موازنة 2023 ومظلة الريع النفطي : قراءة تحليلية في تداعيات التأثير ومقاربات التغير
م.م هاني مالك العسكري// مركز تبين للتخطيط والدراسات الستراتيجية
مقدمة:
تزداد التحديات المحدقة بالاقتصاد العراقي مشكلة تهديداً خطير لجهود الاصلاح والتنمية نظراً لهيمنة المورد النفطي والتقلبات التي تشهدها اسعار النفط والانكشاف الكبير لسياسات المالية العامة على الايرادات النفطية. اذ ان اي انخفاض لأسعار النفط الى دون المستويات التي تطبعت عليها الموازنة والاقتصاد يترك اثار انكماشية حادة, ويفاقم من عجز الموازنة .وتجربة العراق غنية في هذا المجال لإيضاح الدور السلبي للنفط وتقلباته المفاجئة, وافصحت هذه التجربة عن نموذج نمو فريد في الاقتصاد العراقي , اذ تكون النفقات الحكومية الممولة بالإيرادات النفطية محركاً لمعظم القطاعات الاقتصادية . الامر الذي ينذر بخطورة مسايرة المالية العامة لدورات الرواج والكساد التي تشهدها السوق النفطية على عملية النمو والاستقرار الاقتصادي . لذلك تفرض هذه التحديات ضرورة قيام الحكومة بانتهاج سياسات اقتصادية فعالة وواضحة المعالم تهدف بالأساس الى تنويع مصادر تمويل الانفاق العام وعزل الموازنة العامة عن تقلبات السوق النفطية.
اولاً: دور المالية العامة في الاقتصاد العراقي.
تؤدي سياسة المالية العامة دوراً حاسماً في الاقتصاد العراقي , باعتبارها الاداة الرئيسية التي يتم من خلالها تحويل ثروة البلاد النفطية الى نتائج اقتصادية وتوزيعها على شرائح المجتمع وقطاعات الاقتصاد المختلفة . غير ان تقلب الايرادات النفطية يشكل تحديات امام ادارة المالية العامة , ويمكن ان تكون تقلبات اسعار النفط وتغيراتها كبيرة وطويلة الامد , الامر الذي يعيق المالية العامة من الاستجابة لمتطلبات التنمية والاستقرار الاقتصادي, فالاقتصاد يعتمد على الايرادات النفطية بشكل كبير في دعم النمو ورصيد المالية العامة , فاكثر من 90% من ايرادات المالية العامة تأتي من بيع النفط , ومن ثم تكتسب تطورات السوق النفطية اهمية محورية للأفاق الاقتصادية, فالهبوط الحاد في اسعار النفط سيؤثر تأثيراً مباشراً على ارصدة المالية العامة يؤدي بمرور الوقت الى تباطؤ النمو الاقتصادي.
ثانياً: الاختلال الهيكلي في بنية الموازنة العامة.
تعاني الموازنة العامة في العراق من ظاهرة مالية خطيرة , إلا وهي العجز المخطط والذي يشهد تزايداً مستمراً كما في الجدول ادناه والذي يمكن وصفه بالعجز الهيكلي . ولو تم اعتماد النفقات والايرادات الفعلية فان الصورة تتغير وقد يصبح العجز المخطط الى فائض حقيقي.
تشير البيانات الخاصة بموازنات العراق عدم الدقة في تقدير النفقات او الايرادات , وكسياق سنوي اصبحت الموازنة في العراق تعد بعجز مهما كانت ظروف الاقتصاد ,إلا انها في النهاية يتحول هذا العجز الى فائض في اغلبها عدا سنوات الازمات. فعند تفحص بيانات الجدول (1) خلال المدة 2015- 2021 فان السنوات 2017 و 2018 و 2021 كانتا تتمتعان بفائض لا سيما بالنسبة لسنة 2021 التي بلغ الفائض فيها 48 ترليون . ولم تبين وزارة المالية الية التصرف بهذه الفوائض سوى الاشارة الى جزئيات تفتقر الى الدقة .
من الجدول رقم (1) الذي يشير الى جانب النفقات الفعلية والمخططة ونسبة التحقق منها . نجد ان ما متحقق من النفقات العامة المخططة ما نسبته 87% في موازنة 2019 فيما كانت اقل نسبة تحقق هي سنة 2015 والتي بلغت حينها 58%. هذا القصور في تنفيذ النفقات العامة يدلل على احد الامور: اما ان الأهداف الموضوعة لا تتناسب مع امكانيات التنفيذ, او ان الجهات التنفيذية غير راغبة في انفاق ما يخصص من نفقات عامة او ان هناك جهة عليا قيدت امكانية الصرف.
اما في جانب الايرادات العامة والتي يعتمد في تقديرها على وفق الكميات المنتجة من النفط واسعاره التي تقدرها وزارة النفط . فنجد ان السنوات 2015 – 2017 كانت الايرادات المتحققة اقل من المتوقعة في حين كانت الايرادات المتحققة للسنوات 2018 و2019 و2021 اعلى من الايرادات المخططة ويرجع ذلك الى التحفظ في اعتماد اسعار النفط الذي اقر في هذه الموازنات والى ارتفاع الاسعار. هذا التقدير المتخبط في الايرادات يشكل مشكلة كبيرة في الاقتصاد العراقي
جدول ( 1 ) النفقات والايرادات الفعلية والمخططة ونسب التحقق للسنوات ( 2015 – 2021 ) مليار دينار
السنة | 2015 | 2016 | 2017 | 2018 | 2019 | 2020 | 2021 | |
النفقات
مليار دينار |
المخططة | 119,462,429 | 105,895,722 | 96,634,506 | 102,771,434 | 128,005,166 | – | 81,080,198 |
الفعلية | 70,397,515 | 67,067,433 | 75,490,115 | 80,873,188 | 111,723,523 | 76,082,442 | 60,402,989 | |
نسبة التحقق% | 58.9 | 63.3 | 78.1 | 78.6 | 87.2 | – | 74.4 | |
الايرادات
مليار دينار |
المخططة
|
94,048,364 | 81,700,803 | 79,011,421 | 91,643,667 | 105,569,686 | – | 101,320,141 |
الفعلية | 66,470,252 | 54,409,269 | 77,422,172 | 106,569,834 | 107,483,586 | 63,199,689 | 109,081,463 | |
نسبة التحقق% | 70.6 | 66.5 | 97.2 | 116.2 | 101.8 | – | 107.6 | |
العجز ( الفائض) | المخطط | 25,414,065- | 24,194,919- | 17,623,085- | 11,127,767- | 22,435,480- | – | 20,239,943 |
الفعلي
|
3,927,263- | 12,658,164- | 1,932,057 | 25,696,646 | 4,239,937- | – | 48,678,474 |
المصدر : عمل الباحث بالاعتماد على
- البنك المركزي العراقي , النشرة الاحصائية السنوية , دائرة الاحصاء والابحاث , السنوات ( 2015-2021).
- الموازنة المفتوحة , متاح على موقع وزارة المالية
ثالثاً: موازنة 2023 والهيمنة النفطية .
في الاقتصاد العراقي يتم استخدام الموازنة العامة في تحقيق الاهداف الاقتصادية الحكومية عبر توجيه الانفاق الحكومي نحو الخدمات العامة وتعزيز البنية التحتية ورفع المستوى المعاشي لفئات المجتمع المختلفة , وبذلك فالنفقات الحكومية هي المحرك الرئيس لكافة القطاعات الاقتصادية , وتوليد فرص العمل وتحقيق النمو والاستقرار الاقتصادي . تعاني الموازنة من اختلال وعدم استقرار بشقيها الايرادي والانفاقي بسبب جملة من العوامل يقف في مقدمتها هيمنة المورد النفطي وتقلباته على اتجاهات الايراد والانفاق العام , فظلا عن عمق الاختلال الذي يعاني منه الاقتصاد الحقيقي . وفيما يلي نستعرض الهيكل المالي لعناصر الموازنة العامة لعام 2023.
1– هيكل الايرادات الحكومية:
يؤدي اختلال الهيكل الانتاجي للاقتصاد من خلال اعتماده على سلعة أولية واحدة في التصدير إلى اختلال هيكل الموارد المالية للدولة . وفي الاقتصاد العراقي فان معظم موارد الدولة تغطى من الايرادات النفطية , كونه اقتصادا ريعيا يعتمد على النفط بشكل رئيس في تمويل الموازنة والاقتصاد. والشكل (1) يبين هيكل الايرادات العامة ومصادر تمويل الموازنة العامة لعام 2023.
المصدر عميل الباحث بالاعتماد على قانون الموازنة العامة الاتحادية لعام 2023.
يلاحظ من الشكل اعلاه ان الايرادات النفطية تماثل الايرادات العامة في نفس الاتجاه , وان هذه الايرادات هي المصدر المهيمن على تمويل الموازنة , وكأن الايرادات العامة هي دالة للإيرادات النفطية .هذه الحقائق تفصح عن عمق الاختلال في هيكل الايرادات الحكومية والحاجة لتعظيم مصادر الايرادات الاخرى لتحقيق التوازن المنشود.
كما ان الارتباط بدفق الريع النفطي يضع الأنفاق الحكومي ومن بعده الاقتصاد العراقي على المحك, لأن التذبذب المستمر لأسعار النفط بسبب تداخل العوامل الاقتصادية والجيوسياسية في تحديده يعني ربط الاقتصاد المحلي بعوامل وقوى خارجية . فالموازنة بهذه الصيغة هي منكشفة على الايرادات النفطية بنسبة (87%)
2- هيكل النفقات الحكومية .
بعد التغير الذي طرأ على النظام السياسي في البلاد عام 2003 وما تبعه من فلسفة تمثلت بضرورة التوجه نحو اقتصاد السوق كان من المتوقع أن تتغير طبيعة التوجه الانفاقي ووظيفة السياسة المالية من ادة اساسية للإدارة الاقتصاد الريعي إلى ادة اساسية لإدارة التحول نحو اقتصاد السوق. إلا أن الواقع الموضوعي يؤشر خلاف ذلك ,إذ أن التوجه الانفاقي للدولة حول السياسة المالية إلى قناة لتوزيع الريع النفطي من خلال الانفاق الاستهلاكي العالي والانفاق الاستثماري الخدمي بعيدا عن شروط الكفاءة الاقتصادية للإنفاق العام .
المصدر عمل الباحث بالاعتماد على قانون الموازنة العامة الاتحادية لعام 2023.
رابعاً: متطلبات الاصلاح والسياسات المطلوبة.
ان اصلاح قطاع المالية العامة في العراق يجب ان يكون وفق المنظور الزمني , فتكون هناك اجراءات قصيرة المدى , واخرى بعيدة المدى , من اجل النهوض بواقع الاقتصاد , فكل الازمات والمشاكل التي تعرض لها الاقتصاد العراقي , هي نتيجة الاحادية الشديدة التي يتمتع بها الاقتصاد , وهي بمثابة جرس انذار للحكومة لإعادة النظر بسياساتها القائمة .
اولا اجراءات الامد القصير
1- ايرادات المنافذ الحدودية ومشاكل احتسابها , والتي يجب ان تحسب على اساس حجم الاستيرادات ونسبة الضريبة المفروضة على السلع المستوردة , وهذا يعني اعادة النظر بعمل المنافذ واستخدام الوسائل التقنية الحديثة في ضبط الاستيراد وتحقيق نسب الضرائب المفروضة , وغلق المنافذ غير الرسمية والسيطرة على دخول السلع التي منعت من الاستيراد , وبخاصة منافذ الاقليم .
2- قيام الدولة باحكام سيطرتها على تحصيل الايرادات السيادية , والتي من ابرزها ايرادات جباية الكهرباء , وايجار الاراضي الزراعية , حصة الدولة من ارباح شركات الهاتف النقال , حيث ان تحصيل هذه الايرادات ومراقبتها بشكل سليم وفقا للقوانين النافذة سينعكس على زيادة قدرة الدولة في بناء الحيز المالي وتحسين مجالات الدعم المالي لتقديرات بنود الانفاق العام .
3- الغاء الازدواجية في الرواتب ولكل الفئات وبدون استثناء , فضلا عن اعادة النظر للممنوح وفقا لاعتبارات سياسية, ومنع المخصصات التي منحت في ظل ظروف معينة .
4- اعتماد سياسات انفاق حكومية معززة لأستدامة المالية العامة , وذلك من خلال ترشيد الانفاق غير المبرر من خلال ايقاف استيراد السلع الكمالية وغير الضرورية وتشجيع المنتج المحلي , فضلا عن اعادة النظر في السفارات والقنصليات غير الضرورية ودمجها مع السفارات والقنصليات في الدول التي يوجد فيها عراقيين.
اجراءات الاجل الطويل
1- اتمام منظومة التشريعات الضرورية لخصم نسبة معينة من الايرادات النفطية ووضعها في صندوق سيادي للعراق، على ان تستثمر مبالغ الصندوق في المصارف والمؤسسات المالية الأجنبية للاستفادة من الفوائد المتحصلة عنها، وتحدد مهام الصندوق بمعالجة الازمات المالية المتكررة التي تعصف بالاقتصاد العراقي.
2- العمل على احياء أنشطة القطاع الزراعي وتنمية الثروة الحيوانية، وتفعيل دورها من جديد بعد ان اصابها الركود بسبب اهمال الحكومات المتعاقبة وعدم اهتمامها بهذه الأنشطة الضرورية لتحقيق التنمية ورفع معدلات النمو الاقتصادي، فضلا عن العمل على إعادة جذب الايدي العاملة لتلك الأنشطة والتي هجرها العاملين فيها وتحولهم الى انشطة واعمال اخرى.
3- العمل على تطبيق القوانين والتشريعات النافذة )قانون حماية المنتج، قانون حماية المستهلك، ….وغيرها من القوانين(، التي تضمن استمرار الأنشطة الصناعية المحلية أو النهوض بواقعها المتردي، فالكثير من السلع الصناعية والزراعية بسبب عدم قدرتها على منافسة السلع المستوردة)على الرغم من رداءة المنتج المستورد ( تم التوقف عن انتاجها محليا مما سبب توقف الكثير من المصانع والأنشطة المحلية في القطاعين الصناعي والزراعي عن العمل، لذلك على الحكومة إيلاء الاهتمام لهذين القطاعين واعادة الحياة لهما وسن قوانين جديدة
تضمن لهما الاستمرار والتطور.
4- حصر املاك الدولة واعادتها من الشاغلين غير القانونيين لها , بغية تأجيرها او بيعها او أي اجراء اخر ترتأيه الحكومة وفق القوانين النافذة في البلد.
5- العمل وفق مبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص , كونها تجربة اثبتت نجاحها في كثير من الدول وفي العراق توجد مجالات عدة لهذه الشراكة ( الموانئ , صناعة الاسمنت , الصناعات الكيمياوية وغيرها الكثير .
6- العمل على اعادة التفاوض مع الشركات النفطية العاملة في البلد على وفق جولات التراخيص بما يضمن مصالح البلد بشكل سليم من حيث تكاليف الانتاج او كمياته.