سياسيةعراقيةمقالات

قراءة في مقالة القاضي فائق زيدان

ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي

في لحظة مفصلية من الجدل القانوني والدستوري الذي يحيط باتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله بين العراق والكويت، جاءت مقالة القاضي فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق، المنشورة في جريدة الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ 23 تموز 2025، لتشكّل تدخلاً نوعياً وغير مألوف في الجدل العام من قبل أعلى سلطة قضائية في البلاد. المقالة التي حملت عنوان “أمواج خور عبد الله بين قرارين متناقضين” لم تكتفِ بعرض الوقائع، بل مثّلت بياناً قانونياً – استراتيجياً صريحاً، ينتقد بوضوح القرار الأخير الصادر عن المحكمة الاتحادية بشأن الاتفاقية، ويُحذّر من تداعياته على منظومة السيادة القانونية والالتزامات الدولية للعراق.

تمثّل هذه المقالة نقلة لافتة في الخطاب القضائي العراقي، إذ تضع أمام الرأي العام والمؤسسات الرسمية تساؤلات جوهرية حول شرعية “العدول القضائي” خارج الأطر الدستورية، وحول توازن السلطات، واستقرار المراكز القانونية التي نشأت عن الاتفاقيات الدولية المبرمة. وتأتي هذه القراءة الاستراتيجية لتحليل مضامين المقالة، وفهم خلفياتها، وتفكيك أبعادها الدستورية والقانونية والدبلوماسية، واستشراف ما تعنيه بالنسبة لمستقبل علاقة العراق بجيرانه، ومكانته في النظام القانوني الدولي.

أولاً: السياق السياسي والقانوني

مقالة القاضي فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق، هي في جوهرها قراءة نقدية دستورية وقانونية متعمقة، تتناول التحوّل في موقف المحكمة الاتحادية من اتفاقية خور عبد الله، بين قرارها الأول في 2014 والقرار المعدِّل في 2023 لكن ما يجعل هذا النص أكثر من مجرد رأي قانوني، هو أن القاضي الأعلى في العراق يوجه، ولأول مرة بهذا الوضوح، نقداً مباشراً للمحكمة الاتحادية العليا، وهو أمر غير معتاد في منظومة القضاء العراقي التي تتسم تاريخياً بالتحفظ الشديد في النقد المتبادل بين الهيئات القضائية العليا.

في ظل هذه الحساسية، لا يمكن فهم مقالة زيدان إلا باعتبارها رداً استراتيجياً يحمل أبعاداً قانونية، سياسية، ودبلوماسية، خاصة وأن قرار المحكمة الاتحادية الأخير يهدد فعلياً بنقض أكثر من 400 اتفاقية دولية سابقة، ويدخل العراق في أزمة مسؤولية دولية.

ثانياً: البعد الدستوري – بين النص والممارسة

يركز القاضي فائق زيدان على مفارقة قانونية جوهرية مفادها:
• أن المحكمة الاتحادية استندت في عدولها عام 2023 إلى “المصلحة العامة والدستورية” المزعومة، دون وجود نص دستوري صريح يُجيز العدول عن حكم قضائي باتّ ونهائي.
• أن المادة (45) من النظام الداخلي للمحكمة لا تملك قوة القانون، لأنها تقع في أدنى سلم التراتبية القانونية، وبالتالي لا يمكنها توسيع صلاحيات المحكمة خلافاً للدستور.
وهنا تكمن الإشكالية الكبرى التي أشار إليها زيدان: أن المحكمة نقضت حكماً قضائياً نهائياً صادراً عنها بنفسها، وليس مجرد مبدأ قضائي، وهذا ينسف مبدأ حجّيّة الأحكام، ويفتح الباب لتقويض النظام القانوني بأكمله.

ثالثاً: الآثار المترتبة

يشير زيدان، بلهجة واضحة وصريحة، إلى أن قرار 2023 يفتح الباب لنقض شرعية مئات الاتفاقيات الدولية التي صُدّق عليها بأغلبية بسيطة. وهذا يعني:
• انهيار الاستقرار التشريعي والحقوقي في العراق.
• فتح باب الطعن الدستوري على مصراعيه ضد كل معاهدات العراق خلال العقدين الماضيين، وربما ملاحقات دولية.
• تضرر صورة العراق دبلوماسياً، خصوصاً أمام الكويت، والأمم المتحدة، والمنظمة البحرية الدولية، ما قد يؤدي إلى المطالبة بتعويضات، أو استخدام القضية كورقة ضغط سياسية.
بكلمة أخرى، يُلمّح القاضي فائق زيدان إلى أن المحكمة، تحت مسمى “العدول”، خلقت أزمة سيادة قانونية ومؤسسية داخلية، وأزمة مسؤولية دولية خارجية.

رابعاً: مغزى التوقيت والصمت الرسمي

من اللافت أن مقالة القاضي فائق زيدان التي كتبها اليوم في 23 تموز 2025، تأتي بعد صمت رسمي طويل نسبياً على قرار المحكمة الاتحادية في أيلول 2023، وبعد أن أثار القرار احتجاجات وطنية حادة، خصوصاً في البصرة والمحافظات الجنوبية، على لسان نواب ومسؤولين سابقين، وقد حاولت هذه الأطراف استثمار القرار سياسياً ضمن خطاب “استرجاع الحقوق”، وربما توريط العراق في صراع مع الكويت.
لكن زيدان يطرح بوضوح أن:
القرار القضائي لا ينبغي أن يُستخدَم لتغذية الشعبوية السياسية أو الخطابات القومية المنفعلة، بل يجب أن يُبنى على أساس دستوري راسخ.
لذلك، تُقرأ مقالته باعتبارها محاولة لتأطير الملف قانونياً بعيداً عن التجاذبات السياسية، وتحذيراً من التبعات الخطيرة التي قد تواجه العراق إذا استمر في هذا النهج العدمي تجاه الالتزامات الدولية.

خامساً: الانقسام داخل المؤسسة القضائية

ربما الأثر الأهم للمقالة هو أنها تكشف لأول مرة صدعاً داخل المؤسسة القضائية العراقية العليا: فائق زيدان، باعتباره المرجع القضائي الأعلى، ينتقد المحكمة الاتحادية، رغم أنها من المفترض أن تمثّل قمة الهرم الدستوري. كما بدأ يشكّك ضمناً في شرعية قرار المحكمة الاتحادية وعدّته “لغواً قانونياً”، وهي عبارة شديدة اللهجة، تتجاوز المألوف في أدبيات القضاء العراقي.
بالتالي، فإن المقالة تُعد بياناً دستورياً غير رسمي من مجلس القضاء الأعلى، يُعيد التأكيد على: مركزية النص الدستوري. وعدم شرعية التوسّع القضائي تحت مظلة “المصلحة العامة”. وضرورة احترام مبدأ استقرار الأحكام.

سادساً: ماهي خيارات الدولة العراقية بعد هذه المقالة

بعد طرح مقالة القاضي فائق زيدان، وما حملته من مضامين دقيقة وانتقادات صريحة للقرار القضائي الصادر بشأن اتفاقية خور عبد الله، لم تعد الدولة العراقية في موقع المتفرّج، بل أصبحت أمام خيارات صعبة، تفرض عليها إعادة ترتيب أوراقها القانونية والدستورية بما ينسجم مع التزاماتها الدولية ويحمي استقرارها السيادي.

1- إعادة النظر في قرار المحكمة الاتحادية: قد تؤسس المقالة لطلب إعادة المحاكمة أو مراجعة القرار من قبل الهيئة العامة، رغم صعوبة ذلك في ضوء غياب نص دستوري يجيز نقض حكم المحكمة الاتحادية.
2- اللجوء إلى البرلمان لتعديل قانون المحكمة الاتحادية: يُحتمل طرح تعديل لتقييد صلاحيات العدول أو إلغاء المادة (45) من النظام الداخلي، ما يعيد ضبط الحدود بين السلطات.
3- يمكن للعراق مخاطبة الأمم المتحدة والمنظمة البحرية الدولية، لتأكيد التزامها بالاتفاقية وعدم تأثر موقفها الدولي بالقرار القضائي الأخير. وحسب أشارت إليه القاضي زيدان، أن الاتفاقية أصبحت ملزِمة بموجب مبدأ “pacta sunt servanda”، وهو من المبادئ المركزية في القانون الدولي العام.
4- تعليق مفاعيل القرار على المستوى التنفيذي: بحيث تُواصل الدولة العراقية العمل بالاتفاقيات الموقعة سابقاً، وتجميد آثار قرار المحكمة لحين وضوح الموقف القانوني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى