الديمقراطية في جوهرها هي التجريد الإنساني، حيث لا تُقاس قيمة الفرد بهويته، قوميته، دينه، مذهبه، عقيدته، حالته المالية أو الاجتماعية، بل يُعامل كإنسان فقط. إنها نموذج فكري قائم على المساواة والحرية. لكن كيف يمكن أن تنجح الديمقراطية في مجتمعاتٍ ما زالت تقيد الأفراد بتقاليد وعادات متوارثة تفرض عليهم خياراتهم في الحياة؟
كيف يمكن الحديث عن الديمقراطية في مجتمعاتٍ تُحدد فيها الأم زوجة الابن، ويُفرض العرف نوع الدراسة والعمل؟ هذه المجتمعات التي تُسيطر عليها الأعراف والقوانين الجامدة، لا تسمح بتبني فكرة الديمقراطية بمعناها الحقيقي، بل تحوّلها إلى وهمٍ جميل يختبئ خلف الشعارات الرنانة .
لا يمكن للديمقراطية أن تزدهر في بيئةٍ محكومة بثقافة عشائرية وقيم تقليدية جامدة ترسخت نفسياً واجتماعياً على مدى قرون. هذه الثقافة ليست فقط معاديةً للتغيير، بل ترفض كل محاولة للتحرر من الطقوس والأساطير الاجتماعية التي تُقيّد التفكير والإبداع .
مجتمعٌ غارق في الشعارات والخطب الأيديولوجية، محكومٌ بتعدد مرجعياته الدينية والاجتماعية والفكرية، ويعيش تحت وطأة الإكراه والوصاية، لن يكون قادراً على احتضان الديمقراطية أو تطبيقها. التجارب السياسية في بلداننا تُظهر أن حتى من يدّعون الليبرالية والديمقراطية غالباً ما يتراجعون عنها عند وصولهم إلى السلطة، بحكم الخلفيات الاجتماعية والعقائدية التي يحملونها .
الديمقراطية ليست مجرد صندوق اقتراع أو حقٍ نظري في التصويت. إنها منظومة شاملة تستند إلى مبادئ اجتماعية، فكرية، واقتصادية متينة. كيف يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية في غياب اقتصادٍ قوي، وبدون نهضة علمية وفكرية وقانونية، ومع استمرار هيمنة النزعة العشائرية والمناطقية والقومية؟
الديمقراطية تتطلب مجتمعاً فاعلًا يمتلك رؤية حضارية للتغيير، لكن واقع الحال يظهر أننا نفتقر إلى مشروعٍ مجتمعي شامل. المجتمعات في منطقتنا لا تزال متقوقعة داخل قوالبها الطائفية، العشائرية، القومية، والحزبية، حيث تنعدم الرؤية المستقبلية ويتكرر الخطاب المعلّب الذي يغذي الجهل والآمال الزائفة.
التغيير الحقيقي يبدأ عندما تُكسر القيود النفسية والاجتماعية التي تعيق التفكير الحر، وعندما يصبح التعليم والثقافة أدوات للتحرر لا للتقوقع. الديمقراطية ليست وهماً في ذاتها، لكنها تصبح كذلك في مجتمعاتٍ لم تتخطَّ بعد عتبة التقاليد الموروثة، ولم تستوعب أن أساس الديمقراطية الحقيقي هو تحرير الإنسان من قيود الماضي.
بدون مشروع حضاري، رؤية مستقبلية، ووعي اجتماعي حقيقي، ستظل الديمقراطية في مجتمعاتنا مجرد سراب يُخفي خلفه واقعاً بعيداً كل البعد عن مبادئ الحرية والمساواة.