عراقيةمقالات

كيف نفهم انتخابات العراق؟

كتب رياض الفرطوسي

في العراق، تبدو الانتخابات مثل مرآةٍ غائمة، كلما اقتربتَ منها لتتأمل ملامح الوطن، انعكست عليك صور التعب والانتظار الطويل. فهي ليست مجرّد طقسٍ سياسي يتكرّر كل بضع سنوات، بل مشهدٌ مركّب تتقاطع فيه الذاكرة مع الحاضر، والإرث مع الرغبة في التغيير. منذ التحوّل الكبير في عام 2003، والعراق يعيش تجربةً ديمقراطية في طور التشكّل، تحاول أن توازن بين التنوّع الهائل في المجتمع وبين البحث عن استقرارٍ سياسي يليق بتاريخه وثقله.

لم تكن الانتخابات، في أي مرحلة، عمليةً تقنية فحسب، بل اختباراً عميقاً لمدى قدرة المجتمع على إعادة تعريف ذاته بعد عقود من التحولات. فهي تعكس، كما في مرآةٍ دقيقة، التباينات بين المكوّنات، والمخاوف المتبادلة، وتطلعات جيلٍ شاب يبحث عن معنى المشاركة. وما يجعلها أكثر تعقيداً هو أن الحياة السياسية ما زالت تُدار بخيوطٍ متشابكة من التحالفات والمصالح والتوازنات، تجعل من الصعب فصل الإرادة الشعبية عن منطق التوافق الذي يحكم المشهد.

ورغم أن القوانين الانتخابية تغيّرت أكثر من مرة، في محاولة لتقريب التمثيل من الناخبين، إلا أن النتيجة غالباً ما كانت إنتاج مشهدٍ متجزئ، تتحرك فيه القوائم الصغيرة والمستقلون في فضاءٍ واسع، دون أن تمتلك أغلبها القدرة المؤسسية على التأثير أو تشكيل كتلٍ متماسكة. هذا التشتت جعل البرلمان أشبه بحديقةٍ مليئة بالأصوات المختلفة، لكنها لا تُثمر دائماً مشروعاً سياسياً واحداً .

في قلب كل ذلك، يقف المواطن العادي، الذي لا يهمّه كثيرًا شكل القانون أو حجم الدائرة الانتخابية، بقدر ما يعنيه السؤال البسيط: من سيغيّر حياته نحو الأفضل؟ من سيجعل الخدمات أكثر استقراراً، والفرص أكثر عدلاً؟ من سيحمي مستقبله من القلق؟ هذه الأسئلة اليومية هي التي تحدّد المزاج الانتخابي الحقيقي، وهي أيضاً التي تصوغ مستوى المشاركة في كل دورة. فحين يشعر الناس أن أصواتهم لا تجد صدى في الواقع، يتراجع الحماس، ويتحوّل الصندوق إلى رمزية أكثر منه أداة تغيير.

لكن لا يمكن اختزال المشهد في الإحباط وحده. فثمة وعي جديد يتنامى ببطء، يسائل الخطاب السياسي، ويبحث عن بدائل واقعية لا شعارات. جيلٌ من الشباب لم يعد يكتفي بالفرجة، بل بدأ يتعامل مع الانتخابات كمسؤولية جماعية، لا كحدث موسمي. هذا التحوّل الهادئ في الذهنية، وإن لم يُترجم بعد إلى نتائج حاسمة، إلا أنه يفتح الباب أمام شكلٍ جديد من الفعل السياسي القائم على المتابعة والمساءلة لا على الانفعال المؤقت.

الانتخابات، في جوهرها، ليست مناسبة عاطفية، بل تمرينٌ على التفكير العملي. التصويت فيها ليس مجاملة لأحد، بل عقد مصالح مشروع بين المواطن والدولة. ومن الحكمة أن يكون هذا العقد مبنياً على إدراكٍ واضح: أن تحسين خمسة سنتيمترات من الواقع أصدق من انتظار قفزةٍ حالمة لا تأتي. فالسياسة لا تتغيّر دفعة واحدة، بل بخطواتٍ صغيرة تراكِم أثرها عبر الزمن.

العراق اليوم لا ينقصه الوعي، بل الثقة؛ لا يعوزه الحماس، بل التنظيم. والانتخابات، مهما بدت محدودة الأثر، تبقى نافذة مفتوحة على إمكانية التجديد. حين يتحول التصويت من عادة إلى موقف، ومن عاطفة إلى رؤية، تبدأ السياسة في اكتساب معناها الحقيقي. فالتاريخ، كما يعرف العراقي جيداً ، لا يتحرك بالخطابات العالية، بل بخطواتٍ هادئة لكنها ثابتة، تزرع الأمل في أرضٍ أنهكها الانتظار، وتقول بصوتٍ متزن: يمكن للبلد أن يكون أفضل، ولو بقدر ضوءٍ صغير في آخر النفق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى