ثقافية

(قِيَم) المدنية، في حوار . !!!

د. محمد ابو النواعير.

في نقاش مع احد الأخوة المدنيين حول مفهوم المجتمع المدني القائم على مفهوم العلمانية، والقِيَم التي يدعيها دعاة المدنية والتمدن، والقائم في اغلبه على مبدأ فصل الدين عن الدولة، طُرِحَت الاشكالات التالية:

جناب الدكتور مرحبا …

موضوع الدين والله والخالق والموت وما بعد الموت هاي الأمور شنو دخلها بالدوله..

هذه مسائل روحيه عقديه نسبيه تختص بالانسان ونفسه والانسان استمدها من مصادر مختلفه اغلبها تاريخيه. ..

اما الدوله شخصيه معنويه تقدم للناس أمن وخدمات …

الخلط بينهما (الدين والدوله) يولد عدنا كارثه واضطراب لا مبرر له سوى غايات محدوده.

والمجتمع هو تكتلات بشريه…

والبشر اهوائهم مختلفه وايمانهم مختلف واختلافهم طبيعي وتغيرهم مستمر وعلى نمط ثابت منذ الأزل …الإنسان وعيه في تجدد وعقله في حركه مستمره.

اما المدنيه هي صيغه اداره ونظام حكم، لا تطالب او تسأل عن الموت وما بعده وعن باقي الاسئله الميتافيزيقيه الماورائيه.

عذرا على الاطاله.

*****

فكان جوابنا عليه كالتالي :  أخي العزيز ..

 

إن اساس تشكيل المجتمع المدني العلماني (بحسب ادبيات منظريه الغربيين)، هو تحويل الدين الى هامش بسيط في حياة الفرد والمجتمع.

نعم لا انكر ان للبشر اهواء وعقائد مختلفة، ولكنني هنا اقصد الحركات المدنية (المتسلحة بالعلمانية الفجة)، والتي تحاول اقتحام المجتمعات الاسلامية (او ذات الطابع الاسلامي المحافظ بشكل عام)، محاولة تغيير كل ديناميكياته ومحركاته وفواعله الاجتماعية القيمية والاخلاقية والسلوكية، عبر ادوات فنية واعلامية وفكرية، وتنفق من اجل ذلك اموال وجهود جبارة، كل ذلك هو الذي يجعلنا نتوقف ونؤشر على مكامن الخطأ والخطر في هذا الفكر.

اتفق معك ان هناك تغير مستمر في طبيعة البشر العقلية، ولكن قوانين ومنطق التفكير، وثوابت الفطرة، لم يشملها الكثير من التغيير، ومن ضمن موارد الفطرة هو نزوعها نحو الايمان بثوابت فوقية متسامية، بل حتى نفسهم دعاة المدنية الاجتماعية والحاكمية العلمانية ، نلمس في ادبيات طرحهم أدلجة دوغمائية مبطنة بتقديس لا واعي لفكرهم المدني القائم على العلمنة، وهو امر ليس بغريب، بل هو فطري غريزي، ان يؤمن الانسان بمنهج ثابت يثبت عليه ويدافع عنه، فهذا هو فرقه عن الحيوان غير الناطق وعن الجمادات.

اما حصركم لمفهوم المدنية باعتبارها منفذ اصولي عقلاني تنتج عنه صيغ ادارية وصيغ حوكمة، فهذا توصيف غير دقيق، لان المعضلة الاساس في الفكر المدني، انه يقصر كل الوجود البشري بالاطار الحياتي المعاش، لذا، اذا كانت صيَغ الادارة والحكم مما يتعارض مع احكام الدين (بالاخص لمجتمع ديني باغلبه)، فهو (الفكر المدني العلماني)، لا يهتم لذلك، لان ما يهمه ان تكون نتائج القوانين الوضعية ملامسة لما يرتضيه اصحابه في اطار الحياة التي يعيشها.

 

بينما في الفكر الديني (وبالاخص الاسلامي)، فان الهدف من الحياة الدنيا المعاشة، ان تكون كمقدمة، لا كنتيجة نهائية غائية، بل هي مقدمة لحياة اهم، لذا فكل سلوكيات الفرد وعقائده وادبياته وقيمه، تكون محسوبة بدقة لمرحلة قادمة، مرحلة لا يوجد لها اي اعتبار او ذكر في اطار ما ينظر له دعاة المجتمع المدني القائم على العلمنة.

واذا اردنا ان نتفحص آليات تكوين الفعل الاجتماعي (الفردي)، سنجد ان اغلب مقومات تكوين هذا الفعل تبتني على منظومة قيمية اخلاقية فكرية، يستقي أساسياتها ويتم تنشأته عليها من قبل انساق اجتماعي (مفتوحة ومغلقة) ، ومن قبل سياسات كثيرة تتخذها سلطة الدولة (دور الاسرة يكون ثانويا)، فماذا تتوقع ستكون نتيجة تنشأة فرد في مجتمع مدني تشتت انساقه الاخلاقية، وسلطة لا تهتم ابدا بتقديم اي غذاء روحي للفرد، بل وتسمح للافراد والمجموعات بكسر عوامل الكبح الاخلاقي الاجتماعي؟

أكيد سينشأ لدينا انسان مشوه اخلاقيا ودينيا، وتأثيره يكون معديا مدمرا على غيره، لذا نجد تركيز الاسلام على مبادئ صغيرة ولكنها مهمة، كالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، او حرمة التجاهر بالمعصية.. الخ كل ذلك من اجل الحفاظ على عوامل الكبح الاخلاقي المجتمعي، في المجتمعات الاسلامية، وهذا ما لا وجود له في ادبيات العلمانية الادارية والاجتماعية وافرازاتها في المجتمع المدني.

اما اعتبار السؤال عن الموت، سؤالا ميتافيزيقيا ما ورائيا، فهذا يا سيدي هو مقصدي من عجز منظومة التفكير المدني، من اعطاء اجوبة مقنعة عن الموت وسره وسببه وماهية الحياة فيما بعده، لذا، ولعجز وخلل في منظومة التنظير المدني، يكتفي مفكريها برمي الموت وما بعد الموت بخانة او تهمة الماورائية، لكي يقللوا من قيمته وعظم خطره، والحال ان الدين بعد ترسيخه عقلانيا في فكر الفرد وعقائديا في قلبه، سيعطي (اي الدين) الاجوبة الكافية لتلك الحالة التي اسماها جنابكم ميتافيزيقية.

حبي ومودتي .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى