تمثل مظاهر إحياء أمر أل البيت، وخاصة ذكرى استشهاد الإمام الحسين، وشعائرها والطقوس المنسوبة إليها؛ أحد أهم عناصر الشد العقدي والوجداني والنفسي والمجتمعي المحورية للمذهب الشيعي ونظامه الاجتماعي الديني، وهي تلعب أدواراً نوعية ومتعددة في تقوية هذا النظام وتمييز هويته. ولعل المراقد والشعائر هما العنصران الأكثر التصاقاً بالوجدان الشعبي الشيعي، والأكثر إلهاباً لمشاعر الشيعة من بين عناصر قوة نظامهم الاجتماعي الديني الأُخر، ولا فرق في ذلك بين متدين مقلِّد للمراجع وبين غير متدين لا يقلد، أو بين إسلامي متزمت وبين علماني منفلت فكرياً، أو بين مؤمن وبين مقارب للإلحاد.
ومن أهم مخرجات الشعائر الحسينية وطقوسها أنّها تخلق طاقة محركة هائلة من الحماس المجتمعي الشامل لمواجهة أيّ تحدٍّ وتهديد للنظام الاجتماعي الديني الشيعي ومكوناته؛ الأمر الذي حوّلها إلى هاجسٍ وجودي للنظم السياسية الطائفية المتعاقبة، منذ واقعة استشهاد الإمام الحسين وحتى الآن، وظلت تعدّها تهديداً تلقائياً لها. ولذلك؛ عملت هذه الأنظمة بكل ما تمتلك من وسائل قوة قانونية وسياسية وأمنية وعسكرية، من أجل القضاء على هذه الشعائر وطقوسها.
وتعد المراسيم السنوية التي تقام في ذكرى مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين بن علي؛ ظاهرة إنسانية واجتماعية ودينية فريدة في شكلها ومضمونها، وحجمها ونوعها، وتشد انتباه المتخصص قبل المراقب العادي. ومسيرة المشاة السنوية الى مرقد الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) في ذكرى أربعينية؛ هي ممارسة شرعية، ومنتجة في آثارها ومخرجاتها، وعظيمة في تأثيرها وشكلها ومضمونها. وهذه المراسيم هي ظاهرة اجتماعية إسلامية شيعية بامتياز، وتعد مادة مهمة ونوعية للدراسات التنموية التطبيقية؛ سيما في مجالات التنمية البشرية والمجتمعية والدينية، وكذلك الدراسات الأكاديمية النظرية؛ في كثير من الفروع الإنسانية والاجتماعية. وأعتقد أن مراكز البحوث العالمية وعلماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي وعلماء الاجتماع الديني وعلماء الإنثروبولوجيا؛ ولاسيما الغربيين والمستشرقين؛ لو درسوها بعمق؛ لخرجوا بنتائج علمية غاية في الأهمية؛ تشكل إضافة نوعية لقواعد علم الاجتماع الديني.
ودراسة مثل هذه الظاهرة بحاجة الى تجرد وموضوعية تجاه مادة البحث؛ وهذا ما لا تعرفه الساحة العلمية والثقافية العربية غالبا؛ لأنها تجاه هكذا ظواهر؛ تكون الأحكام الجاهزة المؤدلجة والمسيسة التي تفرضها الانتماءات المذهبية والطائفية السياسية، هي قاعدة البحث وعماد نتائجه.
هذه المراسيم التي تختتم في مدينة كربلاء؛ يوم العشرين من صفر من كل عام هجري؛ تعود جذورها الى أول مراسيم أقامها آل البيت المفجوعين؛ بعد مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين في العام 61 للهجرة، لم تنقطع حتى سنة واحدة، بالرغم مما تعرضت له من قمع، يتراوح بين التهديد والوعيد لمن يشارك فيها وصولا الى المنع المطلق واعتقال وتعذيب وقتل من يشارك فيها. ولم تشهد استقراراً حتى بعد سقوط نظام البعث الطائفي في العام 2003، وما أعقبه من مشاركة الشيعة في الحكم، إذ ظلت هذه المراسم تتعرض الى أنواع قاسية من حالات العنف من قبل الجماعات التكفيرية الوهابية وبقايا نظام البعث.
لقد بدأت المسيرة بشكلها المنتظم الحديث في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي؛ بأفراد ينطلقون من مدينة النجف الأشرف الى مدينة كربلاء المقدسة مشياً على الأقدام لمدة أربعة أيام؛ بمعدل 20 كيلومتراً في اليوم.
وإذا كانت مراسيم إحياء ذكرى أربعين الإمام الحسين بشكلها الحديث؛ أي السير على الأقدام من مدينة النجف الى مدينة كربلاء؛ قد بدأت بمبادرة أفراد من النجف قبل حوالي 150 عاما؛ فإنها تطورت الى جماعات بالمئات في أوائل القرن العشرين، واستمرت بحشود بعشرات الآلاف في أواسط القرن العشرين الميلادي. وها هي تصل هذا الى 24 مليون مشارك في أكبر مسيرة راجلة متعددة الجنسيات عرفتها وتعرفها البشرية في تاريخها وجغرافيتها.