كونية القرآن موضوع مدارسة بحثية في السربون بين الإثبات والنفي
بقلم : بلال التليدي
نظم المعهد الأوروبي للدراسات المعرفية ببروكسيل بشراكة مع قسم الدراسات العربية بجامعة السربون ملتقى علميا دوليا حول موضوع القيم في القرآن الكريم ما بين 19 و20 أيار (مايو) الماضي بمقر جامعة السربون بباريس، شارك فيه باحثون من جنسيات مختلفة، ودار موضوع النقاش حول إمكان إثبات وجود قيم كونية في القرآن الكريم.
من الناحية الرمزية، تعتبر هذه المبادرة العلمية غير مسبوقة، فلم يحدث في تاريخ جامعة السربون بحسب رئيس قسم الدراسات العربية بها، السيد أندريان ليتيس، أن تم مناقشة النص القرآني والبحث في مضمونه، وإنما دارت أغلب الدراسات حول تاريخ القرآن أو تاريخ العلوم المتصلة به.
في الواقع، لا يهمنا هنا التوقف عند هذا الحدث باعتباره اختراقا بحثيا مهما يحسب لصالح المسلمين، فثمة في الجهة الأخرى، لوبيات إيديولوجية معادية، تتربص الدوائر لمنع مثل هذا الحدث، والحيلولة دون أن يصير نص القرآن موضوعا بحثيا، بحجة أنه يمثل انحرافا في الممارسة العلمية لجامعة عريقة مثل السربون، لكن ما يهم بدرجة كبرى ثلاث قضايا أساسية.
الأولى، أن انفتاح السربون على هذا الموضوع، لم يكن بقصد المجاملة، ولم يندرج ضمن أي أجندة سياسية، فالسيد أندريان ليتيس، كان واضحا، من أن الموضوع بحثي، وأن الجامعة، لم تقدم شيكا على بياض بخصوص وجود قيم كونية في القرآن أم لا، وإنما تنخرط في هذا الموضوع كمشروع بحثي، يحتاج للإثبات العلمي، فسد الطريق بذلك على كل تأويل إيديولوجي أو توظيف سياسي من أي جهة كانت، إسلامية أو علمانية، أو جهات يمينية متطرفة.
الثانية، أن النقاش دار بين باحثين من جنسيات مختلفة، فرنسية وأمريكية وألمانية وإيرانية وتونسية ومغربية وسورية وغيرها، وكان بالأساس باللغة الإنجليزية، وكان منفتحا على أطاريح متباينة، ربما يتجه توجهها العام إلى إثبات كونية القيم في القرآن، مع قدر واسع من التساؤل، حول نقطتين اثنتين، تتعلق الأولى، بما إذا كانت هذه القيم، موجهة إلى المسلمين أم إلى الجميع بما في ذلك غير المؤمنين بالإسلام. وتتعلق الثانية، في ما إذا كانت هذه القيم قبلية عشائرية سابقة عن الإسلام، وقام الإسلام بتجديدها أو إعادة عرضها، أم إن القرآن أسس لهذه القيم لتكون كونية في جوهرها ووظيفتها.
الثالثة، أن النقاش البحثي، حول هذه القضية، لم يكن قصده الخروج بنتائج سريعة، تحسم الأمر في هذا الاتجاه أو ذاك، وإنما تم التعبير في مبدأ النقاش بين الباحثين، أن مسار البحث في هذه القضية قد يطول لبعض الوقت، وقد يتطلب الإثبات جهودا أكبر، لتذليل الصعوبات، وبعض الإشكالات التي لا يزال العقل الغربي، يطرحها كتحديات جدية، وأن النقاش لو نجح في تحقيق هدف واحد فقط، هو تبديد التوتر حول هذا الموضوع شديد الحساسية، وذلك بالتوافق على ضرورة إعمال قواعد المنهج العلمي في البحث، لحقق كثيرا من تطلعاته.
كونية قيم القرآن بين العلم والإيديولوجيا
كان واضحا منذ البدء، أن المقاربة التي اعتمدت في هذا الملتقى انطلقت من الوعي بخطورة إقحام البعد الإيديولوجي في النقاش العلمي في هذا الموضوع، إذ غايته، أن يتم تكريس التوتر المسبق، حول هذه القضية بين طرفين: طرف متحمس لفكرة إثبات كونية قيم القرآن، وطرف في المقابل، يرى كونية القيم بارتباط مع تطور الفكر الإنساني وخلاصة التراكم الذي حققه الفكر الفلسفي الغربي.
فقد أكد السيد أندريان ليتيس، رئيس قسم الدراسات العربية في جامعة السربون في كلمته الافتتاحية للملتقى، أن الفرصة التي أتيحت لمناقشة هذا الموضوع، هي فرصة أكاديمية بحثية، وليست مجرد تحقيق رغبات وأمنيات، وأن المقتضى الأكاديمي يتطلب إثباتا علميا لكونية قيم القرآن، لا مجرد الادعاء، وأن السربون ما سبق لها من قبل أن جعلت من نص القرآن ومحتواه حقلا بحثيا، وأنها اليوم تعتبر أن إهمال دراسة تأويل القرآن، وتفسيره أمر غير عادل ولا منصف، وأن الحاجة تفرض الخروج من منطق عدم الاعتياد في دراسة النص القرآني، إلى دائرة الاشتغال البحثي حول مضمونه ودراسة القيم التي وردت فيه، وأن ذلك، يعكس في الجوهر تطورا مهما في مسار الدراسات العربية في جامعة السربون.
وإلى ذات الملاحظة، نبه بدي بنو المرابطي، رئيس المعهد الأوروبي للدراسات المعرفية، وأكد في كلمته، إلى أن الاشتغال على موضوع إثبات كونية القيم في القرآن، يتطلب استخدام الإمكانات المعرفية والمنهجية التي تتيحها العلوم الاجتماعية، وأن ذلك يمثل تحديا بحثيا، وأن مركزه جعل من هذا الموضوع رهانا مفتوحا ومشتركا، يتقاسمه مع عدد من الجامعات الغربية (السربون) والعربية والإسلامية (في المغرب وتونس وتركيا).
في قراءة تجربة محمد عبده: هل يقود إثبات كونية القرآن إلى مسارات متباينة في التأويل؟
انطلقت ورقة أوليفر شاربروت من تفسير محمد عبده الموسوم بـ”جزء عم”، وحاولت أن تختبر جدل الكوني والخصوصي في هذا العمل المتأخر من اعمال الشيخ محمد عبده. ويرى الباحث أن محمد عبده، لم يفسر بشكل مباشر القيم الأخلاقية العالمية في هذا التفسير، وأنه اكتفى بالتنبيه إليها بشكل خاص عند حديثه عن المصلحة ومقتضياتها الأخلاقية والقانونية، وأيضا عند حديثه عن السعادة، حيث حاول محمد عبده أن يستخرج القيم الأخلاقية والثقافية العالمية كجزء من منهجية فهم النص القرآني التي تسمح بالوصول إلى رؤية دينية للعالم تؤسس بشكل عقلاني لقيم كونية أخلاقية.
يرى الباحث في رفض محمد عبده الدائم للتقليد، وتأكيده على خصائص الإنسان الفطرية، تأكيدا على الاستقلالية الفكرية والأخلاقية للإنسان، والتي دائما ما تم تهديدها من قبل القوى الاجتماعية الثقافية التي تضغط على الإنسان وتعتم عليه أحكامه الأخلاقية والعقلانية. ويعتبر أن نداءه لتجاوز التقليد في فهم الإسلام ونصوصه الأساسية (قراءته التجديدية) تتجاوز القراءة السياقية للقرآن، وتسعى لإحياء جوهر الرسالة العقدية والأخلاقية للقرآن، وتتلافى متطلبات الدقة التاريخية، ومصداقية الأوصاف الغيبية وتفاصيل الرؤى المذهبية والخلافات الكلامية، مع الانتصار لفكرة المعنى العام للنص القرآني.
ويذهب الباحث إلى أن مقاربة محمد عبده سهلت تمييز الخصوصي عن الكوني، بالتركيز على البعد الأخلاقي في النص القرآني والقيم الكونية في رسالته الشاملة، والتعامل مع القرآن باعتباره نصا كليا يحمل رؤية عقدية وأخلاقية منسجمة واضحة، وهو ما أكسب رؤيته تأثيرا كبيرا على المقاربات الإصلاحية التي سادت خلال القرن العشرين.
ويركز الباحث في رؤية محمد عبده على الشكل الذي قدم به الإنسان، وكيف اعتبره كائنا عاقلا يملك بطبيعته الفطرية والحدسية القدرة على التعرف على الله والإيمان به، والتمييز بين الصواب والخطأ، كما قرر أن القرآن يتضمن حقائق كونية وأخلاقية يمكن أن يتوصل إليها بالعقل الإنساني بنفسه، وهو ما يعكس عقلانية ووضوح الرسالة القرآنية، ويثبت كونية قيم القرآن ويواجه الاعتراضات التي يواجه بها القرآن ويتهم بمقتضاها بأنه دين تاريخي يؤطر لحظة من الزمن ولا يمكن مخاطبة العصر الراهن.
ويثير الباحث تساؤلا مهما، يتعلق بهذه الثنائية في فكر محمد عبده (القرآن يتضمن حقائق وقيما كونية يتوصل إليها العقل الإنساني، والإنسان يمتلك الإمكان الفطري الذي يجعل عقله قادرا على التوصل إلى المعرفة الكونية) يتعلق بمدى حاجة الإنسان إلى الوحي ما دام قادرا بفطرته إلى التوصل إلى الحقائق والقيم العالمية.
يشير الباحث إلى عدم تقديم محمد عبده أي تفسير لهذا التساؤل، وأن أجوبة متعددة تم تقديمها لتفسير موقفه، تستعيد النقاشات القديمة حول أسبقية العقل في الإدراك المعرفي (المناظرات الكلامية وبشكل خاص عند المعتزلة، وبعض المتفلسفة كابن سينا وأيضا عند الأشاعرة)، فيدرج الباحث الجواب الذي يتعلل بوجود نخبة قليلة لها القدرة على استخدام نزعتهم الفطرية للتعرف على الحقائق العقدية والأخلاقية، بينما الدين موجه للجميع، وأن الجمهور يطلب منه اتباع ما ورد في القرآن من القيم العقدية والأخلاقية لتحقيق الخلاص، ويرى أن تفسير “جزء عم” لا يدعم هذا التفسير، بحكم أنه لا يشير إلى قصر الاستخدام السليم للفطرة على نخبة دون أخرى، ولكنه يقدم الخصائص الفطرية باعتباره كسبا مشتركا للإنسان، تعينه على فهم القرآن والتوصل إلى حقائق العقدية والقيمية عن طريق العقل، وأن العوائق التي يمثلها المحيط الاجتماعي، هو ما يشكل الحائل دون ذلك. ويورد الباحث جوابا آخر، يرى أن محمد عبده، ومن منطق اعتذاري، حاول أن يقدم هذا الجواب في أواخر القرن التاسع عشر، حتى يثبت الإرث العقلاني للدين، وينفي تعارض الدين مع العقل.
ويورد الباحث جوابا ثالثا محتملا، يستند إلى الوضوح المتأصل في القرآن، والقوة التحويلية لخطابه العقدي والأخلاقي، والحاجة لتبني الحقائق العقدية المثبتة بالأدلة والبراهين العقلية، وأن محمد عبده كان يميل إلى تشجيع النظر النقدي للقرآن بدل التمسك الأعمى بالتأويلات التقليدية والأعراف الدينية.
ويلاحظ الباحث تعدد المصادر التي شكلت خلفية محمد عبده المعرفية (الإرث الذي خلفه عدد من العلماء والمتفلسفة المسلمين السابقين كابن سينا والغزالي) ويعتبر أن مزجه بين هذه المصادر التي تبدو لأول متناقضة، لا يبين سعيه لإعادة إحياء هذه الآراء، بقدر ما يثبت رغبته في خلق الانسجام بينها، وإعادة الطابع الحيوي لها لكن ضمن تركيب جديد.
ويخلص من ذلك إلى أنه لم يقصد تقليد الآراء الغربية المعاصرة، ولم يتابع بشكل كلي المقاربات العقلانية أو التاريخية النقدية للقرآن، عبر عقلنة بعض المرجعيات أو تقديم قراءة مجازية حين ينفي عن القرآن التناقض مع العلم المعاصر، وأنه كان يسعى بدلا عن ذلك إلى إثبات استقلاليته الفكرية بالأساس.
