مقالات

الدولة والأمن السيبراني

كتب رياض الفرطوسي

لم تعد الدولة الحديثة تُقاس فقط بما تملكه من جيوش جرارة أو بما تختزنه من ترسانة أسلحة تقليدية، فالقوة في زمننا الراهن أعادت تعريف نفسها بطرق غير مألوفة. لم يعد التفوق مرتبطًا بعدد الدبابات والطائرات، بل أصبح متوقفاً على القدرة على حماية فضاء غير مرئي، واسع، وعابر للحدود: الفضاء السيبراني. إن هذا المجال الجديد لم يعد مجرد مساحة للتواصل وتبادل المعرفة، بل تحول إلى ساحة صراع وصياغة نفوذ، وإلى ميدان حروب غير متماثلة تُشن في الخفاء وتترك آثاراً قد تعادل أو تفوق نتائج الحروب الكلاسيكية.

الأمن السيبراني، في جوهره، هو قدرة الدولة على حماية بنيتها الرقمية ومعلوماتها الحيوية، وضمان استمرارية أنظمتها الإلكترونية التي تقوم عليها مؤسساتها السياسية والاقتصادية والأمنية. إنه درع غير منظور، لكنه يحدد اليوم مدى حصانة الدول أمام خصوم يتربصون بها من وراء الشاشات. فمن دون حماية سيبرانية فعّالة، يمكن أن تُشل حركة المطارات، أو تُخترق البنوك، أو تُسرب بيانات المواطنين الحساسة، أو حتى تُبث حملات تضليل تهدد السلم الاجتماعي وتزرع الفوضى في العقول.

غير أن التحدي لا يقف عند حدود التقنية وحدها، بل يتجاوزها إلى ما هو أعمق: وعي المجتمع وقدرة الإعلام على أن يكون خط الدفاع الموازي للأنظمة التقنية. فالمجتمع الواعي يشكل جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي، إذ لا جدوى من امتلاك أحدث برامج الحماية إذا كان الأفراد يجهلون أبسط قواعد الأمان الرقمي. هنا يتدخل الإعلام، ليكون البوصلة التي توجه الرأي العام، والمُعلّم الذي يزرع الثقافة السيبرانية، والحارس الذي يمنع تسلل الأكاذيب والشائعات.

لقد أدركت القوى الكبرى في العالم أن السيادة اليوم لا تُقاس فقط بالسيطرة على الأرض والموارد، بل بمدى امتلاكها القدرة على فرض وجودها في الفضاء الإلكتروني. هذا الفضاء الذي صار ميداناً للمخابرات، وللشركات العملاقة، وللجماعات المسلحة، وللأفراد الذين قد يملكون من المهارات ما يجعلهم قادرين على تهديد دول بكاملها. ولهذا باتت الدولة مطالبة بأن تنظر إلى أمنها السيبراني باعتباره عنصراً جوهرياً من عناصر أمنها القومي، لا يقل أهمية عن الجيش والاقتصاد والدبلوماسية.

وإذا كان العراق مثالًا بارزاً في هذا السياق، فإن تجربته تُظهر حجم التحدي بوضوح. فقد دخل إلى العصر الرقمي بانفتاح واسع.

وإذا كان الأمن السيبراني يعني تقنياً حماية الشبكات والأنظمة من الهجمات، فإن بُعده السياسي والاجتماعي أشد تعقيداً. فالدولة التي تفقد السيطرة على فضائها الرقمي قد تفقد تماسكها الداخلي، لأن الهجمات لم تعد تستهدف الأجهزة فقط، بل العقول أيضاً. يكفي أن يُطلق خصم حملة تضليل منظمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليثير الشكوك بين الناس، ويزرع الانقسام داخل المجتمع، ويضعف ثقتهم بالمؤسسات. عندها يصبح الإعلام، بكل أشكاله التقليدية والرقمية، خط الدفاع الأول عن استقرار الدولة.

إن دور الإعلام هنا لا يقتصر على بث الأخبار أو التغطية السطحية للهجمات الإلكترونية، بل يتعداه إلى صناعة وعي جمعي يُحصّن المجتمع. فالمواطن الذي يتلقى عبر وسائل الإعلام رسائل واضحة عن مخاطر القرصنة والجرائم الرقمية، ويتعلم كيف يحمي بياناته، يتحول من حلقة ضعيفة إلى جزء من منظومة دفاعية واسعة. إن الإعلام قادر على أن يحول الأمن السيبراني من شأن نخبوي خاص بالخبراء إلى قضية عامة يتشارك فيها الجميع.

لكن الدور الإعلامي لا ينحصر في التوعية فحسب، بل يمتد إلى مواجهة الحرب النفسية التي تُدار عبر الفضاء الإلكتروني. فالجهات التي تشن الهجمات لا تكتفي بسرقة المعلومات أو تعطيل الخدمات، بل تعمل أيضًا على التأثير في العقول. إنها تستخدم منصات التواصل لتوجيه الرأي العام، وتبث رسائل مصممة لإضعاف الثقة بالدولة وإشاعة الفوضى. في مثل هذه الحالات، يصبح الإعلام الوطني الواعي عنصر توازن، يرد على التضليل بالحقائق، وعلى الشائعة بالشفافية، ويعيد للجمهور الثقة في مؤسساته.

ومع ذلك، لا يكفي الخطاب الإعلامي وحده. فلكي ينجح الإعلام في دوره، يحتاج إلى بيئة تشريعية واضحة، وإلى استراتيجية متكاملة تتبناها الدولة. فمن غير الممكن أن يواجه الإعلاميون حرباً سيبرانية بلا مرجعية موحدة أو قوانين تضمن لهم الدعم والحماية. كما أن على الدولة أن تستثمر في بناء قدرات إعلامها الرقمي، بحيث يمتلك الأدوات الحديثة، ويواكب سرعة الفضاء الإلكتروني، ويتقن لغة الشباب الذين يقضون معظم وقتهم في هذا العالم الافتراضي.

المستقبل في هذا الميدان مفتوح على احتمالات معقدة. فالتطور التكنولوجي لا يتوقف، وكل قفزة تقنية جديدة تحمل في طياتها فرصاً هائلة وتحديات كبرى. الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، وإنترنت الأشياء، كلها ستغير قواعد اللعبة في العقد المقبل. فإذا لم تستعد الدولة لهذه التحولات، ستجد نفسها عرضة لتهديدات تتجاوز قدرتها على السيطرة. ومن هنا، تصبح الاستراتيجية الناجحة هي تلك التي تجمع بين التحديث المستمر للأدوات التقنية، وبناء كوادر بشرية قادرة على إدارتها، وتعزيز الوعي المجتمعي عبر الإعلام.

الدولة، إذن، مطالبة بأن تنظر إلى الأمن السيبراني كجزء من مشروعها الوطني، وليس مجرد قضية أمنية تقنية. والإعلام جزء لا يتجزأ من هذا المشروع. فهو المرآة التي تعكس وعي المجتمع، والصوت الذي يوجه الناس، والجسر الذي يربط بين الخبراء والجمهور. وإذا كان الأمن القومي في الماضي يتوقف على الحدود والجيوش، فإن أمن اليوم يعتمد على تماسك الداخل، وعلى قدرة الدولة على حماية فضائها الرقمي من التهديدات، وعلى إعلام مسؤول يبني الثقة ويزرع الوعي.

في المحصلة، يمكن القول إن معركة الأمن السيبراني هي معركة الدولة والمجتمع معاً. لا يمكن لجهاز أمني وحده أن يربحها، ولا لبرنامج حاسوب مهما بلغت قوته أن يحسمها. إنها معركة يتداخل فيها السلاح الرقمي مع الكلمة، والخوارزمية مع الوعي، والجدار الناري مع الرسالة الإعلامية. المستقبل سيكون للدول التي تدرك هذه الحقيقة وتبني استراتيجياتها على هذا الأساس، وتوظف إعلامها لا كأداة لنقل الأخبار فقط، بل كجزء من منظومة الدفاع عن وجودها وسيادتها.

هكذا، يصبح الأمن السيبراني ليس مجرد قضية تقنية، بل قضية وطنية شاملة. إنه الامتحان الجديد لصلابة الدولة في القرن الحادي والعشرين، والمعيار الحقيقي لمدى قدرتها على البقاء في عالم يُدار بالشبكات والشفرات بقدر ما يُدار بالجيوش والدبلوماسية. ومن هنا فإن الإعلام، بما يملكه من تأثير، وبما يؤديه من دور في تشكيل الوعي الجمعي، يقف جنباً إلى جنب مع مؤسسات الدولة الأخرى، ليؤكد أن السيادة اليوم لا تُصان بالسلاح وحده، بل أيضاً بالكلمة والوعي والمعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى