
لم تكن زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى أنقرة زيارة بروتوكولية عابرة، بل كانت خطوة مدروسة ضمن مسار استراتيجي يحاول العراق أن يسلكه بثبات، ليعيد تموضعه في خارطة الشرق الأوسط المعاصرة. في هذه الزيارة، لم تكن الجغرافيا تتحاور مع الجغرافيا فقط، بل انفتح الزمن على نفسه؛ فتكلم التاريخ مع التاريخ، والتقت المصالح الاقتصادية العميقة بتطلعات الأمن والاستقرار. هكذا بدا “طريق التنمية” لا مجرد مشروع بنى تحتية، بل جسراً معرفياً واقتصادياً يمتد من البصرة حتى أوروبا، مروراً بتركيا، حاملاً معه معادلة جديدة لمستقبل بغداد في الشرق الأوسط.
في العاصمة التركية، حيث ارتفعت الأعلام واصطفّت الحراسات، عزف السلامان الوطنيان للعراق وتركيا، غير أن ما دوّى حقاً في الأفق لم يكن لحن البروتوكول، بل نغمة المصالح المشتركة، تلك التي باتت اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فالعراق لم يأتِ إلى تركيا بأوراق مجاملة، بل برؤية تحمل روح المبادرة، وتسعى إلى تحويل الجغرافيا من عبء إلى فرصة.
مشروع “طريق التنمية”، الذي يشكّل العمود الفقري لهذه الزيارة، لم يعد مجرد حلم معلّق في أدراج الخطط التنموية، بل تحوّل إلى أفقٍ مفتوح على شركاء إقليميين، وإرادة سياسية تسعى لانتشال العراق من خانة الممرّ، إلى موضع المركز. فالعراق، بخطّه الرابط بين الخليج وتركيا، لا يريد أن يكون ساحةً لصراعات الآخرين، بل عقدة وصل إقليمية تنهض على أساس التبادل والتكامل لا التنازع.
ومن جانبها، تدرك تركيا أن مشروع “IMEC” الذي طُرح مؤخراً دون أن يمرّ بأراضيها،( مشروع IMEC، أو ما يُعرف بالممر الهندي – الشرق أوسطي – الأوروبي، هو مبادرة دولية طُرحت في قمة مجموعة العشرين عام 2023، وتستهدف ربط الهند بأوروبا عبر موانئ الخليج، مروراً بالأردن وإسرائيل، وصولًا إلى الموانئ الأوروبية. يسعى المشروع إلى إنشاء ممر تجاري بديل يعبر من دون المرور بتركيا أو إيران، مما يجعله منافساً جيوسياسياً لطريق التنمية العراقي، ويُعَدّ من أبرز محاولات إعادة رسم خرائط العبور التجاري في المنطقة) ، شكّل صفارة إنذار استراتيجية. ولذلك فإنها ترى في العراق لا مجرد جار، بل منفذاً حيوياً إلى عمق اقتصادي وسياسي جديد. من هنا، وجد الطرفان أنفسهما في نقطة تلاقٍ نادرة، حيث تتقاطع الحاجة مع الرغبة، والطموح مع الضرورة.
اجتماعات الرئيس السوداني مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم تكن محصورة بلغة المجاملات، بل شهدت توقيع عدد من مذكرات التفاهم، غطّت مجالات النقل والطاقة والمياه، وكأن البلدين قررا أن يعيدا صياغة خطوط التواصل بينهما لا على الورق فحسب، بل على الأرض. كانت الرسالة واضحة: لا مستقبل في العزلة، ولا أمن بدون تعاون.
وإذا كان العراق يسعى إلى تكريس حضوره الإقليمي من خلال الاقتصاد، فإن ملف الأمن لم يغب عن الطاولة. ملف المياه، الذي لطالما شكّل نقطة حساسة بين البلدين، وجد له حيزاً في المحادثات، تماماً كما ملف حزب العمال الكردستاني، الذي تحرص تركيا على تحجيمه داخل الأراضي العراقية. هذه القضايا، ورغم حساسيتها، لم تُطرح بلغة الاشتباك، بل بروح الشراكة، وهو ما يُحسب للمناخ السياسي الذي وفرته الزيارة.
في مقاله الصحفي الذي نُشر قبيل الزيارة، كتب السوداني بلغة واثقة: “نحن لا نعيد بناء العراق فحسب، بل نشارك في إعادة تشكيل الشرق الأوسط”. هذه العبارة لم تكن زهوًا فارغاً، بل تلخيصاً لنهج عراقي يحاول أن ينسلخ عن سياسة المحاور، وأن يُعيد للعراق حقه في أن يكون صانعاً للمعادلات لا تابعاً لها.
لكن طريق التنمية، بما يحمله من آمال، ما زال محفوفاً بتحديات داخلية وإقليمية. فعدم إشراك إقليم كردستان بصورة فاعلة في خارطة الطريق، يثير تساؤلات حول التماسك الداخلي للمشروع، كما أن موقف إيران التي ترى في هذا المشروع احتمالًا لمزاحمة نفوذها، قد يلقي بظلاله على مراحل التنفيذ. ومع ذلك، فإن دخول شركاء خليجيين—مثل قطر والإمارات—على خط التمويل والدعم، يضفي بعداً إقليمياً إضافياً، يفتح الباب لتحالف اقتصادي حقيقي.
المهم الآن هو أن لا تظل هذه الخطوات حبيسة النوايا، بل أن تُترجم إلى مشاريع ملموسة، تتقدم رغم تعقيدات السياسة العراقية ومناخاتها المتقلبة. فالعراق اليوم يمتلك فرصة نادرة لأن يتحول من ضحية جغرافيته، إلى فاعل عبرها، بشرط أن يُحسن التفاوض على طاولة الداخل قبل الخارج، وأن يصنع من التوافق المحلي رافعة لأي شراكة إقليمية.
ما بين بغداد وأنقرة، تُرسم اليوم خرائط جديدة، لا بالحدود والأسلاك، بل بالمصالح والعقول. وإذا كانت القاطرات الأولى ستسير ذات يوم على طريق التنمية، فإنها ستحمل أكثر من البضائع: ستحمل حلم العراق الذي نهض من رماده، وعاد ليكتب مستقبله بيده، متحداً مع جيرانه على ضوء مصلحة لا تعلوها شعارات، ولا تهزمها العواصف.