
منذ عام 2007 تعتبر قضية نفط إقليم كردستان من أكثر الملفات حساسيةً وإرباكاً في المشهد العراقي، إذ تداخل فيها القانوني بالدستوري مع الاقتصادي والسياسي. فمنذ أن اختار الإقليم إنتاج وتسويق النفط عبر عقود منفردة مع شركات أجنبية وتصديره عبر تركيا بطرق غير معلنة، بعيداً عن إشراف الدولة الاتحادية، مما وُضع العراق أمام إشكالية عميقة تمس جوهر سيادته على ثرواته الطبيعية. وهذا يعتبر تحدٍّ للدستور والقوانين النافذة.
لقد أنتج هذا المسار اقتصاداً موازياً خارج إطار الموازنة الاتحادية، وكرّس بيئة غير شفافة في إدارة أهم مورد وطني، الأمر الذي فتح الباب أمام توترات متجددة بين بغداد وأربيل، وأعاد باستمرار سؤال السيادة النفطية العراقية إلى واجهة النقاش السياسي والقانوني. ومع أن المحطات القانونية والسياسية الأخيرة قد عززت الموقف الاتحادي، إلا أن استمرار عمليات التهريب يعيد إلى الواجهة سؤال السيادة النفطية العراقية ويكشف حجم التداخل بين المحلي والإقليمي والدولي في هذا الملف.
أولاً: السياق التاريخي والإطار القانوني
منذ عام 2007، شرع الإقليم بتطوير حقوله النفطية وتوقيع عقود مشاركة مع شركات أجنبية لم تطّلع عليها بغداد، وأدار العائدات بطريقة منفردة. ومع مرور الوقت، تكرّست حالة (الاقتصاد الموازي) بين المركز والإقليم، بما مثّل تحدياً لوحدة الدولة الاقتصادية وخرقاً لمواد الدستور التي نصّت على أن النفط والغاز ملكٌ لكل الشعب العراقي وتُدار اتحادياً.
التحول المفصلي كان في عام 2023، عندما كسب العراق دعوى تحكيمية ضد تركيا في محكمة باريس لخرقها اتفاقية تشغيل خط النفط العراقي – التركي عبر السماح بتصدير نفط كردستان من دون موافقة بغداد. ونتيجة لذلك، توقّف التصدير. كما جاءت أحكام المحكمة الاتحادية العليا لتؤكد حصرية حق التصدير بيد الحكومة الاتحادية، مما أرسى أساساً قانونياً ملزماً لأي تفاوض لاحق.
ثانياً: مسار التفاوض ومخرجات الاتفاق
استمرت المماطلة أكثر من ثلاثين شهراً، بين رفض أربيل الالتزام بقرارات القضاء، وضغوط الشركات الأجنبية المتعاقدة معها. إلا أن صلابة الموقف الاتحادي وتمسكه بالمبدأ الدستوري أفضت إلى اتفاق تاريخي قضى بما يلي:
تسليم كامل إنتاج الإقليم من النفط (قرابة 190 ألف برميل يومياً) لشركة تسويق النفط العراقية (سومو). وتخصيص 50 ألف برميل يومياً لاستهلاك السوق المحلية في الإقليم. وتسويق النفط حصراً عبر سومو وفق آلياتها وضوابطها. وإيداع جميع الإيرادات في الخزينة العامة أسوة بباقي العائدات النفطية. وتعويض الإقليم عن كلف الإنتاج والنقل بمعدل 16 دولاراً للبرميل، مع مراجعة هذه الكلفة من قبل استشاري عالمي بشكل دوري وبأثر رجعي. وتجديد الاتفاق قابلاً للتفاوض بما يضمن استدامة الإطار القانوني.
ثالثاً: التهريب: الوجه الآخر للأزمة
ورغم الاتفاق، أعلنت وزارة النفط العراقية مؤخراً أن تهريب النفط من إقليم كردستان ما يزال مستمراً، وحمّلت حكومة الإقليم المسؤولية القانونية الكاملة، مؤكدة احتفاظها بحق اتخاذ الإجراءات القضائية. هذه الظاهرة ليست جديدة، ولكنها دخلت مرحلة أكثر خطورة مؤخراً، فقد شكّلت لعقود (اقتصاداً خفياً) أضعف الثقة بين بغداد وأربيل، وأهدر مليارات الدولارات من العائدات العامة. استمرار التهريب بعد الاتفاق يُقوّض مبادئ الشفافية ويطرح تحدياً جدياً أمام قدرة الدولة على فرض سيادتها الاقتصادية.
كشف النائب سامان علي، القيادي في تيار الموقف الوطني، أن حكومة إقليم كردستان هرّبت أكثر من 265 مليون برميل نفط خلال عامين باتجاه تركيا وأفغانستان، عبر معابر غير نظامية وبحماية قوات البيشمركة والآسايش. وأكد أن الأموال الناتجة من التهريب تُودع في مصارف مرتبطة بالبارزاني، وتتقاسمها الأحزاب الكردية في أربيل والسليمانية. كما لفت إلى أن توقف التصدير الرسمي عبر ميناء جيهان ساهم في ازدهار هذه التجارة غير المشروعة، التي تشهد نشاطاً غير مسبوق في الوقت الحالي.
رابعاً: البعد الدولي وضغوط أوبك
لا يمكن مقاربة ملف نفط إقليم كردستان بمعزل عن البعد الدولي، إذ لم يعد الخلاف مقتصراً على العلاقة بين المركز والإقليم، بل تعدّاه ليشكل جزءاً من التزامات العراق داخل النظام النفطي العالمي. فالعراق، كعضو في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، ملزم بحصة إنتاجية محددة تُحتسب على أساس كامل إنتاجه، بما في ذلك ما يُضخ من حقول إقليم كردستان.
هذا الواقع يضع بغداد في معادلة شديدة التعقيد: فمن جهة، عليها الالتزام بالتخفيضات المتفق عليها مع المنظمة لتوازن السوق العالمية وحماية الأسعار، ومن جهة أخرى تواجه أزمة سيطرة منقوصة على النفط المنتج في شمال البلاد، سواء عبر التصدير غير الشرعي أو عمليات التهريب.
استمرار هذه الظاهرة يحمّل العراق كلفة استراتيجية مضاعفة؛ فهو من ناحية يُظهر عجزاً عن إدارة موارده السيادية بما يضعف صورته أمام شركائه في أوبك، ومن ناحية أخرى يجعله عرضة لضغوط إضافية من المنظمة التي قد ترى في تجاوزاته تهديداً لمصداقية سياسات الإنتاج الجماعي. كما أن فقدان السيطرة الكاملة على صادرات الشمال يمنح الأطراف الإقليمية والدولية أوراق ضغط إضافية في مفاوضاتها مع بغداد، خصوصاً أن تركيا تبقى طرفاً أساسياً في منظومة التصدير عبر خط جيهان.
إن المخاطر هنا تتجاوز الحسابات المالية المباشرة إلى تآكل موقع العراق الاستراتيجي داخل منظمة أوبك، هذه المنظمة التي تُعد من أهم المنصات التي تمنح الدول المنتجة قدرة تفاوضية وجماعية على المسرح الدولي. وإذا ما استمرت حالة التهريب والانفلات، فإن بغداد لن تخسر فقط عوائد مالية ضخمة، بل ستجد نفسها في موقع المتهم بعدم الالتزام بقواعد الشفافية والاتفاقات الدولية، وهو ما قد يضعف ثقلها في أي ترتيبات مستقبلية تخص أسواق الطاقة العالمية.