* التقديم :
الإسلام خمسة أركان ، آخرها حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا ، ولا يصح إسلام المرء إن لم ينوي الحج مرة واحدة على الأقل في عمرة عند استطاعته لذلك ، والحج ملتقى للمسلمين من كل المذاهب والأعراق طالما أن الإسلام يجمعهم .
فالحج هو ذلك المؤتمر الإسلامي الأكبر الذي يتجدد في كل عام في أقدس بقاع الله في الأرض ، وهو طريق واضحة للوحدة والجامعة الإسلامية إذا شاء الحكام وساعدوا عليه واستغلوا إمكانياته وطاقاته الخيرة الكبرى ، إذ هو العبادة الجماعية الحسية المتميزة في الإسلام بهذا الوصف ، فمناسكه وشعائره كلها مفروضة الأداء بصفة جماعية في حد ذاتها ، أو لأن وقتها محدود في أيام معلومة معينة ، وهي قائمة أساسا على التجمع والتكتل والتعارف والتآلف ، وكل جماعة تؤم البيت الحرام وتفيد من منجزات الحج ، تكون خير رسل لأقوامها تبلغهم ما يجب عليهم ، وتبعثهم على إنجاز ما يلزم ، ومع الزمن يتصل حبل الجماعة وتتضافر جهودها في بناء الوحدة والأجيال القادمة بتكرار مناسبات الحج كل عام …
وواضح أننا لا نجد لغير الحج من فرائض وعبادات الإسلام الأخرى هذه الصفة الجماعية الذاتية ؛ لأن تلك العبادات يمكن القيام بها بصفة منفردة ، وهي إما ذات نفع شخصي محض ، أو ذات هدف اجتماعي على بقع ضيقة بدليل جعل الجماعة في الصلاة فرضا كفائيا في كل بلدة ، وأن الزكاة لا يجوز نقلها إلى بلد آخر إلا في ظروف ما ، وهذا لا عيب فيه؛ بل هو فضيلة لما فيه من تمتين بناء الجبهة الداخلية ، وتكافل كل جماعة قليلة فيما بينها ، باعتبار أنها أعرف بمناطق عيشها ، وأهل موطنها ، مما يدعو إلى اتحاد الجماعات الصغرى ، واجتماع كلمتها ، ووقوفها صفا واحدا إزاء مصالحها المشتركة ، وتوثيق عرى التآلف وتبادل المحبة والإخاء بين أفرادها ، كما يحصل ذلك – أيضا – في أداء صلاة الجمعة والعيدين .
* حقيقة الحج :
لا بد أن يكون للحج مفهومه التجديدي ، وقد أبان العلامة الدهلوي في “حجة الله البالغة” حقيقة الحج وأثره التجديدي في المجتمع فقال : اعلم أن حقيقة الحج اجتماع جماعة عظيمة من الصالحين في زمان يذكر حال المنعم عليهم من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، ومكان فيه آيات بينات قد قصده جماعات من أئمة الدين معظمين لشعائر الله متضرعين راغبين ورادين من الله الخير وتكفير الخطايا ، فإن الهمم إذا اجتمعت بهذه الكيفية لا يتخلف عنها نزول الرحمة والمغفرة ، وهو قوله صلى الله عليه وآله سلم : ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة… الحديث ، ثم قال : “وكما أن الدولة تحتاج إلى عرضة – أي اختيار – بعد كل مدة يتميز الناصح من الغاش ، والمنقاد من المتمرد ، وليرتفع الصيت وتعلو الكلمة ، ويتعارف أهلها فيما بينهم ، كذلك الملة تحتاج إلى حج ليتميز المؤمن من المنافق ، وليظهر دخول الناس في دين الله أفواجا ، وليرى بعضهم بعضا ، فيستفيد كل واحد ما ليس عنده ، إذ الرغائب إنما تكتسب بالمصاحبة والترائي…” .
والمكاسب الجماعية التي تتحقق بالحج متعددة متنوعة ، منها سياسي ومنها اقتصادي ، فبالمجتمع المنظم وبتمثل وإدراك غايات الحج يلتقي المسلمون على منهج واحد ، وخطة عمل موحدة ، ويقيمون دولة واحدة وإن تفرقت الحدود ، وبالتعارف والتآلف تتعرف الشعوب حاجات بعضها وموارد وإنتاج بلدانها ، بالإضافة إلى ما تقوم به السفارات والقنصليات الحديثة والوفود الاقتصادية من دور وخدمة رسمية في هذا الشأن ، وبالاجتماع في صعيد الحج يستنصر الضعيف بالقوي ، ويستعين صاحب الخطر الداهم بالبعيد عنه لدفع الأخطار وصد العدوان والضغط على الحكام المحليين إذا تراخوا وقصروا في القيام بواجبهم العام نحو إخوانهم المهدد وجودهم أو مصالحهم. وبذلك تتضح صور المواقف جلية وتنجلي الرؤى التي قد تشوهها أو تزيفها أو تسكت عنها وسائل الإعلام الحديثة .
* أهداف الحج الجماعية :
تتجلى أهداف الحج الجماعية من وجوه مختلفة في التشريع الإسلامي ، وأخصها بناء الوحدة الإسلامية : ففي أصل إيجاب الحج خاطب الحق تبارك وتعالى المكلفين بعبارة “الناس” التي هي أعم من عبارة “يا أيها الذين آمنوا” التي يغلب استعمالها في المطالبة بأداء العبادات ، فقال سبحانه {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت} ، {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجّ} ، وكان نداء إبراهيم عليه السلام تنفيذا لهذا الأمر الإلهي : “يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا ، فحجوه ، فيقال أجابه الجبال والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك” مما يدل على معاني الشمول والإحاطة في أصل مفهوم الحج ، وما أجمل تعبير النبي – صلى الله عليه وسلم – بوصف الحجاج أنهم وفد الله حيث قال : “الحجاج والعمار وفد الله ، إن دعوه أجابهم ، وإن استغفروه غفر لهم” والوفد في اللغة : الجماعة المختارة لشأن مهم ، وليس هناك أهم شأنا من العمل على توحيد الصف الإسلامي ، وفي سبيل ذلك وردت أحاديث نبوية كثيرة ترغب في الحج وتبين فضله ، وأنه يلي مرتبة الإيمان بالله ، والجهاد في سبيل الله : “من حج فلم يرفث ، ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه” ، “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” .
وقد ذكرت أحكام الحج في سورة البقرة بعد أحكام القتال في سبيل الله باعتبار أن الجهاد طريق تكوين الجماعة وبناء كيانها وحفظ وجودها .
وأما الحج فهو سبيل توحيد الأمة ولَمِّ أشتاتها وجمع كلمتها واتجاهها نحو غاية واحدة ، وبعدئذ أعقب الله تعالى ذكر النفاق وعلامات المنافقين تحذيرا من خطر التجرؤ والتفرقة والدسائس ؛ إذ ليس هناك كالنفاق أعظم تهديما منه لصرح بنيان الجماعة وتقويض شوكتها وبعثرة جهودها وعرقلة سيرها نحو سمو الهدف المنشود ، والحج طريق نبذ المنافقين والمثبطين المعوقين لإقامة الوحدة بين المسلمين .
إن في أجواء الحرية والسلام والمساواة بحق تنبت الأفكار الصالحة ، وتتهيأ الخطط الملائمة ، وتتضح معالم الشخصية الإسلامية الذاتية التي تريد الاستقلال والوحدة والتقدم وإقامة العدالة الشاملة في شئون الحياة ، وأخصها الاستفادة من منتجات البلاد وعطاء الله الخير : {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} ، أي إن جميع ما في الكون مخصص للناس على جهة الانتفاع المشاع ، دون استئثار ولا احتكار ولا استغلال .
وحيثما تقلب الحاج لأداء مناسك الحج يجد لفتة قرآنية إلى ضرورة التآخي والتعاون وتغيير مفاسد المجتمع وتجديد شباب الحياة وقلب الأوضاع الاجتماعية بأعدل الوسائل وأكرم الغايات ؛ ففي قوله تعالى بعد ذكر بعض أحكام الحج {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَاب} حث على فعل الخير والتزود من التقوى ، والخير اسم جامع لكل الفضائل الاجتماعية ، والتقوى التي هي التزام الأوامر والنواهي الإلهية عنوان بارز على التقيد بآداب المجتمع كما حددها الله ، ومن أولى الأوامر وأهمها المطالبة بوحدة الجماعة الإسلامية ودعمها: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} ، {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم} .
وفي قوله سبحانه {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا} دلالة على أهمية النتائج المستفادة من الحج ، وإدامة تذكر المطالب والمقاصد الربانية والتزام الأوامر العامة إثر التفرق في أرض الله ، ومن أوجبها قوة الإحساس بمشاعر الأخوة ، وعواطف الإيمان ، وتقوية الوحدة ، وإحكام روابطها الأساسية : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، ومن المعروف أن سبب نزول آية الأمر بذكر الله يوحي بضرورة التجمع على أساس الصالح العام ، فقد كان أهل الجاهلية يقفون في مجامعهم في الموسم ، فيفاخرون فيها بآبائهم ، ويذكرون أنسابهم وفعال آبائهم ونحو ذلك مما لا نفع فيه .
وليس في الدعوة إلى الاتحاد بين المسلمين هدف سوى قوة الجماعة ورهبة جانبها وتحقيق الخير والنفع الكبير لهم في الدنيا والآخرة ، وهذا هو شعار الحجاج المؤمنين البررة : {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَاب} .
يبدو لنا من كل هذه الإشارات النصية أن العبادة – لا سيما الحج – لا تقصد لذاتها كما أشرنا ، وإنما لما تتمخض عنه أو تهدف إليه من إصلاح عام ، أو خير جماعي شامل ، وأما الأحاديث المرغبة في الحج فهي لبعث الهمم وشحذ العزائم باعتبار أن الإنسان لا يقدم على فعل شيء غالبا إلا إذا كان منساقا بغايات نفعية خاصة ، وهذا لا ننكره عملا بمقتضى الأحاديث المقررة للثواب العظيم لمن بر في حجه .
ولكن لا يصح الاكتفاء بالثمار الخاصة للحج ، وإنما لا بد من تمثل الأهداف البعيدة التي يرمي إليها المشرع من وراء أداء شعائر الحج وتعظيم حرماته وإطعام المحتاجين والإنفاق في سبيل الله ، وهذا ما يميز الغرض من فريضة الحج في الإسلام عن غيره من الديانات كاليهودية والمسيحية والبوذية مثلا التي تقصر معنى الحج على التقديس والتبريك والتطهر من الذنوب والخطايا ، أي إنه مجرد عبادة شخصية ؛ ولذا فلم تثر اهتمام المستعمرين الغربيين بشأن الحج ، وحاولوا عزل الحجاج عن الاهتمام بالمصالح العامة ، وقصر نشاطهم على العبادة المحضة والتزويد منها للآخرة ، وترك قضايا الدنيا لأهلها وللحكام فيها ، وفي ذلك البيان المبين !!
ولعل ذلك هو السبب – بالإضافة إلى جهل الحجاج وعدم إدراكهم مغزى الحج – في أن الحاج الواعي يؤوب إلى بلده يائسا أو آسفا على عدم الإفادة من طاقات هذه الجموع المؤمنة الغفيرة في مضمار الحياة العامة وقضايا الإسلام الكبرى ومصير المسلمين ، وقد بدت بوارق أمل باسمة وصيحات إسلامية واعية بضرورة الاستفادة من موسم الحج وعقد المؤتمرات إسلامية متكررة ، لكن لم تجد للآن صدى وتجاوبا صادقا في تنفيذ مقررات تلك المؤتمرات ، مما يؤكد ما ندعو إليه من أن الحكام هم المسئولون عن توحيد روابط المسلمين في العصر الحاضر مع جهد الأفراد الصفوة الثقات .
