مقالات

*ترامب يفتح النار على مناوئيه*

ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي

في الثالث من سبتمبر 2025، بدا المشهد وكأن العالم قد دخل رسمياً عتبة الحرب الباردة الجديدة، بعد أن شهدت العاصمة الصينية استعراضاً عسكرياً ضخماً في ساحة تيانمن، بحضور الرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، إضافة إلى نحو عشرين قائداً آسيوياً في إطار قمة “شانغهاي”. لكن اللحظة الأكثر لفتاً للانتباه لم تكن في بكين، بل على منصة تروث سوشيال، حيث انفجر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصريحات اعتبرها كثيرون إعلان مواجهة مفتوحة.

*الصين تستعرض القوة – رسائل مباشرة للولايات المتحدة*

لم يكن ما جرى في بكين مطلع أيلول/سبتمبر حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل مشهداً مكثفاً لمرحلة جديدة في الصراع الدولي. فبعد قمة منظمة شانغهاي للتعاون في تيانجين، التي عُدت الأكبر منذ تأسيسها، انتقلت الكاميرات إلى العاصمة الصينية لتوثّق عرضاً عسكرياً ضخماً في ذكرى الانتصار على اليابان. المزج بين الشرعية الأمنية -التنسيقية عبر القمة، والقدرة الصلبة عبر الاستعراض، حمل رسالة واضحة: بكين تقدّم نفسها كعرّابٍ لنظام متعدد الأقطاب يواجه الهيمنة الأمريكية.

وفي موازاة الاستعراض، جرى توقيع حزمة واسعة من الاتفاقات بين الصين وروسيا تجاوزت عشرين وثيقة، أبرزها الدفع بمشروع قوة سيبيريا-2 بطاقة 50 مليار م³ سنويًا عبر منغوليا، إضافة إلى توسيع خط الغاز القائم إلى 44 مليار م³. ورغم أن تفاصيل الأسعار والتمويل لم تُحسم نهائياً، فإن الاتجاه الاستراتيجي واضح: إعادة توجيه الغاز الروسي من أوروبا إلى الصين لعقود قادمة، بما يؤسس لبنية مؤسساتية عابرة للصفقات الظرفية.

الحضور الهندي أضاف بعداً آخر. زيارة ناريندرا مودي – الأولى إلى الصين منذ سبع سنوات – جاءت في ظل فرض ترامب رسوماً جمركية تصل إلى 50% على الهند، ما دفع نيودلهي إلى توسيع هامش “اللا-انحياز المحسوب” بدل الارتهان الكامل لواشنطن. هكذا تحوّلت الهند إلى بيضة القبان في موازين الشرق والغرب.
أما الاستعراض العسكري نفسه فحمل ثلاث رسائل صريحة إلى الولايات المتحدة:
الاولى: رسالة سياسية، من قبل الرئيس الصيني أعلن فيها أن “الصين القادمة بقوة” لن تقبل التنمر، في إشارة مباشرة إلى سياسات واشنطن التجارية والعسكرية.
الثانية: رسالة جيوسياسية، وهي جلوس شي إلى جانب بوتين وكيم كان رمزاً لتحالف جديد في الشرق، تحالف يرفع شعار مواجهة الهيمنة الأمريكية.

ثالثاً: رسالة عسكرية، الأسلحة المعروضة، خصوصاً الطائرات المسيّرة (الدرونز) والروبوتات والصواريخ ، أكدت أن بكين لم تعد مجرد “مصنع عالمي”، بل أيضاً مصدّر محتمل للأسلحة المتطورة، ينافس واشنطن في أسواق الجنوب العالمي.
بهذا، تحوّلت بكين إلى مسرح لبيان استراتيجي مفتوح: الصين لم تعد تدافع عن موقعها، بل تستعرض قدرتها على صياغة قواعد جديدة للّعبة الدولية.

*ترامب ينفجر… بخطاب غير دبلوماسي*

ترامب لم يحتمل المشهد. فبدلاً من انتظار مشاورات البنتاغون أو الخارجية، لجأ إلى أسلوبه المألوف: الرد الفوري عبر المنصة الإلكترونية. ذكر الصينيين بأن “أمريكا هي من أنقذتكم من الغزو الياباني” في الحرب العالمية الثانية، وهو استدعاء للتاريخ بهدف تذكير بكين بالدَين الأخلاقي تجاه واشنطن. كما اتهم الثلاثي (الصين ، وروسيا ، وكوريا الشمالية) بأنهم يتآمرون على الولايات المتحدة، وهو توصيف خطير ينقل الخلاف من مربع التنافس الاقتصادي إلى ساحة الصراع الأمني المباشر. كما أرسل “تحياته” لروسيا وكوريا الشمالية بلهجة تهكمية، لكنه عملياً أعلن أن واشنطن ترى في هذا الاصطفاف الشرقي محوراً معادياً.

*معسكران قيد التشكيل – الشرق ضد الغرب*

ما ظهر في بكين كان أكثر من مجرد احتفال، بل بداية اصطفاف عالمي جديد:
المعسكر الشرقي: بقيادة الصين، وبجانبها روسيا وكوريا الشمالية، مع احتمالية انضمام إيران وباكستان لاحقاً.
المعسكر الغربي: التي تقوده الولايات المتحدة وحدها في مواجهة مفتوحة، وسط فتور واضح مع أوروبا التي تعاني أزمات اقتصادية وسياسية تجعلها أقل حماسة للالتحاق بمغامرات واشنطن. بهذا السيناريو المحتمل، يتشكل نظام عالمي جديد ثنائي الأقطاب، لكن بملامح مختلفة عن الحرب الباردة الأولى، إذ أصبحت الاقتصاديات المترابطة والتكنولوجيا (المسيرات، الذكاء الاصطناعي، الطاقة) أدوات الحرب الجديدة.

*شرقٌ أقوى… وتقلّص الهيمنة الأميركية*

الهيمنة الأميركية تتعرض للتآكل، لكن المشهد لا ينقلب بين ليلة وضحاها. ما يتبلور أمامنا هو عقد كامل من التعددية التنافسية، حيث تتوزع مراكز الثقل دون أن تختفي واشنطن من المسرح. روسيا تعيد توجيه مواردها شرقاً لتكريس فك الارتباط مع أوروبا. والصين تنقل فائضها الاقتصادي إلى نفوذ معياري وتقني يفرض إيقاعاً جديداً. والهند تلعب دور الضابط المرجّح، مستفيدة من الطرفين، ومُجهضة لأي انشطار كامل بين الشرق والغرب.
بهذا المعنى، تمثل قمة شانغهاي 2025 لحظة تأسيس لمسار “شرقٍ أقوى”، لكنها ليست إعلان وفاة مبكر للهيمنة الغربية. الاختبار الحقيقي لن يكون في الصور والخطب، بل في الأنابيب والأسعار والمعايير التي ستحدد موازين القوة لعقود قادمة.

*هل نحن أمام حرب بالوكالة؟*

السؤال الجوهري ليس إن كانت هناك حرب باردة، بل: هل يمكن أن تتطور إلى صدام عسكري مباشر أو بالوكالة؟
اذا تصبح حرب بالوكالة: من المرجح أن تبدأ المواجهة في مناطق ملتهبة مثل بحر الصين الجنوبي، تايوان، أو حتى الشرق الأوسط، حيث يتقاطع النفوذ الصيني ،الروسي، الإيراني مع المصالح الأمريكية.
أما إذا حرب اقتصادية: فستكون الرسوم الجمركية، والعقوبات، وسباق السيطرة على التكنولوجيا مثل (الرقائق الإلكترونية، والذكاء الاصطناعي) هي ساحات الصراع الرئيسية.
وإن كانت حرب نفسية/إعلامية: فالخطاب العاطفي الحاد لترامب هو المؤشر الاوضح فيها، حيث أن واشنطن ستصعّد عبر الإعلام والسياسة لتأليب الرأي العام العالمي ضد المحور الشرقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى