من على صفحته على (تويتر) يستذكر الصحفي الاستقصائي وصانع الافلام الوثائقية (جون بيلجر) مرور 50 سنة على انتخاب آخر حكومة مستقلة في استراليا برئاسة ( Gough Whitlam) قامت بتحرير المستعمرة ولو لفترة وجيزة. حيث تم سحق (Whitlam) من قبل الولايات المتحدة بالتعاون مع المملكة المتحدة وبالتواطئ ومساعدة عملاء محليين. وبهذه المناسبة يُذكر (جون بيلجر) بالمقالة التي كتبها في صحيفة ( الاندبندنت الاسترالية) بتاريخ 5 حزيران/يونيو 2020 تحت العنوان أعلاه. وفيما يلي ترجمة للمقال.
كتب (جون بيلجر) في بداية المقال عن وجود عناصر منسية تحيط بإقالة ( Gough Whitlam) ، بما في ذلك تورط وكالة المخابرات المركزية.
وقدتم الكشف عن هذا الانقلاب بعد ان اصدرت المحكمة العليا في استراليا قرارا يقضي بأن المراسلات بين الملكة والحاكم العام لأستراليا، وهو نائب الملكة في المستعمرة البريطانية السابقة، لم تعد “ملكية شخصية” كما لم تعد من ممتلكات قصر باكنغهام.
حيث يمكن الآن الكشف عن الرسائل السرية التي كُتبت في عام 1975 من قبل الملكة وممثلها في (Canberra)، (Sir John Kerr)، ويمكن الآن نشرها في الأرشيف الوطني. في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1975 ، أقال (John Kerr) وبشكل بعيد عن الاخلاق الحكومة الإصلاحية لرئيس الوزراء ( Gough Whitlam) وسلم أستراليا الى أيدي الولايات المتحدة.
واليوم، تعتبر أستراليا دولة تابعة بشكل مطلق – فقد تم دمج سياساتها ووكالاتها الاستخبارية والجيش وكثير من وسائل الإعلام ضمن “مجال هيمنة” واشنطن وخططها الحربية. وعلى هامش استفزازات الرئيس دونالد ترامب الحالية للصين، توصف القواعد الأمريكية في أستراليا بأنها “رأس الحربة”.
هناك فقدان ذاكرة تاريخي على نطاق المجتمع الأسترالي المتحضر حول الأحداث الكارثية لعام 1975. لقد أطاح انقلاب أنجلو أمريكي بحليف مُنتخب ديمقراطياً في فضيحة مُذلة تواطأت فيها أقسام من النخبة الأسترالية. والملفت ان هذا الشئ والى حد كبير لا يتم التعرض له ولا يمكن ذكره. إن عزيمة المؤرخة الأسترالية البروفيسورة (Jenny Hocking) وما حققتها من انجاز في اصدار القرار من المحكمة العليا هما أمران استثنائيان.
لقد تم طُرد ( Gough Whitlam) من الحكومة عام 1975 وفي يوم التذكر (تذكر افراد القوات المسلحة الذين قضوا في الحرب). وعندما توفي قبل ستة أعوام، تم الاعتراف بإنجازاته، وإن كان ذلك على مضض، وقد لوحظت أخطائه في حزن كاذب. كان من المأمول أن تدفن معه حقيقة الانقلاب ضده.
خلال سنوات حكم ( Gough Whitlam) بين 1972 و1975، حصلت أستراليا ولفترة وجيزة على الاستقلال وأصبحت تقدمية بشكل لا يُحتمل. فمن الناحية السياسية، كانت فترة مذهلة. فقد كتب معلق أمريكي أنه لم يقم أي بلد «انقلب موقفه في الشؤون الدولية بشكل كامل دون المرور بثورة محلية».
تم توجيه الاوامر الى ما تبقى من القوات الأسترالية بالعودة الى الوطن من الخدمة كمرتزقة مع القوات الأمريكي في فيتنام. كما أدان وزراء (Whitlam) علانية الأعمال البربرية الأمريكية ووصفوها بأنها “قتل جماعي” وجرائم “جنونية”. وقال نائب رئيس الوزراء (Jim Cairns) إن إدارة نيكسون فاسدة ودعا إلى مقاطعة التجارة الأمريكية. وفي استجابة لهذه الدعوة، رفض عمال الارصفة الأستراليون تفريغ السفن الأمريكية.
وقام (Whitlam) بضم أستراليا الى حركة عدم الانحياز ودعا إلى منطقة سلام في المحيط الهندي، وهو ما عارضته الولايات المتحدة وبريطانيا. وطالب فرنسا بوقف تجاربها النووية في المحيط الهادئ. وفي الأمم المتحدة، دافعت أستراليا عن الفلسطينيين. كما تم الترحيب باللاجئين الفارين من الانقلاب الذي دبرته وكالة المخابرات المركزية في تشيلي، في أستراليا – وهي مفارقة أعرف أن (Whitlam) قد تذوقها لاحقًا.
على الرغم من عدم اعتباره على يسار حزب العمل، إلا أن ( Gough Whitlam) كان ديمقراطيًا اجتماعيًا مستقلاً، وصاحب مبادئ، وصاحب كرامة وادب. وأعرب عن عميق اعتقاده بأنه لا ينبغي لقوة أجنبية أن تسيطر على موارد بلاده وأن تتحكم بسياساتها الاقتصادية والخارجية. واقترح “استرداد الأصول الرأسمالية لإستراليا من الملكية الأجنبية.”.
في صياغة أول تشريع لحقوق السكان الأصليين في الأراضي ودعم المضربين من السكان الأصليين، أثارت حكومته شبح أكبر استيلاء على الأراضي في تاريخ البشرية – استعمار بريطانيا لأستراليا – ومسألة من يملك الثروة الطبيعية الهائلة للقارة الجزيرة.
وعلى الصعيد الداخلي، أصبح الأجر المتساوي للمرأة والتعليم العالي المجاني الشامل ودعم الفنون قانونًا. كان هناك احساس حقيقي بالحاجة العاجلة لذلك، كما لو أن الوقت السياسي بدأ ينفذ بالفعل.
سوف يدرك الأمريكيون اللاتينيون جرأة وخطر مثل هذا “التحرر” في بلد نشأت مؤسسته من خلال التحامها بقوة خارجية كبيرة. وقد خدم الأستراليون في كل مغامرة قامت بها الإمبراطورية بريطانية منذ سحق (انتفاضة الملاكمين – حركة يهيتوان) في الصين. في الستينيات، توسلت أستراليا للانضمام إلى الولايات المتحدة في غزوها لفيتنام، ثم قدمت “فرقًا سوداء” لوكالة المخابرات المركزية.
تجمع أعداء (Whitlam). حيث كشفت البرقيات الدبلوماسية الأمريكية التي نشرها موقع ويكيليكس في عام 2013 عن أسماء شخصيات بارزة في كلا الحزبين الرئيسيين، بما في ذلك رئيس وزراء ووزير خارجية المقبلين، كمخبرين لواشنطن خلال سنوات (Whitlam).
كان ( Gough Whitlam) يعرف المخاطر التي كان يخوضها. ففي اليوم التالي لانتخابه، أمر بعدم “تدقيق أو مضايقة” موظفيه من قبل منظمة الأمن الأسترالية ( ASIO)، التي كانت في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، مرتبطة بالمخابرات الأنجلو أمريكية.
لقد كتب ضابط محطة وكالة المخابرات المركزية في سايغون:
“قيل لنا أن الأستراليين قد يُنظر إليهم أيضًا على أنهم متعاونون من فيتنام الشمالية”.
تصاعدت حدة الإنذار في واشنطن عندما قاد، في الساعات الأولى من يوم 16 آذار/مارس 1973، المدعي العام في حكومة (Whitlam)، (Lionel Murphy)، مجموعة من الشرطة الفيدرالية في غارة على مكاتب (ASIO) في ملبورن. فمنذ إنشائها في عام 1949، أصبحت (ASIO) قوية في أستراليا مثل وكالة المخابرات المركزية في واشنطن. وفي ملف تم تسريبه عن نائب رئيس الوزراء (Jim Cairns ) تم وصفه فيه بأنه شخصية خطيرة من شأنها أن تؤدي إلى “تدمير نظام الحكم الديمقراطي”.
لقد استمدت ( ASIO) قوتها الحقيقية من معاهدة (UKUSA)، ومن ميثاقها السري في الولاء لمنظمات استخباراتية أجنبية – لا سيما وكالة المخابرات المركزية و (MI6) البريطانية. وقد تجلى هذا بشكل كبير عندما نشرت صحيفة (National Times) (التي لم تعد موجودة الآن) مقتطفات من عشرات الآلاف من الوثائق السرية تحت عنوان “كيف خانت (ASIO) أستراليا للأمريكيين”.
ان أستراليا هي مأوى لبعض أهم قواعد التجسس في العالم. وقد طالب (Whitlam)، بأن يعرف دور وكالة المخابرات المركزية وما إذا كانت وكالة المخابرات المركزية تدير “المنشأة المشتركة” في (Pine Gap) بالقرب من (Alice Springs)، ولماذا تقوم بذلك. وقد كشفت الوثائق التي سربها (إدوارد سنودن) في عام 2013، أن منشأة (Pine Gap) تسمح للولايات المتحدة بالتجسس على الجميع.
وحذر (Whitlam) السفير الأمريكي (Walter Rice): “حاول أن تخدعنا أو ترتد علينا”، وستصبح (Pine Gap) مسألة خلاف”.
وقد أخبرني (Victor Marchetti) ، ضابط وكالة المخابرات المركزية الذي ساعد في إنشاء (Pine Gap)، فيما بعد:
“هذا التهديد بإغلاق منشأة (Pine Gap) سببت في حدوث سكتة دماغية في البيت الأبيض … وعلى هذا بدأ الشروع بنوع من ما يشبه (انقلاب) تشيلي”.
يتم تفكيك تشفير الرسائل الشديدة السرية لمنشأة (Pine Gap) من قبل مقاول وكالة المخابرات المركزية ( -TRW) . ومن العاملين على تفكيك التشفير كان الشاب (Christopher Boyce) ، الذي ابدى انزعاجه من ما شاهده على “خداع وخيانة حليف”. وقد كشف (Boyce) أن وكالة المخابرات المركزية قد اخترقت النخبة السياسية والنقابية الأسترالية وكانت تتجسس على المكالمات الهاتفية ورسائل التلكس.
في مقابلة مع المؤلف والصحفي الاستقصائي الأسترالي (William Pinwill)، كشف (Boyce) عن اسم واحد له أهمية خاصة. أشارت وكالة المخابرات المركزية إلى الحاكم العام لأستراليا (Sir John Kerr) باسم “رجلنا Kerr”.
ولم يكن (Kerr) رجل الملكة والملكي المتحمس فحسب، بل كانت له علاقات طويلة الأمد مع المخابرات الأنجلو أمريكية.
بل كان ايضا عضوًا متحمسًا في الجمعية الأسترالية للحرية الثقافية ، والتي وصفها (Jonathan Kwitny ) من صحيفة (Wall Street Journal) في كتابه “جرائم الوطنيين” ، على النحو التالي:
“… جمعية للنخب المختارة عبر الدعوات الخاصة… وقد تم الكشف عنها في الكونجرس على ان تأسيسها وتمويلها وإدارتها قد تم بشكل عام من قبل وكالة المخابرات المركزية.”
لقد تم تمويل (Kerr) أيضًا من قبل مؤسسة (Asia Foundation)، التي تم الكشف عنها في الكونجرس كقناة لسطوة وكالة المخابرات المركزية وأموالها.
وكتب (Kwitny) بان وكالة المخابرات المركزية :
“… قد دفعت تكاليف سفر ((Kerr وتعزيز هيبته، كما دفعت ثمن كتاباته … كما واصل ((Kerr الذهاب إلى وكالة المخابرات المركزية من أجل المال”.
عندما أعيد انتخاب (Whitlam) لولاية ثانية في عام 1974، أرسل البيت الأبيض (Marshall Green) إلى كانبيرا كسفير. كان (Green) شخصية مستبدة وشريرة عمل في ظلال “الدولة العميقة” لأمريكا. كان معروفًا باسم “استاذ الانقلاب”، وقد لعب دورًا رئيسيًا في انقلاب عام 1965 ضد الرئيس سوكارنو في إندونيسيا – والذي أودى بحياة ما يصل إلى مليون شخص.
كانت إحدى الخطب الأولى التي ألقاها (Green) في أستراليا أمام المعهد الأسترالي للمديرين، الذي وصفها أحد أعضاء الجمهور، الذي اصيب بالذعر منها، بأنها “تحريض لقادة (الأعمال) في البلاد على الانتفاض ضد الحكومة”.
عمل الأمريكيون بشكل وثيق مع البريطانيين. في عام 1975 ، حيث اكتشف (Whitlam) أن MI6 كان يعمل ضد حكومته. فقد قال لاحقًا: “كان البريطانيون في الواقع يفكون تشفير الرسائل السرية الواردة إلى مكتب الشؤون الخارجية الخاص بي”.
قال لي أحد وزرائه ، (Clyde Cameron):
“كنا نعلم أن MI6 كان يتنصت على اجتماعات مجلس الوزراء لصالح الأمريكيين”.
وكشف كبار ضباط وكالة المخابرات المركزية فيما بعد أن “مشكلة Whitlam ” قد نوقشت “على وجه السرعة” من قبل مدير وكالة المخابرات المركزية ، (William Colby) ورئيس MI6 ، (Sir Maurice Oldfield).
قال نائب مدير وكالة المخابرات المركزية:
“لقد كان ((Kerr يفعل ما يُؤمر به أن يفعله”.
في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975، عُرضت على (Whitlam) رسالة سرية للغاية عبر التلكس مصدرها (Theodore Shackley)، الرئيس سيئ السمعة لقسم شرق آسيا في وكالة المخابرات المركزية، والذي ساعد في إدارة الانقلاب ضد سلفادور أليندي في تشيلي قبل ذلك بعامين. وقد اطلع (Whitlam) على رسالة (Shackley). وقد ذكرت الرسالة بإن رئيس وزراء أستراليا يمثل خطرًا أمنيًا في بلاده. وكشف (Brian Toohey)، محرر صحيفة “National Times” ، بأن هذه الصحيفة كانت تحمل تفويض من هنري كيسنجر، الذي تم تدمير تشيلي وكمبوديا على يديه.
بعد أن أقال رئيسي وكالات الاستخبارات الأسترالية (ASIO) و (ASIS) ، بات (Whitlam) ألآن يتحرك ضد وكالة المخابرات المركزية. ثم دعا إلى وضع قائمة بجميع ضباط وكالة المخابرات المركزية “المُصرح بهم” في أستراليا.
في اليوم السابق لوصول برقية (Shackley) في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975 ، زار (Sir John Kerr) مقر مديرية إشارات الدفاع ، وهي نظير وكالة الأمن القومي الامريكية في أسترالية، حيث تم إطلاعه سرًا على “الأزمة الأمنية”. خلال عطلة نهاية الأسبوع تلك، ووفقًا لمصدر في وكالة المخابرات المركزية، تم تمرير “مطالب” وكالة المخابرات المركزية، عبر البريطانيين، إلى (Kerr).
في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1975 – اليوم الذي كان من المقرر أن يبلغ فيه (Whitlam) البرلمان بالوجود السري لوكالة المخابرات المركزية في أستراليا – استدعاه (Kerr). ومتذرعا بـ «سلطات الاحتياط» العتيقة لنائب الملك التي وضعها فيه التاج البريطاني، أقال (Kerr) رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيا.
وهكذا تم حل “مشكلة Whitlam”. لكن لم تسترد السياسة الأسترالية عافيتها ، ولا الأمة استقلالها الحقيقي.
وهكذا تم تكرار تدمير حكومة سلفادور أليندي في تشيلي قبل أربع سنوات وعشرات الحكومات الأخرى التي شككت في الحق الإلهي للقوة الأمريكية والعنف منذ عام 1945، في أكثر الحلفاء ولاءً للولايات المتحدة، والتي غالبًا ما توصف بأنها “الدولة المحظوظة”. فقط الشكل الذي اخذه سحق الديمقراطية في أستراليا في عام 1975 كان مختلفًا، جنبًا إلى جنب مع التستر الدائم عليه.
تخيل (Whitlam) اليوم يقف في وجه ترامب ومايك بومبيو. تخيل نفس الشجاعة والتحدي المبدئي. حسنًا، لقد حدث ذلك.
المقال مختصر من فصل “الانقلاب- The Coup” في كتاب جون بيلجر ، (بلد سري- A Secret Country). انظر أيضًا فيلم بيلجر، (حروب الناس الأخرى)
المصدر : https://alasrmag.com/