
في سياق كلمة موجزة ونافذة كقول الإمام علي بن أبي طالب (ع):
«أَيُّها الكاتِبُ ما تَكتُبُ مَكتوبٌ عَلَيك، فاجعلِ المَكتوبَ خَيراً فهو مردودٌ إليك»
تتجلى رؤية أخلاقية عميقة تُحمّل الكاتب مسؤولية مزدوجة: مسؤولية أمام ذاته، ومسؤولية أمام المجتمع والتاريخ.
فالكتابة ليست عملاً عرضياً أو ممارسة لغوية محايدة، بل فعل أخلاقي يتجاوز لحظة التعبير، ليصبح جزءاً من سجل الإنسان وسيرته، بل ومن أثره الممتد في الآخرين.
من حيث الجوهر، يربط الإمام علي بن ابي طالب بين الكتابة والجزاء، وهي علاقة ليست بالضرورة علاقة دينية صِرفة، بل علاقة وجودية يفرضها المنطق الإنساني ذاته. فالكلمة المكتوبة تعود إلى صاحبها بما خلّفته من أثر: إن كانت ناضجة وعميقة ومتوازنة، عادت عليه بالاحترام والمكانة والثقة؛ وإن كانت واهية أو مضللة أو هابطة، عادت عليه بالشك والريبة والاستهانة. في كلتا الحالتين، يظل الكاتب مسؤولاً عن بصماته الفكرية التي لا تزول مهما حاول التبرير أو التراجع، لأن أثر الفكرة أشد رسوخاً من أثر الخطوات في الرمال.
الكتابة، في هذا الفهم، مرآة للوعي وميزان للنضج. فهي تكشف المستوى الأخلاقي والفكري للكاتب، وتفضح دوافعه، وتقدم للقارئ صورة دقيقة عمّا يحمله من رؤى أو انحيازات أو نزعات. لذلك يُلزم الإمام علي الكاتب بأن يتعامل مع نصه كما يتعامل مع سِفر سيعرض عليه لاحقاً: بدقة، بحذر، وبإحساس عميق بأن كل كلمة ليست مجرد حبر، بل التزام.
ويضفي الإمام بعبارته بعداً آخر يتجاوز النص الفردي إلى التأثير الاجتماعي. فالكلمة –خصوصاً في المجال العام– لا تقف عند حدود الورق أو المنصات، بل تصنع اتجاهاً، وتبني وعياً، وتحرّض على فعل، وقد تثير نزاعاً، أو تهدم قيمة، أو تضلّ فكرة. هنا تصبح الكتابة مسؤولية أخطر من السلاح، لأنها تدخل النفوس بلا استئذان، وتؤسس لأفكار قد تتحول إلى مواقف ثم سلوك. ولهذا لا يُعفى الكاتب من تبعات ما يثيره قلمه، سواء كان المحتوى هادفاً ينهض بالوعي، أو هابطاً يشوّه الأذواق ويمزق الحقيقة.
وفي ضوء هذا كله، تُفهم دعوة الإمام علي على أنها تحذير من التلاعب بالكلمة أو توظيفها لمآرب غير نبيلة. فالمحتوى الذي يُكتب للتضليل أو لإثارة الغرائز أو لتهديم منظومة القيم لن يمرّ بلا حساب؛ إذ سيعود على كاتبه قبل غيره بما زرع من شوك. أما الكتابة الهادفة، النزيهة، الموضوعية، فهي التي تصنع سمعة الكاتب وتبني جسراً من الثقة مع القارئ، وتجعله شاهداً على حقبة من الحقيقة لا على حقبة من الزيف.
في النهاية، تضع كلمة الإمام علي الكاتب أمام مرآة أخلاقية صلبة: ليست الكتابة مجرد قدرة لغوية، بل امتحان دائم للضمير، وميزان لاستقامة الفكر، ومجال لاختبار صدق الإنسان مع ذاته ومع الآخرين. وما يُكتب اليوم، مهما بدا بسيطاً أو عابراً، سيقف غداً شاهداً لصاحبه أو عليه. ولذلك، فإن جعل المكتوب خيراً ليس مجرد نصيحة بل هو قاعدة أخلاقية، ووصية فكرية، ومنهج في صناعة الوعي والحفاظ على نقاء الأثر.



