أحاول في المقالين التاليين تسليط الضوء على الحوارات الداخلية الشعبية الإسرائيلية، التي تتناول حجم الخسائر التي منوا بها خلال الستين يوماً الماضية، وهي حوارات صريحة وواضحة، وشفافة وبسيطة، كونها تجري بين العامة، ويتناقلها المستوطنون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتستطيع أن تتخلص من قوانين الرقابة العسكرية التي تحاول فرض رواية أحادية الجانب، تجافي الحقيقة وتقفز على مشاعر المستوطنين وتصادر وجهات نظرهم، وتحول دون ظهورهم على الوسائل الإعلامية.
علماً أن الرأي العام الإسرائيلي في تغيرٍ مستمرٍ واضطرابٍ لافتٍ، ويشهد على ذلك استطلاعات الرأي المختلفة التي تظهر تردي سمعة الحكومة وتراجع مصداقيتها، وتراجع التأييد الشعبي للعمليات العسكرية، والدعوات المتزايدة لوقف الحرب والانشغال باستعادة الأسرى وعودتهم أحياء إلى بيوتهم.
لم يستفق الإسرائيليون بعد من هول الصدمة، وما زال أكثرهم تحت تأثير الحادثة، ولم يتمكنوا رغم مضي أكثر من ستين يوماً من استعادة وعيهم وضبط قرارهم والتحكم في سلوكهم، فقيادتهم مضطربة، ومجلسهم الحربي مختلفٌ، وجبهتهم الداخلية متصدعة، وصورتهم الخارجية مشوهةٌ، وروايتهم الرسمية مكذبة، وتحالفاتهم الدولية متذبذبة، وعلاقاتهم الرسمية مضطربة، ومكانتهم الدولية مهتزة.
ذلك أن العملية التي فاجأتهم بها حركة حماس والمقاومة الفلسطينية ما زالت ضاغطة، وتداعياتها مستمرة، ونتائجها كثيرة، وآثارها كبيرة، ولا يبدو أنهم سيخرجون منها قريباً، أو سيتعافون من آثارها حتماً، ولو أن بعضهم يرى أن الخروج منها مستحيل، والتخلص من نتائجها أمرٌ صعبٌ، وأنها ستبقى علامةً فارقة في تاريخ الدولة العبرية، وربما في تاريخ الشعب اليهودي، بالنظر إلى آثارها القريبة والبعيدة المدى، والنفسية والمادية، والمباشرة وغير المباشرة، فما أصابهم كان فوق التصور والخيال، وقد جاء في أوج الإحساس بالقوة ويقين التفوق وغطرسة الهيمنة والسيطرة والاستعلاء.
لهذا فإن نقاشاَ عميقاً يدور بين المستوطنين الإسرائيليين حول الأثمان التي جبتها منهم المقاومة الفلسطينية، والضريبة التي أجبرتهم على دفعها، والحالة التي أوصلتهم إليها، ويبدو أنهم يتحاورون بجديةٍ ومسؤوليةٍ، فلا يخفون شيئاً مما يشعرون به، ولا يتظاهرون بالكسب في ظل الخسارة، ولا يحاولون تزيين الواقع وتزوير الوقائع، إذ أنهم يتحدثون عن أحوالهم مع بعضهم البعض، ويصفون لأنفسهم الظروف التي يعيشونها، الأمر الذي يجعل تقييمهم موضوعياً، وعرضهم منطقياً، كونه يعبر بصدقٍ عن حقيقتهم، ويبتعد فعلياً عن الرغبات والأماني الخاصة بنا.
يصف الإسرائيليون “عملية طوفان الأقصى” التي يطلقون عليها اسم “هجوم حماس على النقب الغربي”، بأنها هزة دراماتيكية عنيفة، وأنها مأساةٌ وانكسارٌ، وأنها كسرت لدى عامة الشعب الثقة والأمل، وصدعت قواعد الإيمان، وأصابت النموذج والمعتقدات، وضربت مفاهيم اليقظة والحذر، والاستطلاع والتنبؤ، وحطمت أساطير الرصد والمراقبة، وكشفت هشاشة الجاهزية والتفوق، وأظهرت الانفصام في شخصية رئيس الحكومة الذي يبدو أنه يتعاطى عقاقير منشطة، وأعضاء حكومته الذين يعيشون واقعاً آخر.
يستعظم الإسرائيليون الذين فقدوا ميزان القوة والردع، ومادت الأرض تحت أقدامهم وهددت وجودهم ومستقبل كيانهم، ما جبته المقاومة الفلسطينية منهم، فيجدون أنهم تكبدوا في ساعاتٍ قليلةٍ أكثر من 1300 قتيل، وآلاف المصابين نفسياً وجسدياً، ومنهم من لا يرتجى شفاؤه، وكثيرٌ منهم من العسكريين النظاميين والاحتياط، ومن الجنود والضباط الذين قتلوا في ثكناتهم ومهاجعهم.
ويتباكون على أكثر من ثلاثمائة أسيرٍ نقلوا إلى قطاع غزة، قتل منهم نتيجة عمليات القصف التي قام بها جيشهم أكثر من ستين أسيراً، وتم بالتفاوض استعادة أكثر من سبعين أسيراً من النساء والأطفال، ولكن بقي لدي المقاومة في أماكن سرية في قطاع غزة، أكثر من 130 أسيراً منهم، هم من كبار قادة وضباط فرقة غزة، ومعهم جنودٌ ومجنداتٌ لا يعرف مصيرهم، ولا يبدو أن عودتهم إلى عائلاتهم سهلة، ما لم تقبل الحكومة ورئيسها بدفع أثمانٍ مقابل حريتهم.
لم يتوقف مسار القتل الآخذ صعوداً وهو ما يقلق الإسرائيليين، بل بدت المعارك تشي باستمرار الخسائر البشرية النوعية، في ظل سيطرة وتحكم عناصر المقاومة الفلسطينية على الأرض وفي الميدان، وتنامي قدراتهم القتالية التي تعبر عن الثقة والثبات، إذ تجري أغلبها وجهاً لوجه، وتدور رحاها على أرض الميدان وفي مواجهة الآليات والدبابات من نقطر الصفر، الأمر الذي يعني أن سجل الجباية ما زال مفتوحاً، وحصاد القتال يغدو مع الوقت أكثر مرارةً وأشد إيلاماً كما سنرى فيما سيلي.