* الحج في فكر الإمام الخميني :
على الرغم من أنّ الحج في الدين الإسلامي الحنيف واحد في أغلب تفاصيله ، يتفق المسلمون على صلبه ويختلفون في بعض تفاصيله ، وأن المسلمين يؤدوا مناسكهم في وقت واحد ، ولكن المسلمين لا يفقهون كثيرا الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية لركن الحج العظيم ، إلاّ أنّ الإمام الخميني تميز بين أقرانه العلماء برأيه المتميز في هذه الفريضة الإسلامية ، فإن ما أتى به الإمام الخميني هو أن أخرجه من جموده وروتينيته ، مضيفاً إليه معنىً حيوياً جديداً ، فقد نادى بتفعيله وتحريكه على الساحة الإسلامية … فلم يعد ذلك الحج الطقوسي أو الشعائري الجامد ، لم يعد مجرّد سفر وحركات محددة وأداء واجبات معينة ، وإنما صار إضافة إلى الأداء الصحيح لمراسمه وأركانه ، صار فريضة فاعلة لعبت دوراً حيوياً في الحياة الاجتماعية والسياسية والنفسية …
فأصبح من خلال أفكار الإمام الخميني أقرب إلى المؤتمر السنوي الحامل لرسالة الوعي والإرشاد ، يستضيء المسلمون بضوئه في حياتهم وسلوكهم دنيا وآخرة .
وهذا طرح جديد على مستوى الحياة الإسلامية الدينية اقتضتها ضرورة التجديد وإصلاح حال الأمة الإسلامية التي جمدت على أفكار لابد من تفعيلها .
والجدير بالذكر أنّ الأمام ركز على أهم مقومات الحج ، كما ركّز العلماء الآخرون عليه ، لكنه تميز أن فرّع من تلك المقومات الشرعية أبعاداً أبعدَ مدىً من المادة الفقهية والشرعية ، فأقام أسساً جديدة جمع من خلال المادة الفقهية بالحياة العملية للإنسان ، فأخرج بذلك الحج من الفكرة النظرية المجردة إلى واقع عملي يعيشه الإنسان بكلّ جوارحه ، وذلك هو ما مارسهُ الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ، عندما كانوا يعتبرون الحج قاعدة حوار فكري وساحة تربوية ومدرسة علم ومعرفة لكل أبعاد الحياة وساحة صراع مع شياطين الإنس والجن ، بل كانوا عليهم السلام يعتبرون الحج الساحة التي يريدون للأمة المسلمة أن تسير في خطّها الإسلامي المستقيم ، في خطة توجيهية عملية شاملة .
إن المؤمن الصادق الطموح يجهد نفسه في أداء مناسك الحج بشكل متقن وصحيح وبنفس طاهرة متعلقة بخالقها ومعبودها ; لأنّ نفسه تنظر إلى المرآة الإلهية قبل أن تنظر إلى المرآة الاجتماعية والاقتصادية وغيرهما ؛ بحيث يكون سلوكه الذاتي والداخلي والروحي مطابقاً للخطاب الشرعي {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فج عميق} .
* من أفكار الإمام الخميني عن الحج :
إن مفهوم الحج لدى الإمام الخميني يتضح في خطاباته لحجاج بيت الله الحرام ، ففيها عن مفهوم الحج الروحي والثقافي والاقتصادي والسياسي على السواء ، فقد وجه الإمام الخميني خطابات عديدة في هذا المجال ; ليبين أنّ على الحاج أن يطهّر نفسه ويخلي قلبه من كلّ شيء إلاّ حب الله والطاعة والخضوع له ، وأنه يجب عليه أن يربط روحه بمعبوده الواحد الأحد ، فقد قال رضي الله عنه محدثاً الحجيج : «عندما تلفظون لبيك اللهم لبيك ، قولوا : لا ، لجميع الأصنام ، واصرخوا : لا ، لكلّ الطواغيت الكبار والصغار ، وأثناء الطواف في حرم الله حيث يتجلى العشق الإلهي ، اخلوا قلوبكم من الآخرين ، وطهروا أرواحكم من أي خوف لغير الله … وفي موازاة العشق الإلهي ، تبرأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة والطواغيت وعملائهم وأزلامهم ، من حيث أنّ الله تعالى ومحبّيه تبرّوا منهم ، وإنّ جميع أحرار العالم بريئون منهم ، وأثناء سعيكم بين الصفا والمروة اسعوا سعي من يريد الوصول إلى المحبوب ، حتى إذا ما وجدتموه هانت كلّ الأمور الدنيوية ، وتنتهي كلّ الشكوك والترددات ، وتزول كل المخاوف والحبائل الشيطانية والارتباطات المادية .
وحين تلمسون الحجر الأسود اعقدوا البيعة مع الله أن تكونوا أعداء لأعداء الله ورسوله والصالحين والأحرار ، ومطيعين وعبيداً له ، أينما كنتم وكيفما كنتم ، لا تحنوا رؤوسكم واطردوا الخوف من قلوبكم ، واعلموا أنّ أعداء الله وعلى رأسهم الشيطان الأكبر جبناء ، وإن كانوا متفوقين في قتل البشر وفي جرائمهم وجناياتهم .
ويسترسل الإمام في حديثه للحجيج مذكرهم بالاطمئنان القلبي الحاصل من الحالة العرفانية التي يعيشها العبد من معبوده ومحبوبه قائلا : سيروا إلى المشعر الحرام وعرفات وأنتم في حالة إحساس وعرفان ، وكونوا في أي موقف مطمئني القلب لوعد الله الحق بإقامة حكم المستضعفين ، وبسكون وهدوء فكّروا بآيات الله الحق ، وفكّروا بتخليص المحرومين والمستضعفين من براثن الاستكبار العالمي ، واطلبوا من الحق تعالى في تلك المواقف الكريمة تحقيق سُبل النجاة . بعد ذلك عندما تذهبون إلى منى أُطلبوا هناك أن تتحقق الآمال الحقّة حيث التضحية هناك بأثمن وأحب شيء في طريق المحبوب المطلق ، وأعلموا أنه ما لم تتجاوزا هذه الرغبات ، التي أعلاها حبّ النفس وحبّ الدنيا التابع لها ، فسوف لن تصلوا إلى المحبوب المطلق … وفي هذا الحال ارجموا الشيطان ، واطردوا الشيطان من أنفسكم ، وكرروا رجم الشيطان في مواقع مختلفة بناءً على الأوامر الإلهية ; لدفع شرّ الشياطين وأبنائهم عنهم .
هذا .. وقد أكّد الإمام مراراً وتكراراً أنّ هذا السفر سفر إلهي وليس سفراً عادياً مادياً مجرّداً ، وأنّ المراتب المعنوية للحج هي رأس مال الحياة الخالدة وهي التي تقرّب الإنسان من أفق التوحيد والتنزيه ، وأنّه لن يحصل عليها الحاج ما لم يطبق أحكام وقوانين الحج العبادية بشكل صحيح وحسن … وحرفاً بحرف ، وإذا دفن الحاج في عالم النسيان الجوانب المعنوية فلا يظن أنه قادر على التخلص والتحرر من مخالب شيطان النفس ، وما دام في أسر وقيد ذاته وأهوائه النفسية فلن يستطيع جهاداً في سبيل الله ودفاعاً عن حرماته تعالى … ومن الجدير بالمعرفة أنّ روح الحاج من خلال المراسم العبادية تسمو وترتفع إلى أعلى درجات الكمال النفسي والروحي مع المعبود المحبوب من خلال تطبيق المناسك بالشكل الصحيح المتقن ومن خلال الأدعية والخوف والانسجام والتضرع والبكاء ، خصوصاً عندما يشعر الحاج أنه من أناس يخافون الخالق ويهابونه في بيته وحرمه الشريف ، يقول الإمام : “اعلموا جميعاً أنّ البعد السياسي والاجتماعي للحج لا يتحقق إلاّ بعد أن يتحقق البُعد المعنوي ” .
* البُعد التربوي والأخلاقي للحج في فكر الإمام :
إن مناسك الحج ومراسمه ما هي إلاّ دورة تدريبية تربوية للنفس والروح والبدن على السواء لصنع إنسان الحياة الحرّ في فكره وإرادته وفي حركة الحياة من حوله غير منقاد لأعداء الله شياطين الإنس والجنّ كبيرهم وصغيرهم .
فالأفعال العبادية والتروك والالتزامات ، كلّ هذه التعابير الجسدية والنفسية وسيلة من وسائل انتظام الخُلق وسموه ككيان روحي فكري أخلاقي عبادي متميز ، ولهذا نجد الإمام رضي الله عنه) اهتم بهذا الجانب; لأنه الوسيلة الناجعة لارتقاء المسلم الأبعاد الأخرى ، فقد جاء عنه قدس سره : “في المواقيت الإلهية والمقامات المقدسة ، في جوار بيت الله المليء بالبركات ، راعوا آداب الحضور في الساحة المقدسة للعليّ العظيم ، وحرّروا قلوبكم أيها الحجاج الأعزاء من جميع الارتباطات المتعلقة بغير الله” .
وفي محل آخر بيّن الإمام عنه أنّ الحجاج الحقيقين الواعيين المعتبرين يرجعون إلى أوطانهم حاملين الأخلاق المفروضة عليهم بالحج وكأنها ملكة تأصلت بروحهم والتصقت بتصرفاتهم ، فيقول : «وبنبذهم ما يمايزهم من اللون والقومية والأصل ، يعودون الى أرضهم وبيتهم الأول ، وبمراعاتهم للأخلاق الإسلامية الكريمة ، وتجنبهم للجدال ومظاهر الزينة ، يجسدون صفاء الأخوة الإسلامية ومظهر وحدة الأمّة المحمدية .
ففي الحج يتعود المسلم الألفة ، والتعارف عن طريق السفر والاختلاط ، فتنمو لديه الروح الاجتماعية ، وتتهذب ملكاته الأخلاقية ، عن طريق هذه الممارسة التربوية ، والتفاعل البشري الرائع ، الذي يشهده في الحج ، بأرقى درجات الالتزام ، والاستقامة السلوكية ، من خلال المناسك والمراسم الشرعية ، وكثير ما يتغير الإنسان إلى الأفضل ، فهو يربي – أي الحج – النفس على السلوك الصالح ويقضي على النوازع السلبية لدى الإنسان المسلم الملتزم الصادق مع الله ومع نفسه ، فيتعود الحاج على الصبر ، واحتمال المشاق والصعاب ، إضافة إلى تعوده من خلال المعاشرة على حسن الخلق والصدق واتساع الصدر للمجاملة والنقاش أو المجادلة والحوار مع الحجاج الآخرين ، ويتعود اللطف ، والتواضع ، واللين ، وحسن المحادثة ، والتعاطف ، والكرم ، والامتناع عن: الكذب ، والخصومة والغيبة والنميمة والتكبر ، والعظمة ، والجدال وغيرها حيث قال تعالى {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} .
وهذه النواهي في الحج تساهم في بناء شخصية المسلم ، وتعمل على إعادة تنظيمها ، وتصحيح مسيرتها في الحياة ، وتسد وجهتها ومسارها إلى الله تعالى … وتزرع في النفس مكارم الأخلاق وتقودها إلى استقامة السلوك ، وحسن المعاشرة ؛ فقد قال الإمام الخميني مخاطباً الحجاج حاثّاً على مكارم الأخلاق: «أخرجوا من قلوبكم غير حب الله ونوّروها بأنوار التجليات الإلهية ، حتى تكون الأعمال والمناسك في سيرها إلى الله مليئة بمضمون الحج الإبراهيمي وبعده بالحج المحمدي ، وبمقدار تخفيف الحمل من أفعال الطبيعة يسلم الجميع من أوزار المنى والمنية ، وبحمل ثقل معرفة الحق وعشق المحبوب تعودون إلى أوطانكم ، وتجلبون للأصدقاء هدايا النعم الإلهية الأزلية بدل الهدايا المادية الفانية ، وبقبضات مليئة بالقيم الإسلامية التي بعث لأجلها الأنبياء العظام من إبراهيم خليل الله إلى محمد حبيب الله صلى الله عليهم وآلهم أجمعين ..
وقال في مكارم الأخلاق وتربية النفس أيضا ً: “… تلتحقون بالرفاق عشّاق الشهادة . هذه القيم والدوافع التي تحرّر الإنسان من أسر النفس الأمارة بالسوء ، وتنجّي من الارتباط بالشرق والغرب ، وتوصل إلى شجرة الزيتون المباركة اللاشرقية واللاغربية ” .
* المفهوم السياسي للحج في فكر الإمام الخميني :
إنّ أغلب خطابات الإمام السنوية لحجاج بيت الله الحرام كانت تتناول البُعد السياسي بالخصوص بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران …
كان يعرض فيها قضايا الأمة الكبرى ومشاكلها ، مستنهضاً المسلمين إلى وجوب التحرك الشامل للتصدي بها ، داعياً إياهم إلى الوحدة في العمل والصف والأهداف تحت راية الإسلام للتخلص من الظلم والاستضعاف والتخلف والتبعية للاستكبار العالمي ، والسعي إلى تحقيق ما من شأنه تعزيز ونشر قيم الله وأحكامه في الأرض .
يقول الإمام الخميني : “هناك عوامل سياسية عديدة وراء عقد الاجتماعات والمجامع وخاصة اجتماع الحج القيم ، والتي منها التعرف على المشاكل الأساسية والقضايا السياسية للإسلام والمسلمين ، ولا يمكن ذلك إلاّ باجتماع رجال الدين والمفكرين والملتزمين الزائرين لبيت الله الحرام ، وذلك بعرض وبتبادل الآراء لإيجاد الحلول ، وفي العودة إلى البلدان الإسلامية يعرضونها في المجامع العامة ويسعون في رفع وحل مشاكلهم” .
* نداءات الإمام للمسلمين في مواسم الحج :
كان موسم الحج فرصة نادرة ; ليوصل الإمام فكره النهضوي لجميع مسلمي العالم ، فكان يناشد المسلمين في موسم الحج قائلا : «ماذا دهاكم يا مسلمي العالم ، أنتم الذين استطعتم أن تحطموا القوى العظمى في صدر الإسلام مع قلة عددكم ، وأوجدتُم الأمة الإسلامية الكبرى ، واليوم مع ما يقارب من مليار نسمة وامتلاككم للثروات الكبيرة ، التي هي أكبر حربة أمام الأعداء ، أصبحتم هكذا أذلاء ضعفاء! هل تعلمون أنّ جميع مصائبكم ناشئة من الاختلاف والتفرقة بين رُؤساء بلادكم وبالتالي بينكم أنفسكم …. قوموا من أماكنكم واحملوا القرآن الكريم بأيديكم واخضعوا لأمر الله تعالى; لكي تعيدوا مجد الإسلام العزيز وعظمته . تعالوا واستمعوا إلى موعظة واحدة من الله عندما يقول {قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى} … قوموا جميعاً لله قياماً فردياً لمواجهة جنود الشيطان في باطنكم وقياماً جماعياً أمام القوى الشيطانية ; لذا كان القيام إلهياً وكانت النهضة لله وهي منتصرة … يا زوار بيت الله: اتحدوا معاً في المواقف والمشاعر الإلهية ، واطلبوا من الله تعالى غلبة الإسلام والمسلمين ومستضعفي العالم … أيها المسلمون وأيها المستضعفون في العالم; تعاضدوا وتوجهوا إلى الله العظيم والجأوا إلى الإسلام وانتفضوا ضد المستكبرين ومنتهكي حقوق الشعوب .
ولا نستغرب من الإمام بصفته مرجعاً دينيّاً أن يتجه هذا الاتجاه في مفهوم الحج وواقعه العملي ؛ فإنه كما قال د. سمير سليمان : “إنّ هذه الطروحات التي رأى الإمام موسم الحج من خلالها هي انعطاف مفهومي كبير في اتجاه العودة إلى الينابيع والأصول الإسلامية التي لم تكن عبادة الحج فيها إلاّ مصادر طروحات الإمام ومرجعها ، فلم يكن الحج أيام النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ في الإطار الذي أعاد الإمام رسمه وربطه بالمتغيرات الزمنية والاجتماعية والسياسية المستجدة ، فكان له في رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسوة حسنة عندما قام بمفرده ليرفع لواء التوحيد لصالح المستضعفين ، في وجه عبده الأصنام والمستكبرين ” .
وقد كان الإمام جادّاً ومخلصاً في توجيه المسلمين كافة وتحويل الحج إلى مؤتمر إسلامي عام ، تعرض فيه المشاكل الصعبة التي يعانيها العالم الإسلامي في كل بقاع العالم ، كقضية فلسطين وغيرها ، ومعالجة كل القضايا بصدق وإخلاص ووفاء ، ولكن كانت الظروف أقوى من أن تأخذ هذه الخطوة مجراها الطبيعي ، فقد قوبلت بالضغط والتعتيم والتشويه والتضييق من قبل الاستكبار العالمي ..
يقول : ” ولو رجع المسلمون إلى الماضي قليلا إلى ما عانى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأئمة الهدى من الغربة لأجل دين الحق وإزهاق الباطل ، لقد استقاموا ووقفوا ولم يهابوا أو يجزعوا على كثرة التهم والإهانةات التي كالتها ألسنة أمثال أبي لهب وأبي جهل وأبي سفيان … وفي نفس الوقت استمروا وأكملوا طريقهم مع وجود الحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب ، ولم يستسلموا ولم يهنوا ، ومن بعدها تحمّلوا الهجرة والغربة ومراراتها وآلامها في سبيل دعوة الحق ، وتبليغ رسالة الله وتواجدوا في الحروب المتتالية وغير المتكافئة ، رغم المؤامرات وكثرة المنافقين ، قاموا بهداية وإرشاد الناس بهمة عالية وصلبة حيث شهدت صخور وحصى مكّة والمدينة وصحاريها وجبالها وأزقتها وأسواقها آثار تبليغ رسالتهم .
وإذا ما رفعنا الستار وكشفنا النقاب عن سرّ ورمز تحقق {فاستقم كما أمرت} لعرف وعلم زوّار بيت الله الحرام كم سعى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأجل هدايتنا وحصول المسلمين على الجنّة” .
* البُعد الاجتماعي للحج … المؤتمر الإلهي :
الحج ذلك المؤتمر الكبير الذي يجتمع فيه الملايين من المسلمين في كلّ عام ، وأغلبهم حريصٌ على أن يكون على أتم أشكال الطهارة البدنية والروحية ، ولا شك أن هؤلاء الأفراد – بسبب شروط الحج في البلوغ والعقل – لديهم القابلية الفكرية والاستعداد الروحي والذاتي على استيعاب وتقبل شروط ومفردات التغير الاجتماعي ..
يقول الإمام الخميني في هذا المجال: “اِعلموا أيها المسلمون ، أن هذا التجمع الكبير ، الذي ينعقد كلّ عام بأمر من الله تبارك وتعالى ، يفرض عليكم – بصفتكم أمة مؤمنة ذات عقيدة راسخة – أن تبذلوا جهودكم في سبيل تحقيق أهداف الإسلام السامية وشريعته الغراء ، وفي سبيل تقدم المسلمين وتضامنهم ووحدتهم الشاملة “.
وهذا المؤتمر الإلهي لا يعطي ثماره ولا يسمو إلى الهدف الإسلامي المطلوب إلاّ إذا عرف الحاضرون فيه والمدعوون إليه كيف يتصرفون ويستخدمونه ” لتبادل الآراء في حل مشاكلهم العامة أولا ، ومشاكل بلادهم الإسلامية ثانياً ، وليتعرفوا على ما يحلّ بإخوانهم المسلمين في بلادهم من أساليب المستعمر ، وماذا يجري عليهم من مصائب وآلام ” .
و”الآن حيث يجتمع مسلمو العالم من البلاد المختلفة حول كعبة الآمال وحج بيت الله ; للقيام بهذه الفريضة الإلهية العظيمة ، وعقد هذا المؤتمر الإسلامي الكبير في هذه الأيام المباركة ، فإنّ على المسلمين الذين يتحملون رسالة الله تعالى ، أن يستفيدوا من المحتوى السياسي والاجتماعي للحج بالإضافة إلى المحتوى العبادي منه ولا يكتفوا بالمظهر” .
وقد دعا الإمام المسلمين في كافة قارات العالم المدعوين إلى مؤتمر السماء وحثهم على الوحدة الإسلامية ووحدة الكلمة والتعاون والاعتصام بحبل الله المتين وعدم التفرقة قائلا: “أيها المسلمون في العالم ويا أتباع مبدأ التوحيد: إنّ سبب كلّ المشاكل في البلاد الإسلامية هو اختلاف الكلمة وعدم التعاون ، ورمز الانتصار هو وحدة الكلمة وإيجاد التعاون ؛ قال تعالى في جملة واحدة {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} الاعتصام بحبل الله بيان لتعاون المسلمين ، كونوا جميعاً للإسلام وتوجهوا إلى الإسلام ولصالح المسلمين ، وابتعدوا عن التفرقة والخلاف الذي هو أساس مشاكلنا وتخلّفنا .
وقال أيضاً: “إنّ الحج يمثل أفضل مكان لتعارف الشعوب الإسلامية ، حيث يتعرف المسلمون على إخوانهم وأخواتهم في الدين من شتّى أنحاء العالم ، ويلتقون مع بعضهم في البيت الذي تتعلق به كلّ المجتمعات الإسلامية من أتباع إبراهيم الحنيف ” ..
فالحج إذن محل اجتماع المسلمين أسودهم وأبيضهم ، عربيهم وأعجميهم ، غنيهم وفقيرهم ، رئيسهم ومرؤوسهم ، رجالهم ونسائهم ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ من مقاصد الحج هو تقريب الأفراد من مختلف الأجناس والمواطن نحو بعضهم البعض ، حتى يتم تفاعلهم الاجتماعي وهم في أسمى درجات العبادة والتنسك والابتهال والدعاء في مجتمع التوحيد الإسلامي وبالقرب من بيت المعبود والمحبوب .
ولا شك أنّ هذا ينسجم تماماً مع أهداف الرسالة الإسلامية في إقامة دولة التوحيد العالمية المنسجمة على كلّ الأصعدة الحياتية .
يقول الإمام الخميني في بيانه إلى حجاج بيت الله الحرام : “ليعلم الإخوة أهل السُّنَّة في جميع البلدان الإسلامية أنّ المأجورين المرتبطين بالقوى الشيطانية الكبرى لا يستهدفون خير الإسلام والمسلمين ، وعلى المسلمين أن يتبرأوا منهم ويعرضوا عن إشاعاتهم المنافقة ” ..
ثم يضيف قائلا : “إنّي أمد يد الأخوة إلى جميع المسلمين الملتزمين في العالم ، وأطلب منهم أن ينظروا إلى الشيعة باعتبارهم أخوة أعزاء لهم ، وبذلك نشترك جميعاً في إحباط هذه المخططات المشؤومة” .
وقال أيضاً: “… وتجنبوا التفرقة والتنازع {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} ” ..
وخاطب الكتّاب والخطباء المجتمعين مع إخوانهم في عرفات ومنى والمشعر وغيرها قائلا : “أيها الكتّاب والخطباء : أُذكروا قضاياكم الاجتماعية والسياسية لإخوانكم المؤمنين أثناء الاجتماعات الكبيرة في عرفات ومشعر ومنى ومكة المعظمة والمدينة المنورة واطلبوا منهم العون” .
وقد يعرّف الإمام الحج بأنه نداء لإيجاد وبناء المجتمع البعيد عن الرذائل المادية والمعنوية ، وأنّ مناسكه تجل عظيم لحياة كريمة ومجتمع متكامل في هذه الدنيا ، وأنه يتواصل فيه مجتمع المسلمين من أي قومية كانوا ويصبحوا يداً واحدة ، وأنه كذلك ساحة عرض ومرآة صادقة للاستعدادات والقابليات المادية والمعنوية للمسلمين
والحج يمنح المجتمعات الإنسانية مصدراً مستمراً من مصادر الكسب الثقافي الناتج عن تفاعل الأفراد من مختلف الثقافات والطبائع البشرية ، وذلك عن طريق تقريب الأفراد – بأجناسهم المتباينة – في المكان الواحد في الوقت المعين ; ليتشاوروا في أمور دينهم وعقيدتهم وحياتهم ، ويتبادلوا الخبرات والتجارب والآراء والعادات الحسنة ، ويتعرف بعضهم على أخبار البعض الآخر ، فيزداد الوعي ، وتنمو المعرفة ، وتشحذ الهمم من أجل الإصلاح والتغيير والاهتمام بشؤون الأمة والعقيدة {ليشهدوا منافع لهم} .
وقد بيَّن الإمام أنّ الحج فرصة ثمينة لتشترك أفكار المسلمين لنشر الثقافة الإسلامية والقرآنية ، وحذّر من تسرب الثقافة الغربية إلى الشعوب المسلمة ، فقال : “اليوم حيث نشبت براثن الاستعمار الخبيثة – بسبب تهاون وتساهل الشعوب الإسلامية – في أعماق الأرض المترامية لأمة القرآن ، لتنهب جميع الثروات الوطنية والخيرات الطائلة ، ولتنشر الثقافة الاستعمارية المسموعة في أعماق وقصبات العالم الإسلامي ، ولتقضي على ثقافة القرآن ، وتجنّد الشباب أفواجاً لخدمة الأجانب المستعمرين ، وتطلع علينا كلّ يوم بنغمة جديدة وبأسماء خادعة تضلّ بها شبابنا .. في مثل هذه الظروف عليكم ، يا أبناء الأمة الأعزاء المجتمعين لأداء مناسك الحج في أرض الوحي هذه ، أن تستثمروا الفرصة وتفكروا في الحل ، وأن تتبادلوا وجهات النظر وتتفاهموا لحل مسائل المسلمين المستعصية” .
ثم قال في مناسبة أخرى للحج : “مِن المسلّم أن حجّاً دون معرفة ووعي ودون روح ودون حركة ونهوض ، وحجّاً دون براءة ، وحجّاً دون وحدة ، وحجّاً لا ينتج هدماً للكفر والشرك ، ليس حجّاً ، وخلاصة الأمر أنه يجب على جميع المسلمين السعي لأجل تجديد حياة الحج والقرآن وإعادتهما ثانية إلى ساحة حياتهم ، وعلى المحققين المؤمنين بالإسلام أن يبينوا التفاسير الصحيحة والواقعية لفلسفة الحج ، ويرموا في البحر كل نسيج خرافات وادعاءات علماء البلاط” .
وقال أيضاً : “إنني أوصي جميع العلماء المحترمين والكتاب والمتحدثين الملتزمين أن يوضّحوا لجميع المسلمين وخاصة الحجاج منهم أهداف هذه الفريضة المقدسة ، كما أني أوصيهم بتعليم مناسك الحج وكيفية أدائها بشكلها الصحيح حتى يكون عملهم خالياً من الأخطاء ، وعدم الاكتفاء بأننا أدينا الفريضة وأنجزنا الواجب كيفما كان ، فإن الأخطاء في هذه الفريضة تترك آثاراً وأشكالا على صحتها قد تكلفهم وقتاً وجهداً مضاعفاً لتصحيحها” .وأيضاً خاطب العلماء وحملهم المسؤولية في إيقاظ المسلمين في هذا الاجتماع الكبير ، فقال: “وعلى العلماء المشاركين في هذا الاجتماع ، من أي بلد كانوا ، أن يصدروا – بعد تبادل وجهات النظر – بيانات صريحة واضحة لإيقاظ المسلمين ، وأن يوزعوها في مهبط الوحي بين أبناء الأمة الإسلامية ، ثم ينشروها في بلدانهم بعد عودتهم” .
كان الإمام متيقناً أنّ التلاقح الفكري للمسلمين في موسم الحج سيعطي ثماراً جيدة ، لكن أين الأيادي المؤيدة لهذا المشروع الإصلاحي؟!
* البُعد الاقتصادي :
والحج بما هو تجمع بشري ضخم ، يستقطب الملايين من المسلمين ، يأتون {رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فحجّ عميق} ، فهو ينتج حركة بشرية هائلة ، يتبعها تحرك اقتصادي ومالي ضخم ، عن طريق النقل ، والاستهلاك ، وحمل البضائع ، وتبادل النقود ، وشراء الأضاحي والحاجيات ، ومستلزمات الحج والإقامة والسفر ، فينتفع العديد من المسلمين ويشهد مجتمعهم حركة اقتصادية ومالية نشطة .
والحالة الاقتصادية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع ، وما يشهد من منافع يمكن تحقيقها من خلال الحج في الحياة الفردية والاجتماعية إلى جانب الروح العبادية المتمثلة بذكر الله تعالى في الأيام المعلومات وذلك في قوله تعالى {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} .
وكذلك في قوله تعالى {ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلا من ربكم} حيث توهم البعض أنّ الاكتساب في أيام الحج حرام ، فأزال الله سبحانه هذا الوهم وبين أنّ الاكتساب لا يتنافى مع الإخلاص في أعمال الحج .
ولم يُغفل الإمام الخميني البعد الاقتصادي للحج فقد اصدر بياناً بمناسبة موسم الحج قال فيه: «إخواني وأخواتي .. إنكم تعرفون أنّ القوى الكبرى الشرقية والغربية تنهب جميع ثرواتنا المادية والمعنوية وقد جعلونا في حالة فقر وحاجة ، سواء من الناحية السياسية أم الاقتصادية أم الثقافية ، عودوا إلى أنفسكم واسترجعوا شخصيتكم الإسلامية … لا تخضعوا للظلم وافضحوا – بكلّ حذر – المؤامرات المشؤومة للناهبين الدوليين وعلى رأسهم أمريكا .
هذا وقد أكد الإمام الخميني على الجانب الاقتصادي للحج رامياً إلى عدم تقديم العمل التجاري على مبادئ وأوليات وأساسيات الحج ، حيث يجب أن لا تطغى العمليات التجارية على أصالة الحج ، وإلاّ فالتجارة أيام الحج مباحة شرعاً ، لكن المفروض أن لا تتغلب على الجانب الروحي والمعنوي والشرعي ..
وفي هذا المجال أكد الإمام هذا المعنى معبّراً أنّ العمل التجاري من أمور الدنيا ؛ فقد قال لحجاج بيت الله الحرام محذرا ً: “يا حجاج بيت الله الحرام! انتبهوا إلى أنّ السفر إلى الحج ليس سفراً للتجارة ، وليس سفراً لتحصيل أمور الدنيا ، وإنما هو سفر إلى الله … أنتم ذاهبون إلى بيت الله الحرام ، فأتموا كلّ الأمور والأعمال المطلوبة منكم بطريقة إلهية … معاذ الله أن تجعلوا هذا السفر سفراً للتجارة ، وأن يكون ميداناً تبيحوا فيه الأمور والمسائل التجارية فيما بينكم” .
لا بد من القول : إنّ جميع المذاهب الإسلامية اهتمت بفريضة الحج وعدتها شعيرة مهمة من شعائر الدين الحنيف ، وأنها مظهر من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية واستقلال كيانها ، وأنه – أي الحج – مظهر قوة المسلمين وعظمتهم ، لكن كثيراً من المسلمين ، ابتعدوا عن أهدافه وجردوه من أصالته ، وألبسوه لباساً شكلياً يهتم بالمظهر الخارجي في أغلب تكاليفه الشرعية ، حتى ظهور المشروع الإصلاحي للإمام الخميني الذي شمل كلّ جوانب الحياة العبادية والسياسية والاجتماعية والروحية … إلخ .
وكان الإمام يتحرك في مشروعه الإصلاحي باتجاه هدف واضح ، وقد أعلن عنه في أكثر من مناسبة ، من خلال توجيهاته وبياناته وخطاباته الموجهة للأمة ولحجاج بيت الله الحرام في موسم الحج من كلّ عام ، وبذلك أثبت صدقية مشروعه من خلال الواقع .
وقد حرص على تأكيد دور علماء الدين في الأمة باعتبارهم: «خلفاء الرسل» و«حكاماً على الناس» و«ورثة الأنبياء» ..
وذكّر أبناء آدم بشكل عام مبيناً الهدف الرئيسي من إيجاد فريضة الحج في الأماكن المقدسة من مكة ومنى ، قائلا : «لقد عرفنا نحن ذرية آدم أنّ مكة ومنى أماكن لنشر التوحيد ونفي الشرك ، الذي من مصاديقه التعلّق بالنفس والأعزاء .
لقد تعلّم أبناء آدم من هذه الأماكن الجهاد في سبيل الله ، فعليكم أن تعلموا العالم قيمة الفداء والتضحية ، وقولوا له : إنه في سبيل الله وإقامة العدل الإلهي وقطع أيادي المشركين في هذا الزمان ، يجب أن يخلد الحق بتمامه ببذل أي شيء حتى ولو كان مثل إسماعيل .
وقال أيضاً : “إن إبراهيم وإسماعيل وولدهم العزيز سيد الأنبياء محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) محطمو الأصنام ومعلمو البشرية أنه يجب تحطيم كلّ الأصنام والأوثان كيفما تكن . وأنّ الكعبة أم القرى على امتدادها وسعتها حتى آخر نقطة من الأرض وحتى آخر يوم في العالم يجب أن تطهّر من دنس الأصنام … أي صنم كان وكيفما كان أكان هياكلَ أو شمساً أو قمراً أو حيواناً أو إنسانا أو صنماً” .
ثم يضيف قائلا ومتسائلا: “أوَليست القوى الكبرى في زماننا أصناماً كبيرة سيطرت على العالم ودعته لعبادتها وفرضت نفسها عليه بالقوة والتزوير؟! .. إنّ الكعبة المعظمة هي المركز الأوحد لتحطيم هذه الأصنام وتطهير هذه البقاع من كلّ أنواعها ؛ قال الله تعالى {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود} ..
وكان ما نسجه الإمام في مشروعه على منوال أجداده السابقين من آل البيت – صلوات الله عليهم جميعاً – فكان هدف الحج لديه واضحاً كوضوح الشمس في رابعة النهار ، كما كان لديهم ، فقد تحدث الإمام جعفر الصادق – عليه السلام – عن منافع الحج وفوائده بإجابته البليغة عن سؤال أحد أصحابه (هشام بن الحكم)…قال هذا الصحابي الجليل للإمام يسأله :” ما العلة التي من أجلها كلّف الله العباد بالحج والطواف بالبيت ؟ ” فقال عليه السلام : “إنّ الله خلق الخلق …” إلى أن قال:” وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين ، ومصلحتهم من أمر دنياهم ، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ، ليتعارفوا ، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ، ولينتفع بذلك المكاري والجمال ، ولتعرف آثار رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتعرف أخباره ، ويذكر ولا ينسى …” إلخ .
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: “إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عز وجل ، وطلب الزيادة ، والخروج من كلّ ما اقترف العبد ، تائباً مما مضى ، مستأنفاً لما يستقبل … ، وحظر النفس عن اللذات ، دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع ، لجميع من في شرق الأرض وغربها ، ومن في البر والبحر ممن يحج وممن لم يحج ، من بين تاجر ، وجالب ، وبائع ، ومشتر ، وكاسب ، ومسكين ، ومكار ، وفقير ، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه ، مع ما فيه من التفقه ، ونقل أخبار الأئمة إلى كل صقع وناحية ، كما قال الله عزّ وجلّ : ” فلولا نفرَ من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون … وليشهدوا منافع لهم” .
وبهذا خرجت فريضة الحج من جمودها وسكونها إلى الحج المتحرك الهادف الذي أراده الله تعالى لبني البشر في سبيل بناء الروح وتكامل الذات ، ومن ثم بناء مجتمع متكامل الأبعاد .
والخلاصة : إن الحديث عن الفلسفة السياسية في فكر الإمام الخميني تلتقي ثلاثة روافد مهمة ، لابدّ للباحث من أخذها بعين الاعتبار إذا ما أراد أن يستتم صورة متكاملة ومتجانسة عن منهج الإمام الخميني في الشأن السياسي التغييري ، فالإمام كانت تستجذب شخصيته ثلاثة عوامل استطاع الإمام أن يجمعها في شخصيته وفكره ووجوده ، وبالتالي في تجربته السياسية المنجزة ..
