
الخوف أول ما رافق الإنسان في رحلته الطويلة. منذ لحظة الكهوف مع إنسان النياندرتال، كان المجهول يترصده، والظلمة تملأ قلبه بالارتعاش. تقول نوال السعداوي إن الرجل حين اكتشف أن المرأة تنجب ارتعد أمام سرها، فحاصرها في الكهف، ودجّنها خوفاً من قوتها الخفية، وكانت تلك أول ممارسة منظمة لقمع المرأة. هكذا وُلد الخوف كغريزة وسلوك، وامتد مع الإنسان عبر التاريخ، يتلوّن بأقنعة شتى، لكنه يبقى هو ذاته: قيداً يطوّق الروح، وظلاً يسبق الخطى.
الخوف ليس مجرد عاطفة عابرة، إنه قوة مميتة. يمكن لطفل صغير أن يموت منه قبل أن يفتك به أي مرض. حدث ذلك لطفل تركته معلمته في سيارة ساعات طويلة، فلما عادوا وجدوه جثة صغيرة جمدها الهلع. الخوف يقتل قبل أن تقتلك النيران أو الرصاص. إنه موت بطيء، انتظار دائم لما لا يُعرف، توقيت ساعاتك على حدث مرعب وشيك. هذا هو الإرهاب بعينه: أن تعيش تحت الجلد اليومي، رهين فكرة أن شيئاً مروّعاً سيقع الآن أو بعد لحظة.
كتب أريك فروم “الخوف من الحرية”، وكأنه يشير إلى تلك المفارقة الكبرى: الإنسان المقموع حين يواجه الحرية فجأة قد يرتبك، وقد يفقد توازنه، لأنه عاش طويلاً في حضن الخوف حتى صار الخوف مأواه الوحيد. أما كامو فيقول: “ليس هناك أكثر دناءة من الاحترام القائم على الخوف”، لأن الخوف يحوّل العلاقة الإنسانية إلى طاعة عمياء، ويجعل الاحترام مجرد قناع لذلٍّ مقيم.
في التجربة العراقية، كان الخوف هو اللغة الرسمية لأكثر من أربعة عقود. الخوف من النظام، من السجون، من الخطابات، من البيانات، من الجدران، من الهمس في الشارع. حتى علي الوردي، حين سئل: “هل تخاف من صدام؟”، أجاب: “كيف لا أخاف من أناس هم خائفون أصلاً؟”. لقد تحوّل الخوف إلى وعي، إلى طبيعة ثانية للإنسان العراقي: الخوف من الفرح، من العتمة، من الشرطة، من الغد، من الراتب الذي قد ينفد قبل نهاية الشهر، من الموت لأنه مجهول، ومن الحياة لأنها غير مضمونة.
وحين سقطت السلطة الدكتاتورية، لم يسقط معها الخوف. بقي جاثماً في النفوس كأنه لم يبرح مكانه. كنا نظن أن سقوط الطغيان سيفتح الأبواب للحرية، فإذا بنا نكتشف أننا أسرى خوف أعمق من السجون والجدران، خوف صار جزءاً من وعينا الجمعي. الخوف من الكلام، من التعبير، من الآخر المختلف، من مواجهة الذات، ظل يتسلل إلى تفاصيل حياتنا، وكأن الدكتاتور لم يخرج من عقولنا وإن خرج من قصوره. إن التحرر من الطغيان السياسي لا يكفي، ما لم نتحرر من الخوف المزمن الذي يسكننا.
الثقافة الاجتماعية راحت تفرز نموذجاً مشوهاً: صاخباً، متغطرساً، بذيئاً، بدلاً من أن تقدم نموذجاً معرفياً رصيناً. وصارت القراءة السائدة سطحية، سياسية عابرة، لا قائمة على تدبر. نسي الناس أن أول كلمة في الرسالة السماوية كانت “اقرأ”، وأن المعرفة هي السلاح الأمثل ضد الخوف.
الخوف سلسلة اجتماعية تبدأ من البيت. نشأنا في بيوت قائمة على الطاعة العمياء، في مدارس تربي بالعصا قبل الكلمة، في مؤسسات تصادر التفكير قبل أن تمنح التعليم. صار الخوف جزءاً من وعينا الجمعي: خوف من مواكب المسؤولين التي تغلق الشوارع، من الزحام في الأسواق، من الوشاة في الدوائر الحكومية، من أصوات الانفجارات، من أحياء الصفيح التي تكبر على أطراف المدن، من باعة الفرارات في الأزقة الضيقة، من لحظة الاستيقاظ حتى لحظة النوم، بل وحتى من الكوابيس التي تداهم نومك المضطرب.
الخوف حاضر في كل التفاصيل: من الشوارع المزدحمة، من القلق والكآبة، من انطفاء الغرائز أو توهجها، من الانتظار، من الغياب، من الحاضر والمستقبل معاً. إنه خيط خفي يربط كل لحظة من حياتنا، حتى صار الخوف لغة ثانية نتكلم بها من غير أن نشعر.
لكن، وسط هذا الظلام، يبقى هناك مخرج. المعرفة وحدها هي السلاح الأجمل. أن نفكر، نقرأ، نتحاور، ننتقد، أن نتحرر من الأوهام والقناعات الجاهزة. إن الإيمان بحرية الفكر هو البداية. حين يتحرر العقل من أغلال الخوف، يستطيع أن يعيد ترتيب علاقته بالعالم، بالآخرين، بنفسه. وحينها فقط نخرج من سجن الماضي إلى أفق الحرية، ونكتشف أن مواجهة الخوف لا تكون بالهرب منه، بل بفهمه.
عندها يصبح الانتقال ممكناً: من الخوف من الحرية، إلى الحرية من دون خوف.