مقالات

هل الحرب بين تايلاند وكمبوديا جاءت لضرب القاعدة الصينية البحرية؟

ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي

شهدت منطقة جنوب شرق آسيا يوم الخميس الماضي 24 تموز تصعيداً عسكرياً لافتاً بين تايلاند وكمبوديا، في ما بدا للوهلة الأولى كجولة جديدة من النزاعات الحدودية التقليدية بين البلدين حول المثلث الزمردي. أو نزاع حول معبدين قديمين يعود تاريخهما إلى فترة أنغكور (القرنين التاسع والخامس عشر)، غير أن تحليل المشهد في سياقه الجيوسياسي الأوسع يكشف عن أبعاد استراتيجية أعمق، تتصل مباشرة بالصراع الأميركي – الصيني على النفوذ في المنطقة، وخصوصاً في المجال البحري.

أولاً: ما هي القاعدة البحرية الصينية في كمبوديا؟

على مدى العقد الماضي، كثّفت الصين من حضورها العسكري والاقتصادي في جنوب شرق آسيا، وخصوصاً عبر تطوير منشآت بحرية على السواحل الكمبودية، وأبرزها قاعدة تُعرف باسم قاعدة “ريام البحرية” (Ream Naval Base). تقع على الساحل الجنوبي لكمبوديا، وتُعد موقعاً استراتيجياً يطل على خليج تايلاند، ومنه إلى مضيق ملقا. حصلت الصين على حق استخدام أجزاء من القاعدة بشكل حصري بعد استثمارات عسكرية ولوجستية ضخمة. كما يُعتقد أن هذه القاعدة هي أول قاعدة بحرية صينية فعلية في جنوب شرق آسيا. ورغم إنكار الحكومة الكمبودية منح الصين امتيازاً حصرياً لاستخدام القاعدة، إلا أن العديد من التقارير الاستخباراتية – بما فيها ما نشرته مصادر أميركية وأسترالية – تشير إلى أن القاعدة شهدت توسعة عسكرية بتمويل ودعم صيني مباشر، مع منشآت يُعتقد أنها مصممة لاستيعاب القطع البحرية الصينية.

ثانياً: لماذا هذه القاعدة تشكل تهديداً؟

1. تهديد لواشنطن وحلفائها (أستراليا، اليابان، الفلبين): هذه القاعدة تُمكن الصين من التوسع في المحيط الهندي وغرب المحيط الهادئ. تسهّل عمليات الإمداد والردع في أي صراع محتمل على تايوان أو في بحر الصين الجنوبي.
2. تهديد لدول جوار كمبوديا: فيتنام وتايلاند تعتبران الوجود العسكري الصيني تهديداً مباشراً على حدودهما. هذه القاعدة تقوّض توازن القوى التقليدي في المنطقة.

ثالثاً: لماذا يُرجح تورط غير مباشر للولايات المتحدة؟

الولايات المتحدة لا تستطيع مهاجمة القاعدة مباشرة دون إثارة حرب مع الصين. لكنها قد تستخدم أذرعها المحلية أو الإقليمية (كما فعلت في أوكرانيا ضد روسيا)، لدفع دولة قريبة (تايلاند) لإشعال صراع، قد يغرق كمبوديا في فوضى أمنية، ويُربك التمدد الصيني، ويوجه رسالة ردع للصين عبر وسيط محلي.
تماماً كما تستخدم الصين “كوريا الشمالية” للضغط، والولايات المتحدة تستخدم “أوكرانيا” ضد روسيا، يتم الآن استخدام تايلاند (وحتى فيتنام بشكل غير مباشر) لخلق بؤرة توتر أمام القاعدة الصينية.

رابعاً: مؤشرات دعم أميركي – غير مباشر – لتايلاند

رغم امتناع الولايات المتحدة عن إعلان أي دعم مباشر لتايلاند في النزاع الحدودي مع كمبوديا، إلا أن ثمة مؤشرات استراتيجية متراكمة تعكس وجود دعم غير مباشر، يدخل ضمن إطار أوسع لمواجهة التمدد الصيني في جنوب شرق آسيا منها:
1. المناورات المشتركة السنوية بين الجيشين التايلاندي والأميركي (Cobra Gold).
2. وجود معدات أميركية لدى الجيش التايلاندي، خاصة الطائرات F-16.
3. دعم إعلامي وتحريضي من منصات مرتبطة بالغرب ضد الدور الصيني في كمبوديا.
4. تقارير استخباراتية غربية تشير منذ سنوات إلى تحول كمبوديا إلى “دولة عميلة” لبكين.

خامساً: من المستفيد من الحرب؟

في الصراعات الإقليمية المحكومة بتوازنات القوى الكبرى، لا يمكن فهم الحرب من زاوية الجبهات المشتعلة فقط، بل يجب تتبُّع خطوط المصالح الأبعد التي تحدد شكل الانتصار والهزيمة حتى قبل إطلاق الرصاصة الأولى. الحرب الجارية بين تايلاند وكمبوديا ليست استثناءً؛ إذ تبدو ساحتها محلية، لكن مخرجاتها الإقليمية والدولية ترسم ملامح المستفيدين الحقيقيين.

الولايات المتحدة
لعلّ الطرف الأكثر استفادة حتى الآن هو واشنطن. بدون أن تُزج بجندي واحد، تُتاح لها فرصة اختبار حدود التمدد الصيني من خلال الحرب بالوكالة. الولايات المتحدة ترى في هذه الحرب وسيلة لقياس مدى استعداد بكين للدفاع عن مصالحها البحرية خارج نطاقها التقليدي، وتقدير حجم التورط السياسي والعسكري الصيني في حال اندلاع صراع مفتوح. والأهم، أن واشنطن تعيد توكيد علاقاتها الدفاعية مع حلفائها الآسيويين عبر هذا الضغط غير المباشر.
تايلاند
على المستوى الإقليمي، تمثل تايلاند الرابح الأول من الناحية التكتيكية. فالحرب تمنحها فرصة لضرب مشروع صيني استراتيجي يتموضع عند خاصرتها الشرقية، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع بكين. كما أن الخطاب القومي التايلاندي يجد في هذه الحرب فرصة لتعزيز الدعم الشعبي، عبر الدفاع عن “السيادة الوطنية” ومواجهة ما يُقدَّم للرأي العام كـ”اختراق صيني للمنطقة”. وإذا نجحت بانكوك في تعطيل أو إضعاف القاعدة البحرية في “ريّام”، فسيُعد ذلك إنجازاً استراتيجياً على مستوى الأمن القومي.
الصين
من جهتها، تراهن بكين على قدرة كمبوديا على الصمود، ليس فقط عسكرياً، بل سياسياً كذلك. إذا نجحت كمبوديا في الحفاظ على موقع القاعدة واستمرار تشغيلها تحت الحماية الصينية، فإن بكين ستكون قد مررت مشروعاً حساساً في بيئة عدائية، وكسرت الخطوط الحمراء الغربية دون إطلاق مواجهة كبرى. مثل هذا السيناريو سيمنح القاعدة البحرية شرعية الأمر الواقع، ويحولها إلى حجر أساس في شبكة النفوذ البحري الصيني.
كمبوديا
أما كمبوديا، فهي الطرف الأكثر هشاشة في المعادلة. صحيح أنها تسعى لإظهار الولاء لبكين وضمان استمرار تدفق الدعم الاقتصادي والعسكري، لكنّها مهددة بالاستنزاف، سياسياً وعسكرياً. فإذا طالت الحرب، فقد تجد نفسها في مواجهة عزلة إقليمية، وداخلية، وربما اضطرابات سياسية، خاصة إن بدأ المجتمع الدولي بالنظر إلى القاعدة الصينية كأداة تهديد للاستقرار الإقليمي.

في المحصلة، يمكن القول إن الحرب تمثل فرصة إستراتيجية للولايات المتحدة وتايلاند، واختباراً جيوسياسياً للصين، ومغامرة عالية المخاطر لكمبوديا. والمفارقة أن المنتصر قد لا يُحدَّد في ميدان القتال فقط، بل في مخرجات التوازنات بعد وقف إطلاق النار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى