
يُقال إن للوعي باباً لا يُفتح إلّا لمن يعرف طرقه الخفية.
ويُقال إن القادة الحقيقيين لا يولدون في القصور، بل في الأزقّة التي تعلمت أن تمشي على ضوء ضميرها حين غاب الضوء عن الدولة.
وهنا… في هذا المكان الذي تتزاحم فيه الغرائز كما تتزاحم الظلال في غروب متعب،
نرفع السؤال إلى السماء:
من أين تأتي القيادة الواعية؟
وكيف يمكن لنبتة وعيٍ صغيرة أن تشق طريقها بين صخور من الغطرسة، ورماد من الدسائس، وأشواك من الجهل المتعمد؟
في هذا البلد، الأفكار تمشي حافية، والحقائق ترتجف في الممرات.
السياسة ليست فنّ الممكن، بل فنّ الاستعراض،
والمنصب لا يبحث عن الرجل، بل عن المرآة.
والناس؟
يعيشون بين دستور يتلو قصائد عن الكرامة،
وواقعٍ يجرّح كل يوم أصابع الفقراء.
ومع ذلك—وهنا يبدأ السرد الحقيقي—
لم تمت الحكاية.
ففي قلب كل مجتمع، مهما علا فيه ضجيج الغرائز،
هناك نواة صغيرة تضيء…
تختبئ…
ثم تظهر فجأة كشرارة لا يمكن إطفاؤها.
هذه النواة هي الوعي.
وهي وحدها القادرة على أن تصنع قائداً.
القائد الواعي لا يولد من فوق.
لا يهبط مع البيانات الرسمية ولا يُصنع في ورش التحالفات.
إنه ينبت من أرضٍ تتعلم شيئاً فشيئاً أن تحب… أن تتسامح… أن تثق…
أرض تهدم فيها الناس أصنام السيطرة،
وتكسر الأغلال التي ربطتهم بثقافة الملكية والسطوة
حتى لو كانت السطوة على كرسيّ مهترئ لا يصلح حتى للسخرية.
وفي تلك اللحظة—حين يتنفس المجتمع للمرة الأولى خارج عباءة الخوف—
تبدأ الرموز في الحركة.
يخرج قائدٌ لم يكن معروفاً على الشاشات،
لكن القلوب تعرفه، كما تعرف الأرض خطوات المطر الأول.
يخرج شفافاً كحكمة جدٍّ قديم،
قاسياً كصوت ضميرٍ لم يعد يريد أن يُغلق فمه،
صلباً كجدارٍ تملّكته فكرة العدل،
وناعماً كيدٍ تمسح على كتف وطنٍ أنهكه الانتظار.
وفي تلك اللحظة، يصبح الدستور تفصيلًا،
ويتحول سطر القانون إلى حاشية صغيرة في كتاب الأمة،
لأن الوعي—حين يسود—يجعل القانون انعكاساً أخلاقياً لا نصاً جامداً.
وما لم تهدم الركائز المريضة التي عاشت عليها ثقافة الاستحواذ،
وما لم يُفتح بابٌ للصدق،
وشباكٌ للوفاء،
وممرّ للحبّ البسيط الذي يجعل الناس يقفون لبعضهم لا على بعضهم…
فلن تولد القيادة الواعية حتى لو جلس ألف حكيم يكتبون ألف دستور.
فالقيادة الواعية لا تأتي من فوق…
ولا تُستدعى بمرسوم…
إنها تنهض مثل طائر يخرج من صدر الليل،
تحملها طاقة الناس حين يتفقون—ولو لبضع لحظات—
على أنهم يستحقون وطناً لا يحكمه الخوف،
ولا تديره الشهوات المتحكمة،
ولا يكتبه الجهل بخطوط سميكة.
إنها قصة…
ولكنها أيضاً معركة.
وهي قصيدة،
ولكنها أيضاً خطة إنقاذ.
وفي النهاية، يبقى السؤال نفسه…
لكننا نصير أقرب إلى جوابه:
من أين تأتي القيادة الواعية؟
من حيث يولد الوعي نفسه…
من الناس.
من جراحهم.
من أحلامهم.
ومن لحظة نادرة يلتقي فيها الصدق بالشجاعة في رجلٍ واحد،
فيتحول إلى قائد.



