عراقيةمقالات

*رؤية المالكي لمواقف العراق الاستراتيجية*

ناجي الغزي/كاتب وباحث سياسي

لقاء السيد نوري المالكي مع برنامج “جيم سين” يمثل وثيقة سياسية واستراتيجية مهمة لفهم رؤيته حول واقع العراق ومستقبل العملية السياسية، إذ يقدم صورة شاملة لمواقفه من الملفات الحساسة التي تتقاطع فيها السياسة الداخلية، الأمن الوطني، العلاقات الإقليمية، والعملية الانتخابية.
كما أن تصريحات المالكي، والحذف الذي تلاها من اليوتوب، تتجاوز كونها حدثاً إعلامياً عابراً، فهي بمثابة مرآة تعكس طبيعة المشهد السياسي العراقي الحالي، المليء بالتشابك والحساسية، والمحدد بالتوازنات الدقيقة بين القوى الداخلية والخارجية. هذا اللقاء أظهر حجم التحديات التي تواجه حرية التعبير في العراق، ودور الإعلام في نقل الرسائل والمواقف السياسية، بينما يعكس قرار الحذف صراع النفوذ بين الجهات الرسمية والفعل السياسي.

*تقييم الوضع السياسي العراقي الحالي*

وصف المالكي للواقع السياسي الحالي يعكس قراءة عميقة لحالة الدولة بعد سنوات طويلة من التحديات والأزمات. العراق، وفق رؤيته، دولة قائمة وتمارس وظائفها الأساسية رغم الثغرات والصعوبات، وليس نموذجاً مثالياً أو “جنة” يمكن الاقتداء به، لكنه يمتلك مؤسسات قادرة على العمل وإدارة شؤونها الأساسية. كما يشير المالكي إلى أن وجود الحشد الشعبي والكيانات السياسية التقليدية يشكل تحدياً مستمراً على صعيد الموازنة بين القوى، لكنه في الوقت ذاته يمثل ضمانة للحفاظ على توازن النظام السياسي ومنع أي انزلاق محتمل نحو الفراغ أو الانفلات الأمني.

كما يلفت إلى أن غياب بعض القيادات التاريخية في العملية السياسية أدى إلى ركود وضعف، ما دفعه للمشاركة في الانتخابات ليس من أجل المناصب التنفيذية التقليدية، كرئاسة الوزراء أو قيادة القوات المسلحة، بل ليكون محركاً سياسياً ينشط العملية الديمقراطية ويعيد الحيوية للبرلمان الذي شهد ضعفاً في الأداء. بهذا، يضع المالكي نفسه في موقع المسؤولية الوطنية، كفاعل يسعى لإحياء مؤسسات الدولة وتعزيز قدرة البرلمان على أداء مهامه التشريعية والرقابية في بيئة سياسية معقدة.

*الامن الوطني والاستراتيجي*

قدم المالكي رؤية واضحة ومفصلة حول الأمن الوطني واستراتيجية العراق العسكرية، مؤكداً أن الحفاظ على الدولة واستقرارها يمثل أولوية استراتيجية قصوى. وقد سلط الضوء على تجارب العراق في مواجهة تنظيم داعش، مشيراً إلى الفروق في أداء الدعم الدولي: ففي حين تأخرت الولايات المتحدة في تجهيز الجيش بالمعدات والعتاد، كانت روسيا أكثر مرونة وسرعة في تقديم الدعم، حتى لو اقتصر على الأسلحة القديمة والمخزونات المتاحة، ما ساهم في تعزيز القدرة القتالية للقوات العراقية.
كما أبرز المالكي أن تجربة داعش أعادت تشكيل البنية العسكرية للدولة من خلال تقوية الحشد الشعبي وتحديث الجيش، مما منع تكرار انهيار المدن كما حصل في 2014، وأكد أن هذه التجربة أظهرت أهمية وجود قوة وطنية متماسكة قادرة على التصدي للتحديات الأمنية الكبرى. بالإضافة إلى ذلك، شدد على التزامه الصارم بمبادئ عدم التجسس أو التنصت غير القانوني، ولم يحدث ذلك في زمن حكومته، لكون هذا السلوك محرماً شرعاً وقانوناً، مؤكداً أن أي مراقبة يجب أن تتم وفق الأطر القانونية والأوامر القضائية فقط، ما يعكس ثقافة قيادة تحترم الشرعية وتطبيق القانون كمرتكز لاستقرار الدولة وحماية مؤسساتها.

*السياسة الداخلية وحماية المؤسسات*

في إطار السياسة الداخلية، عرض المالكي فلسفته في إدارة الدولة كخليط متوازن من الصرامة والمرونة، مؤكداً أن حماية المؤسسات الأساسية للدولة تأتي في صلب الأولويات. وأوضح موقفه تجاه الإعلام، مشدداً على حقه في ممارسة النقد، لكنه حذر من تحوله إلى “سلاح منفلت” يُستغل للإضرار بالدولة أو المسؤولين، ما يعكس إدراكه لدور الإعلام في بناء الرأي العام ضمن الأطر القانونية والأخلاقية.
وأشار المالكي إلى أن حماية البرلمان كمؤسسة تشريعية ورقابية تفوق في أهميتها كثيراً الحكومة التنفيذية، معتبراً أن قوة البرلمان واستقلاليته تشكّل الأساس لمراقبة الدولة وتوجيه السياسات العامة. وفي تعزيز الوحدة الوطنية، دعا جميع القوى والمكونات الاجتماعية إلى تجاوز الانقسامات والحقد الطائفي، مؤكداً أن المصالحة الوطنية والتعاون بين المكونات شرط أساسي لبناء عراق مستقر وقوي.
كما تناول غياب التيار الصدري، موضحاً أنه يضعف التوازن داخل البرلمان ويحدّ من قدرة مواجهة التحديات السياسية والرقابية، وأكد أن مشاركة التيار الصدري ضرورية لمكافحة الفساد وتعزيز الإصلاح، باعتبار التعاون جزءاً من استراتيجية حماية مصالح الدولة داخلياً وخارجياً.

*العلاقات الإقليمية والدور الاستراتيجي للعراق*

عبّر المالكي بشكل واضح عن رفض العراق القاطع لأي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل، مشيراً إلى مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد بعد عملية استلام الرهائن تحت ضغط الرئيس الأمريكي ترامب. واعتبر المؤتمر خطوة نحو التطبيع وخلق بيئة سياسية تمهّد لتقارب بين الدول المشاركة وإسرائيل، وهو ما يتناقض مع الموقف العراقي التقليدي الرافض للتطبيع ويستبعد العراق من القدرة على تسجيل موقف مستقل أو معارض ضمن هذه الفعاليات. وأوضح أن الحضور في مثل هذه المؤتمرات لا يحقق المصلحة الوطنية، إذ يتحول إلى مجرد مجاملة سياسية، بينما يظل رفض التطبيع موقفاً استراتيجياً يحمي مصالح العراق ومكانته العربية والإقليمية.
كما قدّم المالكي رؤية استراتيجية واضحة لدور العراق في المنطقة، مؤكداً رفضه لأي مؤتمر أو اتفاقية تُعتبر تطبيعاً مع إسرائيل باعتبار ذلك تعدياً على مصالح العراق والأمة العربية. وفي الوقت نفسه، شدّد على أهمية بناء علاقات إيجابية ومتوازنة مع دول الجوار مثل تركيا وإيران والسعودية، مع التأكيد على أن العراق لا يسعى للتدخل في شؤونها بل للتعاون المشترك في المجالات الأمنية والاقتصادية والسياسية.

*الرسائل الاستراتيجية للمالكي*

هناك رسائل مهمة أراد المالكي إيصالها، تتجلى فيها رؤيته العميقة لإدارة الدولة والمشهد السياسي العراقي:

أولاً: استمرارية مدرسة الحكم التي يمثلها، إذ يشير إلى وجود توافق جزئي في المواقف مع التيار الصدري، موضحاً أن هذا التوافق ليس صدفة بل يعكس “مدرسة واحدة” في التعامل مع الدولة وإدارة أزماتها، وهي رسالة ضمنية بأن التجارب السابقة والخبرة السياسية تشكّل قاعدة ثابتة في صنع القرار العراقي.
ثانياً: العملية الانتخابية ليست بالنسبة له هدفاً شخصياً للعودة إلى المناصب التنفيذية، بل أداة لإحياء النشاط السياسي وخلق حالة تنافس صحية بين القوى السياسية، ما يعزز فعالية البرلمان ويعيد الحيوية للعمل المؤسساتي، مؤكداً أن المشاركة السياسية يجب أن تُقود إلى تفعيل الدولة وليس خدمة مصالح فردية.
ثالثاً: اهتمام المالكي بالملفات الاجتماعية مثل السكن والتعليم والصحة والخدمات العامة يظهر أن رؤيته تتجاوز السلطة، لتصبح إدارة عملية وفعالة لمصالح المواطنين، حيث يربط بين الاستقرار السياسي وقدرة الدولة على تقديم حياة كريمة للمواطنين.
رابعاً: الإدارة الواقعية للأزمات، حيث استعرض كيف استطاع تحويل العراق بعد 2003 من “حطام الدولة” إلى دولة مستقرة نسبياً، مؤكداً قدرته على تحقيق توازن بين الصرامة والمرونة وبين الحفاظ على مؤسسات الدولة وحماية حقوق المواطنين مع الالتزام بالقانون والدستور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى