
لم يكن مشهد انسحاب الوفود الدبلوماسية من قاعة الأمم المتحدة عند بدء بنيامين نتنياهو كلمته مشهداً عادياً أو تفصيلاً بروتوكولياً يمكن تجاوزه. لقد كان مشهداً مكثفاً، يلخص حجم التغير العميق الذي يعتري العالم في نظرته إلى إسرائيل، ويكشف بوضوح أن خطابها لم يعد مقبولاً ولا مسموعاً.
للمرة الأولى منذ عقود طويلة، وجد رئيس وزراء إسرائيل نفسه يخاطب مقاعد فارغة أكثر مما يخاطب دبلوماسيين، في انعكاس صارخ لعزلة تتسع وتتجذر يوماً بعد يوم.
هذه العزلة لم تنشأ فجأة، بل تراكبت ملامحها مع الجرائم اليومية في غزة ومع مشاهد القصف والتجويع والدمار. فمن روسيا التي أعلنت أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية حق أصيل لا يُمنح ولا يُنتزع، إلى أوروبا التي بدأت تتحرك بخطوات عملية غير مسبوقة، يتضح أن التململ الدولي تحوّل إلى مواقف ملموسة. إسبانيا مثلاً أوقفت تصدير السلاح إلى إسرائيل وأعلنت استعدادها للرد على أي تهديد يطال أسطول الصمود المتجه إلى غزة، فيما لم يتردد رئيس وزرائها في التساؤل علناً: لماذا لا يُعامل نتنياهو كمعتدٍ كما عوملت روسيا؟ أما في إيطاليا، التي لطالما عُرفت بحكومات موالية لإسرائيل، فقد انفجرت المظاهرات والإضرابات، وخرجت أصوات من الإعلام الرسمي نفسه تتحدث عن الاحتلال والتهجير وتعلن أن الصمت على ما يحدث في غزة يعني فقدان إنسانيتنا.
لقد انقلب المشهد رأساً على عقب. العالم الذي طالما وفّر لإسرائيل غطاءً سياسياً يبدو اليوم أقل استعداداً لتبرير الجرائم وأكثر ميلاً إلى اتخاذ خطوات عملية. الولايات المتحدة وحدها ما زالت تمسك بفيتوها كدرع واقٍ لتل أبيب، لكنها تفعل ذلك على حساب صورتها وصدقيتها، حتى غدا السؤال مطروحاً بقوة: متى تدرك واشنطن أن تكلفة الحماية تجاوزت الفائدة، وأن الشراكة مع إسرائيل قد تحولت إلى عبء استراتيجي؟
ما جرى في الأمم المتحدة ليس حدثاً عابراً، بل إشارة إلى أن الشرعية التي استندت إليها إسرائيل طويلاً قد بدأت تتآكل، وأن العالم لم يعد يطيق سماع خطاب يتجاهل عشرات الآلاف من الضحايا ويبرر حصار الأطفال وتجويعهم حتى الموت. لقد انسحبت الوفود من قاعة الخطاب، لكن الأهم أن الشعوب انسحبت من دائرة الصمت، فملأت الشوارع والساحات والمسارح بالهتاف واللافتات والأعلام الفلسطينية.
إن نتنياهو الذي وقف متحدثاً في قاعة شبه فارغة، لم يكن يعاين مجرد انسحاب عابر، بل كان يواجه صورة مكثفة لمصيرٍ يقترب. فالعالم يتغير من حوله، والأبواب التي اعتادت إسرائيل أن تجدها مفتوحة باتت تُغلق واحداً تلو الآخر. وما حدث في الأمم المتحدة قد يكون مجرد بداية، بداية لعزلة تزداد قسوة، وسقوط لم يعد مجرد احتمال بل صار ملامحه تُرى بالعين المجردة.