وهذه الروافد أو العوامل هي :
1- العرفان .
2- الفلسفة .
3- السياسة .
على هذا الأساس تمكّن الإمام من أن يتوفّر على رؤية عرفانية روحية ، وعلى رؤية فلسفية عقلية ، وعلى رؤية سياسية تغييرية ؛ وهذه الأبعاد الثلاثة التي توفرت عليها شخصية الإمام الراحل تتجلى في المجال العرفاني الذي انطوت عليه شخصية الإمام الراحل ، والذي برز في طريقة تفكيره ونظرته لمختلف قضايا الحياة ، وفي المجال الفلسفي الذي أظهر الإمام براعة ودقة في التعامل معه والتعرّف على دقائق مباحثه العقلية والنظرية ، وفي المجال السياسي الحركي الذي أفصح الإمام عن قدرة خاصة على الخوض فيه واستيعاب متطلبات التحرك في أجوائه .
وبالقدر الذي تلاحمت فيه هذه الأبعاد الثلاثة والتصقت بشخصية الإمام الراحل – رحمه الله – فإنّ من العسير – إنْ لم يكن من المستحيل – التعرّف على شخصية الإمام الخميني ووعي منهجه في التغيير الاجتماعي والديني الذي تمثله في فلسفته السياسية العملية ، من دون الإحاطة بهذه الأبعاد الثلاثة من شخصيته؛ ومن هنا نرى أنّ خطأً يمكن أن يتعرّض له أي باحث يستهدف دراسة فكر وتجربة الإمام الخميني في المجال السياسي بعيداً عن التعرّف التام وبشكل مسبق على رؤيته العرفانية ورؤيته الفلسفية .
ومهما يكن من أمر فإنّ المجال السياسي ، الذي تحرّك الإمام الخميني في أجوائه ، لم يكن ينطلق فيه بلا استناد إلى رؤية واضحة لمتطلبات التغيير الاجتماعي ، بل على العكس من ذلك ، فإنّ الممارسة السياسية التي تمثلها الإمام الراحل تفصح ، بما لا يقبل الشك ، عن أسس متينة ، ومبادئ إنسانية وإسلامية شاملة ومستوعبة ، كانت تنطلق منها هذه الممارسة ، بمختلف صورها ومراحلها .
قياسا على ذلك ؛ قد يكون الحديث عن الخط الفكري السياسي للإمام الخميني ، بصورة شاملة ، متعسّراً أو متعذراً ، في مقال محدود؛ لأنّ المجالات التي تحدّث عنها ، أو خاض فيها ، أو حارب من أجلها ليست محصورة في حدود معينة ، أو دوائر ضيّقة ، بل كانت تتسع للعالم كلّه في دائرة الإسلام كلّه ، لأنه كان ينطلق في عمق فلسفته العرفانية إلى اللّه في أوسع الآفاق ، حتى كان يتجاوز الشكليات التقليدية في حركة هذا الخط ، وكان يتحرّك في وعيه الإسلامي للمسألة الإنسانية في واقع الاستضعاف والاستكبار ، فيما هي آلام المستضعفين في حركة امتيازات المستكبرين ، فكان يتألّم للإنسان أيّا كان انتماؤه ، ويفكر أنّ الآلام الإنسانية لا تمثّل في إيحاءاتها الشعورية مجرّد مشاعر حزينة ، أو أصوات صارخة ، بل لابدّ لها من أن تتمثل في حركة فاعلة من أجل إزالة هذه الآلام ، وكان يرى أنّ مسألة الإسلام في وعي المؤمنين به ، على مستوى القيادة أو القاعدة ، هي مسألة الدعوة المتحركة في كلّ صعيد؛ لتملأ فراغ الفكر الإنساني بالفكر الإسلامي ، وتشحن روحيّة العاطفة الإنسانية بالعمق الروحي للعاطفة في الإسلام ، وتحرّك الواقع الإنساني بالتشريعات الحركية للإنسان في الحياة ، مما يجعل مسألة الدعوة تنفتح على السياسة كما تنفتح على الفكر ، كما يدفع مسألة المعاني الروحية نحو القيم الإنسانية في الحياة .
وهذه هي الميزة البارزة في شخصيته ، التي استطاعت أن تجعل ملامحها الداخلية والخارجية وحدة في الفكر والسلوك ، على أساس وحدة الخط الإسلامي الذي لا يبتعد فيه العرفان عن الشريعة ، بل ينفذ إليها ليزيدها عمقا في الحركة ، ولا تتجمّد الشريعة لديه في نطاق فردي ، بل تنطلق لتشمل الحياة كلّها بأبعادها العامة والخاصة في جميع المجالات .
وفي ضوء ذلك؛ لم يكن العرفان لديه استغراقا في اللّه بحيث ينسى الحياة التي تضجّ حوله بكلّ آلام المستضعفين ومشاكلهم ، وينعزل عن ذلك كلّه … كما يفعله الكثيرون من العرفانيين الذين استغرقوا في الجانب الفلسفي للعرفان فعاشوا في خيالاته التي تصوروها حقائق ، وابتعدوا عن واقعهم.. فتحولوا إلى كائنات إنسانيّة قد تستوحي منها بعض القداسات الروحية ، لكنك لن تستوحي منها حركة الحياة في روحية المسؤولية الحركية .
لقد استطاع أن يدمج شخصية العارف بشخصية الفقيه ، ثم انطلق من ذلك ليندفع – من خلال هذه الشخصية الجديدة – إلى اللّه ، في خط المعرفة والحركة معا ، ليعيش في حياته في شخصية الداعية إلى اللّه والمجاهد في سبيله .
ومن هذا الموقع كان انفتاحه على الأمة كلها وعلى المستضعفين .. وهكذا رأينا كيف كانت حياته كلّها خاضعة لعناوين ثلاثة تلخّص كل العناوين الصغيرة في حركته ، وهي : اللّه » ، و«الإسلام» ، و«الأمة في دائرة الاستضعاف» ، ليقابلها «الشيطان» بأحجامه الكبيرة والصغيرة والمتوسطة ، في عالم الغيب ، وفي عالم الحسّ والكفر بكلّ معانيه «الفكرية والعملية ، وبكل إفرازاته الواقعية في دائرة الضلال والانحراف والظلم ، والطاغوت» بكلّ رموزه الشخصية والاجتماعية والسياسية ، على مستوى الفرد والجماعة والدولة .
وهذا هو سر شمولية النظرة العامة للحياة عنده ، وشجاعة الموقف في حياته ، وصلابة التمرّد في مواقفه ، وصفاء الشعور في إحساسه ، وامتداد الأهداف في كلّ خطواته ، وانفتاح الثورة في مواجهته للواقع على مستوى العالم كلّه ؛ فـ«اللّه» هو ربّ العالمين ، و«الشيطان» هو العدو الأساسي للإنسان كلّه .. و«الإسلام» هو رسالة اللّه إلى الناس كافة ، و«الكفر» هو خط الشيطان الذي يريد أن ينحرف بالحياة كلّها ، وبالإنسان كلّه عن «اللّه » ، و«الأمة» تمثل العنوان الذي يشمل المسلمين جميعا ، كما أنّ ارتباط قضاياها بقضايا المستضعفين كلهم جعلها تنفتح على كلّ قضاياهم في العالم كلّه.. والطاغوت الفردي والجماعي والدولي يمثل كل مواقع الطغيان الفكري والعملي في واقع الإنسانية كلّه .
وهذا هو الذي يجعلنا نلاحظ تكرر هذه الكلمات في كلّ كلماته ، بحيث لا تغيب عن لسانه في كلّ مناسبة من مناسبات الصراع .
من الواضح أنّ الإمام الخميني تحرّك ضمن مشروع سياسي نهضوي واسع الأبعاد ، ومتعدد الجبهات والجهات ، ولقد كان الإمام معنيّا بهموم ومشاكل وأزمات الوضع الإسلامي العام بالمستوى الذي كان معنيّا بالوضع السياسي لبلده الأم دون أن يغفل هموم المستضعفين في إطارها الإنساني الواسع .
* البعد السياسي للحج :
تنطوي شعائر الحج على الكثير من المضامين العبادية والدلالات السياسية ، في آن معا ، وقد كانت القبائل عندما تؤم مكة في موسم الحج ، تحمل كلّ منها أعلامها المميزة وأصنامها ، ومؤكدة بذلك على تمايزها القبلي أو على ترتبها وعلو شأنها بين القبائل الأخرى. ولكن الحج ، بعد الدعوة ، أرسى مؤسسة جديدة تتعارض بل تلغي كافة هذه الممارسات والشعائر ، خالقة حالة توحيدية خالصة ، تؤمّن للمسلمين إحدى الدعائم التي تجعلهم قادرين على مقاومة الانشدادات المختلفة من قومية وقبلية وما إلى ذلك ، وعليه ، فالحج كما يتّضح من الكتاب والسنة وسيرة السلف وأقوال العلماء لا يتلخّص في كونه موسماً عبادياً (بالمفهوم المألوف عند كثيرين) ، بل هو إلى جانب ذلك مؤتمر سياسي عالمي وملتقى اجتماعي عام يوفّر للمسلمين القادمين من شتى أنحاء المعمورة فرصة التعارف ، والتآلف ، واللقاء بعضهم ببعض ، وانتفاع بعضهم ببعض ، ومداولة أمورهم وحل مشاكلهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في جو من الأمن والقداسة والصفاء والمحبّة .
لقد وصف القرآن الكريم «الحج» في عدّة مواضع بأنّ فيه ما ينفع الناس ويضمن مصالحهم ، كما أنّ السنّة والسيرة النبوية الشريفة هي الأخرى تشير إلى أنّ النبي صلى الله عليه وآله مارس الأعمال السياسية في الحج ، فضلاً عن الأحاديث التي تفيد بأنّ الحج نوع من الجهاد كقوله صلى الله عليه وآله : «نعم الجهاد الحج» .
ولعل ما جاء وصحّ عن الرسول – صلى الله عليه وآله – من الأدعية والأذكار في الحج تلك التي تتضمن معاني سياسية إلى جانب معانيها التوحيدية خير شاهد على أنّ الحج موسم مناسب لأن يظهر فيه المسلمون موقفهم من أعداء اللّه والإسلام .. كالدعاء: «لا إله إلاّ اللّه وحده وحده ، أنجز وعده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده» .
وقد أشار كثير من علماء الإسلام والمفكرين الإسلاميين إلى ما ترمز إليه هذه المناسك من أمور معنوية ، واقتصادية ، واجتماعية وسياسية ، كما ورد في البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما قدم النبي – صلى الله عليه وآله – عامه الذي استأمن فيه (أي قدم مكة للعمرة) قال لأصحابه: امِلوا (أي أسرع في المشي ، وهزّ منكبيه) ليري المشركين قوتهم .
وفي البخاري ومسلم – أيضا – قال ابن عباس: «إنما سعى رسول اللّه – صلى الله عليه وآله – بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته .
وهذا يشير إلى أنه يجوز أن يضم الحاج إلى مناسكه مقاصد سياسية وأغراضا جهادية مثل إرهاب الأعداء واستنكار أعمالهم ، وشجب مؤامراتهم وفضح خططهم.. كما يوحي بذلك عمر ابن الخطاب إذ كان يقول إذا كبّر واستلم الحجر: «بسم اللّه واللّه أكبر على ما هدانا ، لا إله إلاّ اللّه لا شريك له ، آمنتُ باللّه وكفرت بالطاغوت .
إنّ التاريخ يحدّثنا أنّ السلف الصالح لم يقتصر في الحج على المناسك والعبادة ، بل استغلوا هذه المناسبة للعمل السياسي كجزء طبيعي من هذه الفريضة ، لا كشيء زائد عليها أو أجنبي عنها ، فها هو الإمام الحسين بن علي سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) يحتج على حاكم جائر من حكام زمانه في يوم من أيام الحج .
بل ووجد غير المسلمين فرصتهم في الحج ليعرضوا على الخليفة شكاواهم فيقوم الخليفة بإنصافهم في زمن الحج ، لا بعدئذ ، كما هو الحال في قصة ابن القيطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص (والي مصر يومئذ) .. فاقتضى عمر بن الخطاب الذي اقتص من المعتدي على مرأى ومسمع من ألوف الحجيج ، وقال كلمته الشهيرة: يا عمرو «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟!» .
حول هذه الحادثة يعقّب أحد العلماء المعاصرين بقوله: «فإذا كان الحج موسما لبيان الظلامات والشكاوى من الحكام والولاة المسلمين ، أفلا يكون من الأوْلى أن يجوز فيه الشكوى من الاستعمار وأذنابه وعملائه ، واستنصار المسلمين عليهم ؟ وهل يجوز أن نشكو الوالي المسلم إذ تعدّى حدوده ، ولا يجوز أن نشكو المستعمر الظالم والأجنبي الغازي ، وهو يرتكب كلّ تلك الجرائم والمجازر ؟ .
* فلسفة الحج عند الإمام :
إنّ الدلالات السياسية المختلفة التي تتضمنها ظاهرة الحج في المجتمع الإسلامي تنطوي على سمات خاصة بهذا المجتمع ، فالسياسة ليس مؤسسة قائمة بذاتها ومنفصلة عن باقي جوانب وأبعاد الحياة الفردية والجماعية ؛ بل هي لحظة تتدرج ضمن ممارسة شمولية متعددة الجوانب ، تعطي للنسق السياسي الإسلامي بعدا توحيديا متميّزا .
وإذا ما وعينا هذه الحقيقة جيدا نستطيع أن نفهم أهميّة النداءات والتوجيهات التي أطلقها الإمام الخميني ، بشأن الحج والحجيج ، إنّها نداءات وتوجيهات نابعة عن فهم واعٍ حركي للإسلام ، أو هي بعبارة أخرى منطلقة من نظرة واعية للدور الذي يستطيع الحج أن ينهض به على ساحة التاريخ .
ولا بدّ من الوقوف على عمق فلسفة الحج عند الإمام الراحل ؛ فالطواف حول الكعبة يرى فيه الإمام الخميني رمزا لحرمة «الطواف والسعي حول (أية مبادئ) غير مبادئ اللّه ، وأن رجم الشيطان هو رمز لرجم كلّ شياطين الأنس والجن في الأرض ، أيها الحجاج .. اِحملوا من ربكم نداءً إلى شعوبكم ، أن لا تعبدوا غير اللّه وأن لا تخضعوا لغيره» .
ولا يذهبنّ الظن بالبعض أنّ الإمام الخميني قد انتبه مؤخراً إلى هذا الفهم ، وتحديداً بعد انتصار ثورته الإسلامية ، بل إنه تصدّى إلى قضايا المسلمين منذ وعى دوره التاريخي ، وقبل هذا الزمن بفترة ليست بالقصيرة ، ولقد اقترنت اهتمامات الإمام الراحل بموسم الحج باهتماماته الرامية إلى إصلاح أوضاع المسلمين ، وتغيير ما هم عليه من ركود وخنوع وذل واستكانة .
الإمام أكّد دوما على ضرورة استثمار هذه الفرص التي وفّرها الإسلام للمسلمين من أجل إعادة الإسلام إلى مسرح الحياة ، وإعادة تكوين الأمة المسلمة الفاعلة على الساحة التاريخية .
يقول الإمام في بداية نفيه إلى النجف الأشرف : « في الدول غير الإسلامية تنفق الملايين من ثروة البلاد وميزانيتها ، من أجل عقد مثل هذه الاجتماعات ، وإذا انعقدت فهي في الغالب صورية شكلية تفتقر إلى عنصر الصفاء وحسن النية والإخاء المهيمن على الناس ، في اجتماعاتهم الإسلامية ، ولا تؤدي بالتالي إلى النتائج المثمرة التي تؤدّي إليها اجتماعاتنا الإسلامية .
وضع الإسلام حوافز ودوافع باطنية تجعل الذهاب إلى الحج من أغلى أماني الحياة ، وتحمل المرء تلقائيا إلى حضور الجماعة والجمعة والعيد بكلّ سرور وبهجة. فما علينا إلاّ أن نعتبر هذه الاجتماعات فرصا ذهبية لخدمة المبدأ والعقيدة؛ لنبيّن فيها العقائد والأحكام والأنظمة على رؤوس الأشهاد وفي أكبر عدد من الناس .
علينا أن نستثمر موسم الحج ، ونجني منه أطيب الثمار في الدعوة إلى الوحدة والدعوة إلى تحكيم الإسلام في الناس كافة ، علينا أن نبحث مشاكلنا ونستمد حلولها من الإسلام .. علينا أن نسعى لتحرير فلسطين وغيرها.
المسلمون الأوائل كانوا يجنون من جماعاتهم وجمعاتهم وأعيادهم ومواقف حجهم أحسن الثمار» .
* التأكيد على الجانب السياسي والاجتماعي :
هذا هو فكر الإمام الخميني في كلّ المواقف والمنعطفات ، رؤية ثاقبة واعية لا تحيد عن الإسلام. ولهذا فهو – انطلاقا من فهمه الواعي الصحيح للإسلام – لا ينظر إلى الأحكام نظرة تجزيئية بل ينظر إليها باعتبارها كلاًّ واحدا لا ينفصل بعضها عن بعض. الأحكام العبادية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية تقوم على قاعدة واحدة ، وترتبط مع بعضها بأواصر وثيقة لتشكّل أساس كيان المسلمين وحركتهم المتسامية .
يقول الإمام : «كثير من الأحكام العبادية تصدر عن معطيات اجتماعية وسياسية ، فعبادات الإسلام عادة توأم سياساته وتدابيره الاجتماعية .. صلاة الجمعة مثلاً واجتماع الحج والجمعة تؤدي – بالإضافة إلى ما لها من آثار خلقية وعاطفية – إلى نتائج وآثار سياسية ، استحدث الإسلام هذه الاجتماعات وندب الناس إليها ، وألزمهم ببعضها حتى تعم المعرفة الدينية وتعم العواطف الأخوية ، والتعرّف بين الناس ، وتنضج الأفكار وتنمو وتتلاقح ، وتُبحث المشاكل السياسية والاجتماعية وحلولها» .
وفي ندائه إلى حجاج بيت اللّه الحرام عام 1399هـ قال رحمه الله : «الإسلام دين عبادته سياسة ، وسياسته عبادة. والآن إذ يجتمع المسلمون من شتى بقاع الأرض حول كعبة الآمال لحج بيت اللّه ، وللقيام بالفرائض الإلهية ، وعقد هذا المؤتمر الإسلامي الكبير .. في هذه الأيام المباركة وفي هذه البقعة المباركة يتوجّب على المسلمين الذين يحملون رسالة اللّه تعالى أن يستوعبوا المحتوى السياسي والاجتماعي للحج إضافة إلى محتواه العبادي .
وفي الوقت الذي يبثّ فيه الإمام الوعي في أوساط الأمة ، مؤكدا أنّ الحج فرصة من فرص العودة إلى الذات … نراه يثير انتباه جموع الحجيج إلى طريق الخلاص ، وما يكتنف العالم الإسلامي من تحديات : «إنكم تعرفون أنّ القوى الكبرى تنهب ثرواتنا المعنوية والمادية ، وتتركنا في فقر ، تحت سيطرتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية ، ولا يمكن التخلّص من هذا الوضع إلاّ بالعودة إلى شخصيتنا الإسلامية ، ورفض الظلم والطغيان من أي مصدر كان ، وفضح القراصنة الدوليين وعلى رأسهم أمريكا» .
وبهذا الهدف الشمولي الإنساني أعاد الإمام بعث المشروع الحضاري الإسلامي ، فمن لوازم عقيدة التوحيد إيمان كلّ مسلم «بأنّ الدين الإسلامي سيسود العالم ، وسيمحو آثار الكفر والاستكبار عن وجه الأرض». إلاّ أنّ هذا الهدف الاستراتيجي غير متحقق إلاّ انطلاقاً من تحقيق هدف مركزي ديناميكي يتمثل في قيام حكومة إسلامية تمهيدية ، حيث يمكن للمسلمين أن يقيموها ، وحيث تتوفر المناخات والظروف الآيلة إليها ، فكان أول العقد في إيران ، إذ اندلعت الثورة الإسلامية فيها على يدي الإمام الخميني نفسه بعد نضوج مقدماتها التكاملية وجهاد استمرّ متواصلاً جادا على مدى ما يناهز الربع قرن من الزمن. لكن هذه الثورة لم تكن إلاّ الخطوة الأولى في المشروع الكبير ، بما هي ثورة من أجل العالم الإسلامي ، ومن أجل المستضعفين في العالم في الوقت نفسه .
يقول الإمام : «إنّ هذه الثورة قد قامت بالدرجة الأولى من أجل العالم الإسلامي ، وبالدرجة الثانية من أجل المحرومين والمستضعفين الذين يسعون من أجل تحريرهم.. وبهذا المعنى فإنّ الثورة الإسلامية الإيرانية ليست فريدة ومقتصرة على نفسها ، بل هي بداية ثورات تماثلها في الهوية والميزات» .
وهذا يعني – فيما يعني – أنّ إيران للإسلام وفي خدمة الإسلام ، وليس العكس ، أي أن إيران ليست للإيرانيين ، كما يحلو للبعض رفع هذا الشعار ، بل إنّ الثورة الإسلامية قامت من أجل المحرومين والمستضعفين ، فهي – حسب الرؤية الخمينية – ملاذ لهؤلاء وداعم لهم ، فكيف بالمسلمين الذين هم أولى من غيرهم بهذا الحق ؟!
كان لا بدّ للثورة «النموذج» من أن تنبعث من مكان جغرافي ، شاء اللّه أن يكون إيران (بعدما نضجت فيها مقومات الانتفاض وأسبابه) ، لكنها انطلاقة إلى كلّ الأمكنة والى كلّ الشعوب بهدف وحدوي توحيدي هو : «تثبيت واستقرار القيم الإسلامية وحدها» ، ولم يفارق خطاب الإمام التبليغي هذه المعادلة قط ، فلحظ وحدة المشروع مرتبط عنده دائما بلحظ وحدة العالم والإنسان ، والمسلمون والمستضعفون في الأرض هم المكلفون ، وهم المعنيون بالتحرك والسعي لإنقاذ حكم اللّه ونظامه ، وما المشروع الإلهي إلاّ لاستنهاضهم وتحريرهم من كلّ العبوديات ، فهو الهادي المؤدي إلى الحق والعدالة ، والقسط وخير الإنسانية وهم المهتدون ، ودور المبلغين والقادة هو إنجاز الارتباط المعرفي بين مشروع الهداية والمهتدين العتيدين .
* مسؤولية الكتّاب في الحج كما رآها الإمام :
باتجاه هذا الهدف الكبير لا بدّ أن ينبري الرساليون إلى ممارسة دورهم الطليعي في توعية الأمة ، وبث روح العزيمة في جوانحها ، ويتعزّز هنا دور أصحاب الكلمة ، خاصة في الحج ؛ فأصحاب القلم والبيان ينبغي أن يعيشوا هموم الأمة المسلمة ، وينهضوا بمسؤولية توعية الجماهير على مشاكلها ، ودفعها على طريق عزتها وكرامتها.
مسؤولية الالتزام الفكري تفرض على الكتاب والخطباء أن ينزلوا من الأبراج العاجية ، ويبتعدوا عن التزلّف لمراكز القوة ، ويندمجوا بالأمة الإسلامية الكبرى .
الحجّ أفضل فرصة لهؤلاء ؛ كي يتفاعلوا بالمسلمين في كافة الأقطار ، ويتفهموا ما يعاني منه المسلمون عن كثب ، وينهضوا بمسؤولية التوعية اللازمة على أوسع نطاق .
الإمام الخميني – إذ يدعو الكتّاب والمفكرين والمثقفين إلى انتهاج هذا الخط الجماهيري الملتزم – لا يقصد طبعا أن يجتمع هؤلاء في أروقة مرمرية داخل القصور المشيّدة في الأرض المقدسة ، بل يطالب ذوي الكلمة أن يعيشوا بمعزل عن إيحاءات مراكز القوة ، وعن مراكز شراء الذمم والأقلام ، فيندمجوا في أوساط الجماهير ويبثّوا بينها التوعية اللازمة ، كي يكون موسم الحج مركز إشعاع فكري ومركز توعية عامة لكلّ الأقطار الإسلامية. يقول: «على العلماء (المسلمين) أن يشتركوا في هذا التّجمع من مختلف الأصقاع ، ويتبادلوا الآراء ويبثّوا التوعية بين المسلمين المتجمعين في مهبط الوحي؛ لتنتقل هذه التوعية بعد ذلك إلى جميع الأقطار الإسلامية» .
وقال أيضا: «على المسلمين الملتزمين الذين يجتمعون مرّة كلّ عام على صعيد المواقف الشريفة ، ويؤدون واجباتهم الإسلامية في هذا التجمع العام والحشد الإلهي بمعزل عن الامتيازات ، وبمظهر واحد ، ودون اهتمام بما يميّز بينهم من لون أو لغة أو بلد أو منطقة ، وبأبسط المظاهر المادية وباندفاع نحو المعنوية.. عليهم أن لا يغفلوا عن الجوانب السياسية والاجتماعية لهذه العبادة ..
على العلماء الأعلام والخطباء أن ينبّهوا المسلمين على مسائلهم السياسية وواجباتهم الخطيرة .. هذه الواجبات التي لو عمل بها المسلمون واهتموا بها لاستعادوا عزّتهم التي أرادها اللّه للمؤمنين ، ولبلغوا مفاخرهم الإسلامية الإلهية التي هي من حق المسلمين ، ونالوا الاستقلال الواقعي والحرية الحقيقية في كنف الإسلام العزيز ، وتحت بيرق التوحيد وراية «لا إله إلاّ اللّه» ، وقطعوا أيدي المستكبرين وعملائهم في البلدان الإسلامية ، وأعادوا مجد الإسلام وعظمته» .
ولا ينفك الإمام الراحل عن تذكير قادة الرأي بمسؤولياتهم الجسام إزاء أمتهم وإسلامهم: «ينبغي أن يجتمع المفكرون والكتّاب والمثقفون والعلماء والمسؤولون في موسم الحج لدراسة مشاكل الإسلام والمسلمين السياسية والاجتماعية على الصعيد العالمي» .
* الكعبة.. المنطلق لوحدة الأمة :
الغاية من الكعبة والبيت الحرام هي نهوض المسلمين وقيامهم في سبيل مصالح الناس والجماهير المستضعفة في العالم» .
هذه الروح الشفّافة الواعية المنفتحة على هموم الواقع وتحدياته ..
يمضي الإمام في تشخيص الخلل وإعطاء البديل. ولو تسنّى لنا متابعة كلّ ما ذكره في خطاباته وكتاباته ووصاياه؛ لوجدنا أنّ الإمام لا يفتأ يميط اللثام عن إشكاليات المرحلة ، ولا يتوانى عن استعمال مبضعه كالجرّاح في العلاج ، كلّ ذلك في نطاق التزام صارم بالمشروع الإسلامي ، والانضواء تحته ، مهما كانت الظروف ومهما بلغت التحديات ، فالخميني لا يعرف شيئا اسمه الانصياع أو حتى التراجع !
هذا الانضواء الكفاحي ، على صعيد حركة التبليغ والدعوة ، كما نلاحظ – يقول كاتب مرموق – يصل عند الإمام إلى مستوى الذوبان في المشروع الإسلامي ، فلا يتنفس إلاّ من خلاله ، منفتحا به على أصحاب الحق ، يلاحقهم إلى أقصى مكان في الأرض مرشدا وشاهدا غير مضطرب ولا متعثّر ، فإيمانه بهم يعدل إيمانه بشرعية مشروعهم الذي هو مشروعه في كلّ حال ، ولا يستثني في دعوته إلى الإسلام أحدا من الأمة ، وهو وإن خاطبها بكليتها أفقيا ، فلم يفته التوجه أيضا إلى شتى شرائحها العمودية من أهل الشارع إلى الحكام ، فلا أحد في الأمة محسوب خارج نطاق الرسالة : «انفخوا في أهل السوق والشارع ، وفي العامل والفلاح والجامعي ، روح الجهاد ، فيهب الجميع إلى الجهاد … الكلّ يطلب الحرية والاستقلال والسعادة والكرامة» ، بذلك يوصي الإمام المبلغين ليوصي المبلغون غيرهم ، فتنتقل الحركة بالرسالة من حلقة إلى حلقة ، ومن يد إلى يد لتبلغ الهدف النهائي .
إلى مدى عمره الحافل بالعطاء والمواقف المشهودة لم يتخلَّ الإمام يوما عن أداء مهامه الثقيلة ، حتى وهو في آخر شيخوخته. ولقد حملت نداءاته المتكررة إلى حجاج بيت اللّه الحرام الكثير من توجيهاته القيمة في هذا الاتجاه. وهنا نقف – بشكل خاص – أمام ندائه الذي وجهه لهم عام 1400هـ كعيّنة لتلك النداءات ، ولما تنطوي عليه من أفكار ورؤى وحلول .
ولئن كانت الحركة مظهرا ضروريا في حياة الأمة المسلمة ، فإنّ وحدة أجزاء الأمة أكثر ضرورة للحياة ؛ لأنّ تفكك الأجزاء يعني فقدان الجسد الواحد ، والأمة الإسلامية ينبغي أن تكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى ، والوحدة أيضا ضرورة لازمة للوقوف بوجه أنواع التحديات التي تجابه المسلمين .
أهمية وحدة المسلمين تتجلى في تأكيد الإسلام على التجمعات الإسلامية في الجماعات والجمعة والأعياد ، وتأكيده على تكوين الجسد الواحد والبنيان المرصوص ، كما تتجلّى أيضا في المؤامرات الواسعة المدروسة التي يدبرها أعداء الإسلام لتفريق صفوف المسلمين .
الإمام الخميني يؤكد مرارا في أحاديثه على أهمية رص صفوف الأمة ، ويحذّر الأمة من كلّ تفرّق وتشتت ، ويعتقد أنّ موسم الحج أفضل فرصة لتوثيق أواصر الوحدة والتفاهم والتعاون والتعاضد بين المسلمين ، يقول : «لماذا لا يلتزم المسلمون وحكوماتهم بالأحاديث النبوية الكريمة التي جاء فيها: المسلمون يد واحدة على من سواهم ؟! لماذا لا يوجد بينهم إلاّ الخلاف المستمر ؟!
إنّ مشكلة المسلمين تتمثل اليوم في نشوب الاختلافات بينهم ، والمستعمرون وضعوا خطة بث الخلافات بين المسلمين بعد الحرب العالمية ، حين واجهوا قوة الإسلام ، ففصلوا الحكومات الإسلامية عن بعضها ، وألقوا الخلافات بين المسلمين ، وجعلوا الحكومات الإسلامية متعادية مع بعضها .
يجب حل هذه المشكلة في يوم العيد ، في يوم عرفة في بيت اللّه ، حيث ينبغي أن يجتمع الحكام في مكة المعظمة تلبية لأمر اللّه تبارك وتعالى ، ويطرحوا المشاكل التي يواجهونها ، ووضع الخطط الكفيلة بالتغلّب على هذه المشاكل إذا تمّ هذا الأمر لا تتمكن أية قوّة أن تتحداكم» .
ويقول أيضا : ” من واجبات المسلمين في تجمع (الحج) العظيم دعوة الشعوب والمجتمعات الإسلامية إلى وحدة الكلمة ونبذ الخلافات بين المسلمين ، وعلى أصحاب القلم والبيان أن يبذلوا ما وسعهم على هذا الطريق ، وفي سبيل إيجاد «جبهة المستضعفين» ، ويحرروا أنفسهم بوحدة الكلمة وتحت شعار لا اله إلاّ اللّه من أسر القوى الشيطانية ومن براثن الأجانب والمستعمرين والمستغلين”
وفي جانب من النداء التاريخي يقول الإمام مشيرا إلى دور أمريكا في بث الفرقة وزرع الفتنة: «الشيطان الأكبر (أمريكا) دعا فراخه لإلقاء بذور التفرقة بين المسلمين بكلّ الحيل والوسائل ، وجرّ الأمة الإسلامية والأخوة في الإيمان إلى الاختلاف والعداء؛ ليفتح أمامه السبيل إلى مزيد من النهب والهيمنة» .
وبعد أن يضع يده على بعض أساليب الشيطان الأكبر وأتباعه في إثارة التناحر والتفرقة بين المسلمين… يوصي المسلمين بضرورة التسلح بالوعي: “على جميع المسلمين أن يعرفوا هؤلاء المنافقين ، وأن يحبطوا مؤامراتهم الخبيثة” .
* الوعي السياسي للمسلمين :
تضافرت جهود ضخمة ومخططات حقودة على تغييب الوعي في أوساط المسلمين. ولعل موسم الحج – بوضعه الفعلي – أفضل معبّر عمّا يعانيه المسلمون اليوم من سطحية وضياع وركود وتشتت ، لا أثر للمنافع التي ذكرها اللّه تعالى في الآية الكريمة…«لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ». ليس هناك أي منافع على صعيد التوعية ، ولا على الصعيد السياسي ، ولا على الصعيد الاقتصادي .. اللهم إلاّ ما يجنيه معسكر الكفر من أرباح اقتصادية في هذا الموسم ، من خلال تدفّق بضائعه الكاسدة على أسواق مكة والمدينة وجدّة .
أكثر حجاج بيت اللّه الحرام تضيع أوقاتهم في موسم الحج بين أداء جامد غير واعٍ للمناسك ، وبين تجوّل في الأسواق ، وتهافت على شراء البضائع الأجنبية ، وبين جلسات سمر واسترخاء ، بأشكال متعددة ، هذا هو الذي يعبّر عنه الإمام الخميني بالغفلة إذ يقول : «لا يمكن للمسلمين أن يحيوا حياة مشرفة إلاّ بالإسلام ، لقد أضاعوا إسلامهم ، لقد عُدنا نجهل الإسلام ، بسبب إيحاءات الغرب وتشويهاته ، ولذلك فإنّ المسلمين يجتمعون كلّ عام في مكة المكرمة حيث جعلها اللّه ملتقى للمسلمين ، لكنهم لا يدرون ماذا يفعلون ، لا يستفيدون من هذا الاجتماع إسلاميا ، ومثل هذا المركز السياسي جعلوه مركز غفلة عن كلّ مسائل المسلمين ، ولو استثمر المسلمون عطاء الحج السياسي؛ لكان ذلك كفيلاً بتحقيق استقلالهم ، لكننا أضعنا الإسلام مع الأسف ..
لقد أبعدوا الإسلام عن السياسة ، فقطعوا رأسه وسلّموا لنا بقيته وجرّونا إلى الوضع الذي نعيشه اليوم ، وما زال المسلمون على هذه الحالة فلن يستعيدوا مجدهم» .
إلى هذا المنوال ، يستعرض الإمام مظاهر الهجوم الشرس من قبل أعداء الإسلام على العالم الإسلامي ، من قبيل ما كان يجري ، يومئذ في أفغانستان ، حيث الاجتياح السوفيتي ، وما تشنه الدولة العبرية من هجوم واسع النطاق على المسلمين في فلسطين العزيزة ولبنان العزيز .. ومع إعلان إسرائيل عن مشروعها الإجرامي بشأن نقل عاصمتها إلى القدس .. وما يقدمه عملاء أمريكا من خدمات كبيرة لتنفيذ مخططها الإجرامي ، مع ما يتزامن مع ذلك كلّه من حصار وتآمر ونشر دعايات سوء وأكاذيب وافتراءات ضد الثورة الإسلامية .
وهنا يقول الإمام : “على المسلمين أن يكونوا يقظين أمام خيانات هؤلاء العملاء الأمريكيين بالإسلام والمسلمين”.
ومتى ما توفر الوعي واليقظة فإنّ قدرا مهما من تفويت الفرصة على أعداء الإسلام يكون قد تحقق على أرض الواقع ، وبخلاف ذلك فإنّ المخطط المناوئ للإسلام يشقّ طريقه دون أية عوائق تذكر ، وهذا ما يدلّنا على سر العداء الشديد الذي تكنّه الدوائر الاستكبارية للحركات الإسلامية ، والتي دأبت على وصفها بالحركات الأصولية أو الراديكالية أو الإرهابية .
* البراءة في الحج في فكر الإمام :
أحيا الإمام الخميني ركن البراءة من المشركين والمستكبرين ، وهو ركن ظل منسيا طوال التاريخ ، وهي البراءة من أعداء الله وتولي أولياء الله ، وهي التي جاءت في سورة التوبة ، لتعلن ضرورة واجهة الاستكبار ، لقد تحولت «البراءة» في مفهوم وعينا السياسي الإسلامي إلى ركن من أركان وجودنا الجهادي …
ونتلمس في حركة مواجهتنا للأنظمة التابعة ولقوى السيطرة الدولية حضورا مميز لعقيدة البراءة ، وعلى ضوء فكر هذه النهضة عند الإمام الخميني ، نتلمس أركان عقيدة البراءة في محتواها السياسي وإطارها الحركي وصلتها بالواقع الإسلامي المعاصر ، من خلال النقاط الآتية :
المرتكز التوحيدي :
أوّلاً : إن عقيدة البراءة من أوضح العقائد الإسلامية التي يعكسها الآن بكل وضوح ، حتى أن شعار المسلم التوحيدي يضم بين دفتيه مفهوم البراءة كاملا ، فقول المسلم في كل لحظة «لا اله إلا الله» ينفي في جانبه الأول كل الولاءات والولايات ، ويثبت في جانبه الثاني الولاية لله فقط. والمسلم يهتف يوميا «قل هو الله أحد» ليعبر عن جانب التولّي ، ويهتف {قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما تعبدون} ليعبّر عن جانب البراءة من كل ما لا يدخل في الولاية الإلهية التوحيدية .
ومن هذا الإشارات السريعة يتضح المركز التوحيدي لاعتقاد البراءة ، لذلك نرى الإمام الخميني ينظر إلى البراءة باعتبارها جزءً لا يتجزأ من عقيدة التوحيد ، فيقول في بيانه إلى حجاج بيت الله الحرام (1407هـ عام المذبحة): «إعلان البراءة من المشركين التي تعتبر من الأركان التوحيدية والواجبات السياسية للحج» وبعد أن يطلب سماحته إلى حجاج المسلمين إطلاق صرخة البراءة بجوار بيت التوحيد «من مشركي الاستكبار العالمي وملحديه ، وعلى رأسهم أمريكا المجرمة ، وألا يغفلوا عن إظهار استيائهم من أعداء الله وأعداء خلقة وعدائهم لهم» يتساءل سماحته قائلاً: «فهل تحقيق الديانة هو غير إعلان الغضب والبراءة من الباطل ؟ يستحيل أن يتحقق خلوص حب الموحدين بغير إظهار الاستياء من المشركين والمنافقين» .
ثانياً : بعد أن يوضّح الإمام الراحل موقع البراءة في عقيدة المسلم وأنها تدخل في التوحيد ذاته ، إذ لا يستطيع المسلم أن يكون موحدا دون أن يكون متبرئا من الولايات والولاءات غير الإلهية ، يعطي لاعتقاد البراءة منطلقة في الممارسات العبادية للأمة ، لكي تتحرك البراءة عمليا في وجود المسلمين وواقعهم المعاصر. وسماحته يرى الحج أفضل منطلق للبراءة إذ: «أي بيت هو أفضل من الكعبة ، البيت الآمن والطاهر ، بيت الناس ، لنبذ كل أشكال الظلم والعدوان والاستغفال ، والرق والدناءة واللاإنسانية قولا وفعلا ، وتحطيم أصنام الآلهة تجديدا لميثاق {ألستُ بربكم} وإحياء لذكرى أهم وأكبر حركة سياسية للرسول التي عبر عنها القرآن بقوله {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} (بيان الحج عام 1407 هـ). وعندما يكون الحج المركز الذي ينطلق منه أذان البراءة ، فان في ذلك استحضارا لقاعدة قرآنية «فالله سبحانه وتعالى ورسوله العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ناديا في يوم الحج الأكبر بان الله بريء من المشركين ورسوله» (بيان حج 1404 هـ) ..
إذن ، أول المنطلقات الحركية – النهضوية للبراءة هي أن تتمثل سلوكا وعملا في مراسم الحج المستضيئة بصورة الحج الإبراهيمي – المحمدي ، وأن تأخذ موقعها في مركز توحيد المسلمين (الكعبة). وليس أدل على هذا الربط القرآني – المكاني في البراءة من أن يتوحد مركزها النظري في التوحيد عقيدة ، وفي بيت الله سلوكاً وحركة ومنطلقاً .
ثالثاً : في هذه الخطوة ينقل الإمام مفهوم البراءة من النظرية إلى العمل والى الحركة والسلوك. فما لم يتجسد الاعتقاد التوحيدي حركة وعملا ونهضة في وجود المسلمين ، فإنه سيتحول إلى اعتقاد بارد لا يملك في نظر الإسلام قيمته الحقّة.
ولا يكفي أن تنتقل البراءة نظريا من التوحيد الاعتقادي إلى حيّز العمل والسلوك ، وإنما يعمد الإمام في حركة موازية إلى نقل مجالها المكاني – الزماني من مكة مركزا ومنطلقا ، ومن الحج موسما ومناسبة ، إلى أن تكون فاعلة في دنيا المسلمين وفي أقاليمهم وأماكن وجودهم في كل وقت وزمان «ذلك أن سنة الرسول وإعلان البراءة لن يبْلَيا ، لأن إعلان البراءة لا يقتصر فقط على أيام الحج ومراسمه وإنما على المسلمين أن يملئوا أجواء جميع أنحاء العالم بالمحبة والعشق لله البارئ ، وبالبغض والاستياء والرفض لكل أعداء الله» بيان الحج عام 1407 هـ
رابعاً : يتبادر إلى أذهان البعض (أصدقاء وأعداء) أن البراءة مجرد شعار أو مسيرة تنطلق سنويا في مكة ، فماذا يؤثر الشعار ، وماذا تفعل المسيرة في واقع الصراع الراهن وما يواجهه المسلمون من تحديات وولايات أرضية عاتية متمركزة في أوضاع دولية معتقدة تقوم على الهيمنة والقوة ؟
يجيب الإمام الراحل موضحا ذلك بقوله: «وعلي أي حال ، فان إعلان البراءة في الحج هو تجديد العهد بالجهاد ، وتربية المجاهدين لمواصلة الحرب ضد الكفر والشرك وعبادة الأصنام ، وهو لا يقتصر علي الشعارات بل يتعداها إلى تعبئة جنود الله وتنظيم صفوفهم أمام جنود إبليس وبقية الأبالسة ، والبراءة هذه تعتبر من المبادئ الأولية للتوحيد» . إن البراءة بهذا المعني تتحول إلى منهج للحركة والعمل ، من خلال تنظيم الطاقات ، وتحريكها في سياق أهداف مواجهة أعداء المسلمين وما يلاقونه من تحديات ، وفي الطليعة تحديات الهيمنة الغربية .
وفي نص آخر نرى الأمّة مدعوّة في كل وقت ومكان إلى أن تعتبر البراءة إعلانا للجهاد ، ثم تواصل البراءة عبر مواصلة الجهاد بما يناسب ساحتها وخصوصيتها وإمكاناتها وقدراتها ، وهو ما يمثل في الوقت نفسه تحديدا لإطار الحركة ، يقول الإمام : «إن إعلان البراءة هو المرحلة الأولى من الجهاد ، ومواصلته هي من المراحل الأخرى لواجبنا ، وأنه يتطلب في كل عصر وزمان مفاهيم وأساليب وبرامج خاصة» (بيان عام 1407 هـ) .
خامساً : كأمثلة تكشف الإطار الكلي للبراءة في المستوى الحركي الذي ينتقل فيه المفهوم من العقيدة النظرية إلى الحركة والعمل ، وفي المستوى النهضوي الذي تنتقل فيه البراءة من نطاق المحدودية في المناسبة(الحج) والمكان (إيران) إلى آفاق العالم الإسلامي الوسيع نقف على مثالين محدودين من بين أمثلة واسعة يضعها الإمام ، ففي بيانه إلى المسلمين سنة 1407 هـ وبعد أن يتحدث سماحته عن أبعاد مفهوم البراءة ، ويستعرض شبهات الجهلة وعقبات الأعداء؛ يحدد الإمام جانبا من وظيفة هذه العقيدة وشمولها ، فيقول : «إن صرخة براءتنا من المشركين والكفار اليوم ، هي صرخة براءة من الظلم والظالمين ، وصرخة امة ضاقت ذرعا باعتداءات الشرق والغرب ، وعلى رأسهم أميركا وأذنابها ، وغضبت لنهب بيتها وثرواتها …
وفي آخر يتجلى مضمون البراءة في خط جهادي عميق يتصدي للهيمنة الغربية – الأمريكية على قيمنا الثقافية والسياسية والوطنية ، ويواجه عمليات النهب الدولي لثرواتنا والانتهاك اليومي لكرامة شعوبنا وحقها في الوجود : «إن صرخة براءة تناهي صرخة الدفاع عن الشعوب والكرامات والنواميس ؛ صرخة الدفاع عن الثروات والرساميل صرخة براءة تناهي صرخة الفقر والفاقة والجياع والمحرومين الذين نهب الجشعون والقراصنة الدوليون حصيلة كدّ يمينهم وعرق جبينهم ، أولئك الذين امتصوا دماء الشعوب الفقيرة من الفلاحين والعمال والكادحين باسم الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية ، وربطوا العصب الحيوي لاقتصاد العالم بهم أنفسهم ، وحرموا شعوبه من استيفاء ابسط حقوقها المشروعة .
يري الإمام في جهاد مسلمي أفغانستان ومقاومة الشعبين اللبناني والفلسطيني تمثّلا لعقيدة البراءة. وبكلام واضح ينظر الإمام إلى نهضة المسلمين لاستعادة مجدهم وكسر قيود السيطرة الشرقية والغربية المفروضة علي وجودهم وكيانهم ، إنها تمثل دقيق لعقيدة البراءة. سادساً: تدرك القوى الدولية المعاني النهضوية والحركية في مبادئ الإسلام وأحكامه الحقة ، لذلك تسعى إلى أن لا تتحول هذا المبادئ إلى مستوى الحركة والعمل. وعندما أصر الإمام الراحل (رضوان الله عليه) على إنزال مفهوم البراءة إلى حيّز الفعل والعمل بادرت هذه القوى للحيلولة دون ذلك بكل السبل ، كجزء من مهمتها الكبرى في مواجهة حركة الإسلام المعاصر .
لقد وعت هذه القوى خطورة عقيدة البراءة ، وأن جهلها في أوطاننا بعض المسلمين ، فأعلنت الحرب عليها ، وشددت الحصار على منطلقها ، فكان في هذا السياق ، مذبحة البيت الحرام سنة 1407 هـ .
في هذا الصدد يوضح الإمام بعض هذه الأمور ، فيقول: «نعم ، ففي منطق الاستكبار العالمي يتهم بالشرك كل من يريد تجسيد البراءة من الكفر والشرك ، فيحكم عليه المفتون من أحفاد بلعم بن باعورا ، بالقتل والكفر» (بيان 1408 هـ بمناسبة موافقة إيران على القرار 598 ، ومرور عام على مذبحة البيت الحرام).
والإمام يشير في كلامه إلى أمريكا التي ظهرت أيديها من أكمام الفرقة الوهابية المتحجرة التي تشيع في الأمة الضلال ، وتصدر من مشارب خرفه منحرفة واردة على أصول الإسلام ودخيلة عليه؛ ببدع لا يعرفها المسلمون. والذي يؤسف له أن هذه الفرقة أكدت مركزها عبر التحالف السياسي مع بعض الأنظمة وإن كانت جسور هذا التحالف قد بدأت بالتصدع الذي يرسم علامات الاستفهام على مصيرها ومستقبلها.