مقالات

كسر الجدار النفسي للعدو

كتب رياض الفرطوسي

في حروب هذا العصر، لم تعد الجيوش وحدها من يخوض المعركة، ولم تعد البنادق وحدها هي ما يُهدد العروش ويغيّر الخرائط. هناك أسلحة أخرى، أكثر خفاءً، تُطلق دون صوت، ولا يُدرك مفعولها إلا بعد أن يكون كل شيء قد تغيّر. من بين هذه الأسلحة: علم النفس. ومن بين أخطر معاركه، تلك التي خيضت لا على الحدود، بل في أعماق العقل. هكذا تسلّلت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) إلى عقل أنور السادات، ليس لتغتاله، بل لتُعيد تشكيله، وتجعله ـ دون أن يدري ـ أول من يضرب جدار العداء التاريخي مع إسرائيل من الداخل، ويكسره أمام مرأى العالم.

حين توفي جمال عبد الناصر عام 1970، ساد الظن أن السادات لن يكون إلا صورة باهتة لسلفه، وأن الرجل، بهدوئه الظاهري، وتاريخه المتواضع، لن يصمد طويلاً في زعامة كانت مشتعلة بكل شيء: الكاريزما، الصراع، الجماهير. لكن في ممرات “لانغلي”، مقر الـCIA في فيرجينيا، كانت العيون مفتوحة على مصر، لا تنام، ترصد وتقرأ وتخطط. مصر لم تكن بلداً عادياً. كانت “ملفاً حياً” يُدرَس يومياً، وتحمل في وكالة الاستخبارات رقماً خاصاً، ديسك مستقل، كما يُقال في لغتهم.

درسوا الرجل. راقبوه. وجدوا فيه قابليات خامة، وأطياف شخصية لم تُصبغ بعد. لم يكن عبد الناصر الذي بنى حوله أسطورة شعبية من الصعب اختراقها. بل كان رجلاً يمكن ـ لو أُحسن الاقتراب منه ـ أن يُفتح باب كبير من خلاله. لا بالضغط، ولا بالابتزاز، بل بالإقناع… بالإيحاء… بالهندسة النفسية الدقيقة.

في تلك اللحظة، استُدعي اسم بارز في علم النفس الأميركي: كارل روجرز (1902 – 1987)، مؤسس نظرية “التمركز حول العميل”، وهي نظرية تقوم على مبدأ بسيط وخطير: إذا أردت أن تغيّر شخصاً، فلا تهاجمه، بل افصله عن محيطه الاجتماعي، ثم أقنعه بأنه عبقري، متميز، يرى ما لا يراه غيره. ازرع فيه الشعور بأنه فوق القطيع، وأن مصيره لا يجب أن يُقاس برأي الجماهير، بل بما تُمليه عليه قناعاته الداخلية. وحين تفعل ذلك بهدوء، دون تعليمات مباشرة، فإنك تبدأ لا في التأثير عليه، بل في إعادة تكوينه.

أُرسل روجرز إلى القاهرة تحت غطاء أستاذ جامعي زائر في الجامعة الأميركية، وجُهزت له لقاءات متعددة مع السادات، بذرائع شتى: حوارات ثقافية، تكريم أدبي، ندوات، جوائز. كان يظهر كأكاديمي، لكنه في الحقيقة كان يمارس “البرمجة” الأخطر. جلس مع السادات طويلاً، بغير لغة الأوامر، بل بلغة الإعجاب والاحترام. قال له: أنت رجل مبدع، لا يُشبه الآخرين. الشارع لا يفهمك، لأنك تسبق زمانك. الزعيم الحقيقي لا ينتظر التصفيق، بل يفرض رؤيته. عش حسب قناعتك، لا حسب قناعة الشارع.

لم تكن كلمات عابرة. كانت عملية تشذيب ذهني، وعزل تدريجي عن المجال الشعبي، عن الضغوط الجمعية، عن “الناصرية” كتيار وجماعة وحالة. شيئاً فشيئاً، بدأ السادات يغيّر من طريقة تفكيره. شعر بأنه لم يعد بحاجة إلى تكرار سيرة عبد الناصر، بل إلى أن يصنع لنفسه طريقاً آخر، أكثر فرادة، وأقل صخباً. وكلما تعمّق في قناعاته الجديدة، ازداد ابتعاداً عن الرأي العام العربي، وازداد اقتناعاً بأنه القائد الذي يملك وحده مفاتيح الحل.

وعندما حان الموعد، اتخذ القرار الكبير: زيارة إسرائيل.

كان القرار صاعقاً. لم يعلم به حتى وزير خارجيته آنذاك، إبراهيم كامل، الذي أعلن استقالته فور سماعه بالخطاب الشهير في مجلس الشعب. حتى الدائرة الضيقة لم تكن مستعدة لمثل هذه القفزة التاريخية. وحده السادات، بتلك القناعة المتشكلة حديثاً، كان يرى أنه يفعل الصواب، ويشق الطريق كما يشق السهم الهواء.

بعد اغتيال السادات عام 1981، خرج كارل روجرز إلى العلن في لقاء نادر مع الصحافة الأميركية، وقال: نعم، لقد نجحنا في تطبيق نظريتنا عليه، وقد آمن بما قلناه له. لكنه، للأسف، دفع حياته ثمناً لذلك. لم يقل ذلك بلهجة ندم، بل بلهجة عالم نفس يوثق تجربة سريرية تم تنفيذها بنجاح.

وهكذا، دخل علم النفس ساحات السياسة، لا كمساعد ثانوي، بل كسلاح استراتيجي. لم يعد الصراع يُخاض فقط على مستوى المصالح، بل على مستوى القناعات. لم تعد الحرب مجرد اشتباك عسكري، بل هندسة نفسية تبدأ من جلسة شاي، وتنتهي بقرار يغيّر تاريخ المنطقة.

دفع السادات ثمن عزلته عن وجدان شعبه عندما كسر الجدار النفسي مع إسرائيل، لكنه لم يكن وحده في ذلك. خلفه كان هناك جيش من العقول التي آمنت بأن المعركة الحقيقية تُخاض أولاً داخل النفس، عبر خطط دقيقة وعزلة مدروسة. هذا الواقع يكشف كيف يمكن لقرار فردي معزول أن يتحول إلى لحظة مصيرية، لا تعكس إرادة الجماهير ولا نبض الشارع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى