خلّفته الحرب: القتلى والجرحى والأسرى والمفقودون، الأرامل واليتامى والعائلات المثقوبة، المدن المهدّمة والخسائر العسكرية والأمنية والسياسية، والاكتئاب القابع في زوايا البيوت، والرهاب الذي يتسلّل إلى اللغة فيخفض نبرة الصوت ويقصّ جناح الضحك. هذا الإرث لا يتبخّر عند توقيع الاتفاقات؛ لأنّ أثره، مثل الزيت، يلتصق بالسطح ويحتاج وقتًا وصبرًا ومعرفةً دقيقة ليُغسل.
ولكي نفهم أيّ مجتمعٍ بعد الحرب، ولنكن صرحاء: لكي نفهم اللحظة العراقية- لا بدّ من خرائط لإرث البنادق: أين يتركّز في السياسة، وأين يتخفّى في العائلة، وما طبيعة الاقتصاد الذي ينشّطه، وأيّ سردياتٍ إعلامية تغذّيه، فمن غير هذه الخرائط سنقرأ الوقائع بعينٍ عمياء، إذ لا يكفي تعداد الضحايا ولا رصدُ الخراب المادي؛ ما يحكم الأمزجة والخيارات هو ما لا يُرى مباشرةً: طبقات الخوف والشكّ، صور الهيبة والرجولة، نزاع الاعتراف والإنصاف بين من دفع الكلفة ومن لم يعشها، وكلّما تراكمت الحروب- كما في التجربة العراقية- ازدادت اللزوجة، وتحوّل الإرث من واقعةٍ مؤلمة إلى نسقٍ ثقافيٍّ يتكفّل بإعادة تعريف المعنى: ما الشجاعة؟ ما الكرامة؟ ما العدالة؟ ومن يحقّ له أن يتكلّم باسم الألم؟
هنا يتبدّى وجهٌ خفيّ من إرث البنادق: جدل الاستحقاق، من دفع الدم والسنوات واليقين، يرى أنّ له حقّاً أوسع في الاعتراف والرعاية وتوزيع المنافع، بينما تأتي أجيالٌ لم تعش الكلفة كاملةً لتقول- صراحةً أو لمزاً – “لم نطلب منكم أن تقدّموا” ، أو تُدير ظهرها ببرود الحياة حين تعود إلى سباقها اليومي.
يتولّد من ذلك نزاعٌ مركَّب: نزاعُ اعترافٍ يُطالِب بالاحترام والتمثيل، ونزاعُ توزيعٍ يُطالِب بالتعويض والخدمات، فإذا لم تُعالج الدولة هذا التمزّق بحكمة، تمدّدته الشعبويات وتجار المعنى، وصار الألم رأسَ مالٍ يُستثمر في السياسة وتقسيم المجتمع إلى طبقاتٍ من الضحايا يتنازعون الشرعية الأخلاقية فيما بينهم: من تألّم أكثر؟ من يستحقّ أكثر؟ هكذا تتحوّل الذكرى من جسرٍ يعبر عليه الناس معًا إلى جدارٍ يفصل بينهم.
إن إرث البنادق ليس حساب استحقاقٍ فحسب؛ إنّه مزاجٌ جماعيٌّ متقلّب: خوفٌ وفزعٌ وقلقٌ وانتظارٌ ويأسٌ، ومع ذلك- وفي القلب من الظلام- أملٌ فرديٌّ وجماعيٌّ لا ينطفئ.
هذه الانفعالات لا تنتهي بانتهاء الحرب، بل تُعاد هندستها داخل العلاقات والمؤسسات، فيمكن لذلك المزاج أن يصير أرضية امتناعٍ عن الحرب، ذاكرةَ ردعٍ يقظة تضع الأصابع على مواضع الانكسار كي لا نعود إليها، ويمكن أن يصير وقودَ حقدٍ لا يهدأ إذا لم يجد اعترافًا وعدالةً ومعنى.
ليس ثمة قانونٌ واحد يحكم سير هذا الإرث؛ فالحرب الأهلية- على وجه الخصوص- تضاعف التعقيد آلاف المرّات، إذ يغدو الجرح والجار من الجسد نفسه، وتختلط ملفات العدالة بالمصالحة، والذاكرة بالسياسة، والدمع بالثأر المؤجّل.
إنّ ما يزيد المسألة خطورةً أنّ المجتمع بعد الحرب يحاول، بخطواتٍ مرتبكة، أن يعود إلى الأنساق العرفية التي سبقت الحرب، لكنّ الحاجات التي خلّفها الإرث لا تعود إلى الوراء، وتظهر مفارقةٌ مؤلمة: مجتمعٌ يريد استعادة “الطبيعي” القديم، وأفرادٌ يحملون ضروراتٍ عاطفية ونفسية وجسدية ومعيشية ووجودية لا تُقاس بمسطرة الأمس، فامرأةٌ تجاوزت الخمسين فقدت زوجاً أو حياةً كاملة، وأبناؤها جزء من تركة الحرب، تطلب أن تبدأ من جديد.
ليس من العدل أن تُحاسَب بميزان العيب القديم وحده، إذ ينبغي أن يُقرأ طلبها في ضوء إرث البنادق: حقّ الروح في أن تسند نفسها بعد أن دفعت حصّتها من الليل، والأمر نفسه ينسحب على رجالٍ فقدوا أطرافاً أو عملاً ويعيدون تعريف دورهم الأسري بعيداً عن قالب “المعيل الحديدي” ، وعلى شاباتٍ فقدن شبكات الدعم التقليدية فطلبن استقلالًا سكنياً معتبراً، وعلى أسرٍ تبحث عن صيغ زواجٍ وشراكة تحفظ الكرامة دون وصم، فالعودة إلى العرف لا تعني العودة إلى الإنكار؛ والحياء الذي يحفظ الكرامة غيرُ الخوف الذي يطفئ الحقّ في البدء من جديد.
في السياسة، يستقر إرث البنادق في صميم الخيال العام للدولة: هل هي حارسُ حيادٍ مدنيٍّ بارد، أم ذراعٌ دافئة قريبة- ولو كانت خارج القانون؟ ما لم يُستعَد الاحتكار الشرعي للقوة ويُصغْ خطابٌ مدني يربط الهيبة بالقانون لا بقابلية العنف، سيبقى السلاح غائباً حاضراً: تخلو الأيدي منه لكنّه يظهر في المثل الشعبي، وفي أغنيةٍ تُذاع على غفلة، وفي صورة مقاتلٍ تتدلّى بين علم الوطن وصورة الشهيد، فيغيب حضورُه الماديّ فتتضخّم رمزيّتُه، ويغدو السلام هشّاً لأنه يستمدّ طمأنينتَه من ذاكرة الخوف لا من ثقة المؤسّسات.
هنا يُطلّ اقتصاد الظلّ: شبكات الحماية الخاصة، سوق التعويضات، الأعمال الصغيرة في الأمن الأهلي، بيعُ طمأنينةٍ مؤقّتة وشراءُ استمرارٍ أطول لفكرة “كلّ شيء قد ينقلب غداً، فتجفيف منابع هذا الاقتصاد لا يأتي بالوعظ، بل بإنتاج بدائل ملموسة: عملٍ كريم، تعليمٍ جديّ، صحةٍ مضمونة، وعدٍ بالمستقبل يمكن لمسُه لا سماعُه فحسب.
الإعلام، بما له من سطوةٍ على المخيال، هو الماسك بالأبواب بين الذاكرة والأسطورة، فحين يكرّر سرديات التمجيد- من غير مساءلة للمآلات- يطيل عمر الإرث بوصفه وعداً مستقبلياً بالقوة ويُقنّع هشاشة السلم، وحين يذهب إلى الضفّة الأخرى فيحوّل الضحية إلى مادةٍ استهلاكية أو ابتزازٍ عاطفي، يفرغ الألم من معناه الأخلاقي ويحوّل المجتمع إلى جمهورٍ يصفّق بالعادة.
المهنية الحقّة هنا أن تضع الصور في مكانها: تفكّك اقتصاد السلاح الخفيّ دون تحويله إلى بطولاتٍ سوداء، تعطي الضحايا حقَّ الاعتراف من غير أن تجعل ألمهم عملةً سياسية، وتعيد للغة قدرتها على قول التعقيد: نعم، هناك بطولة، لكن البطولة التي نحتاجها الآن هي بناء السِّلم وإقامة العدل وتهذيب الغضب.
في مستوى العلاقات الحميمة، يتسلّل الإرث إلى تفاصيل صغيرة تكاد لا تُرى: يدٌ ترتجف وهي تُطفئ المصباح، ثيابٌ تُترك قرب الباب “احتياطاً”، صرامةٌ تربوية تتقنّع بالحكمة وهي امتدادٌ لقلقٍ مقيم.
تُستبدَل قيمة “العيش معاً” بقيمة “النجاة الفردية” ، فتخفت الثقة العامة ويصبح الصمت فضيلةً دفاعية.
العلاج ليس في توبيخ الناس لأنهم خائفون، بل في اعترافٍ مؤسّسي يمنح الخوف اسماً ومكاناً وحدوداً، وفي تربيةٍ مدنية تفرّق بين الشجاعة والنزق، وبين الحياء الذي يصون وبين الخوف الذي يشلّ. ومن دون قضاءٍ يقول الحقيقة باسم العدالة لا باسم المنتصر، ومن دون طقوسٍ عمومية تكرّس الذاكرة بوصفها حارسًا للسِّلم لا وقودًا للكراهية، سيبقى الإرث حجر دومينو ينقلب بلمسة هواء.
ومع ذلك، فإنّ إرث البنادق قادرٌ- إذا أُحسن تدبيره- أن يتحوّل من حجر دومينو إلى حجر أساس.
التحويل يبدأ بسؤالٍ بسيطٍ صعب: لمن ينتمي الألم؟ إن قلنا إنه لنا جميعاً بدأنا من المكان الصحيح؛ وإن خصصناه لطائفةٍ أو منطقةٍ أو حزبٍ عدنا إلى الحرب من بابٍ لا نراه، يليه ترتيبٌ للمعاني: البطولةُ بعد الحرب ليست وعداً باستمرار القتال، بل شجاعةُ بناء السِّلم؛ والكرامة ليست قناعاً يخبّئ خوفنا، بل قدرةُ المجتمع على وضع سكينٍ على رقبة الأسطورة وترك الحقيقة تتكلم. ذاكرة الردع، بهذا المعنى، ليست خوفاً يديم الخوف بل درساً يضبط الاندفاع ويصون المستقبل، يُكتب في المناهج، ويُذاع في النشرات الرصينة، ويُجسَّد في قوانين تحرس الجميع حين تسوء الأحوال.
ليس هناك مسطرة واحدة ولا نمطٌ واحدٌ يُتنبّأ به لإرث البنادق. قد يهدّ مجتمعاً أو دولةً أو إمبراطوريةً أو حضارةً، وقد يكون العكس حجر الأساس في تشييدها.
الفارق تحدّده الخيارات الأخلاقية والمؤسّسية: كم من الاعتراف سنمنح؟ كم من الحقيقة سنحتمل؟ كم من العدالة سنجسر على تطبيقها ولو على المقربين؟ وكم من الاقتصاد الشريف سنبني كي لا يظلّ الخوف وظيفةً تُدِرّ البلحَ المرّ؟ لذلك يحتاج إرث البنادق إلى بحثٍ عميقٍ حالةً بحالة، إلى مئات الدراسات ودوائر نقاشٍ جادّة، إلى حوارٍ اجتماعيٍّ لا يهرب من الأسئلة الحارقة ولا يبتزّ العواطف، وعند هذه الدرجة من الصراحة، فقط، تتبدّل صورة البندقية: تدخل المتحف دون أن تتسرّب إلى الحلم؛ تبقى صورةُ الشهيد وصيّةً بحياةٍ لا تحتاج إلى سلاح، وتتحوّل اللزوجة التي تسري في عروق المجتمع من زيت الخوف إلى زيت الرحمة والمعرفة، فنشرع
– ببطءٍ أكيد- في كتابة معنى آخر للسلام.