ويسجل الباحث في خلاصاته أن فهم محمد عبده الواسع للتراث الإسلامي ومنهجه الانتقائي عند تأويل القرآن ترتب عنه بعض الغموض في كثير من مواقفه بما سمح بتأويلات وتقييدات متباينة من قبل العلماء والمثقفين المسلمين الذين اتبعوهه، وأن ذلك هو ما يفسر تباين وتشعب أتباعه (سعد زغلول رجل الدولة الوطني العلماني، حسن البنا الشخصية الإسلامية التي استلهمت نموذج تلميذه رشيد رضا، العلمانيين الحداثيين من أمثال فضل الرحمان وأمينة ودود، الفهم السياسي الراديكالي للإسلام كما هو مجسد عند سيد قطب الذي استلهم فكرة الحاكمية من تفسيره).
وينتهي الباحث إلى خلاصة كبيرة يرى فيها أن تمرين محمد عبده لتأصيل كونية القيم في القرآن واعتماد نهج واسع النطاق لفهمه أدى إلى نتائج متباينة تماما، كما يوضح تاريخ استقبال تفسير عبده.
الكوني والخصوصي في مفهوم الدين عند محمد فاضل
تعالج ورقة البروفيسور محمد فاضل مفهوم الدين في القرآن، ويورد جميع المواضع التي وردت فيها هذه اللفظة في القرآن المكي والمدني، وباعتبارات متعددة، ويستعرض الباحث دلالة الدين في اللغة، ويركز على الأصول الثلاثة لهذه اللفظة في اللغة، ويرى أن واحدا منها فقط هي التي تفيد معنى الديانة، وأنه بسبب تكافؤ المعاني اللغوية لكلمة دين، وبحكم الخلافات حول مدى ملاءمة استخدام مصطلح دين لوصف الإسلام، فقد اختار لضرورة منهجية ترك “دين” دون تحديد معناها، وأنه بدلا من الارتهان إلى اللغويين، اختار أن يرجع إلى الدراسات المتخصصة في الدلالات القرآنية، وبشكل خاص، دراسة توشيهيكو إيزوتسو، التي تناولت لفظة الله، والإنسان في القرآن، كأحد المنهجيات التي تقود لتحليل استعمالات القرآن للفظة دين.
يرى محمد فاضل أن إيزوتسو استعمل تحليلات مفيدة لدلالات لفظة الدين في القرآن، واكد أن القرآن يستعمل لفظة دين بطريقة تتضمن مختلف الأبعاد التي تندرج ضمن تحديد مفهوم الدين، ولذلك جعل الباحث من ورقته مساهمة للجواب عن سؤال: إلى أي حد يفيد استعمال القرآن لفظة دين وجود مثالية عالمية للدين، وإلى أي حد تؤكد خصوصية مفهوم الدين؟
وقد حاولت ورقته بحث هذا التساؤل عبر قراءة حذرة للاستعمالات القرآن للفظة دين، وذلك جنبا إلى جنب مع مصطلحات أخرى مجاورة، مثل الملة والفطرة، بالإضافة إلى استعمالات أخرى للدين، لفهم العلاقة بشكل دقيق بين الدين بوصفه مفهوما مجردا عالميا، وبين الدين بوصفه ظاهرة تاريخية خاصة.
وهكذا وبدلا من تتبع الأصول اللغوية لكلمة دين كما كان اشتغال المستشرقين التقليديين، فقد اشتغل الباحث بتحليل استعمالات القرآن البلاغية للفظة دين. فخلص من ذلك إلى أن نظرة القرآن تتخذ اتجاهين: الدين بوصفه مفهوما شاملا مجردا، والدين باعتباره شيئا علويا، يتمتع البشر بإدراك حدسي له، يفرضه عليهم الخيار الأخلاقي.
يورد الباحث قوله تعالى “أرأيت الذي يكذب بالدين” من سورة الماعون، ويرى أن استعمال القرآن للفظة دين في هذه الآية يثير وبشكل آني سؤالين اثنين، الأول معرفي، والثاني أخلاقي. أما المعرفي، هو لماذا يعتبر الإسلام دين حقيقة طبيعية لا خلاف حولها. وأما السؤال الأخلاقي، هو لماذا “دين” مفهوم أخلاقي، يتطلب أن يتبنى الإنسان إزاءه موقفا أخلاقيا ذاتيا خاصا. ويورد عددا من الآيات التي تقدم جوابا عن ذلك، وتؤكد أن معرفة الدين طبيعية، وفي الآن ذاته تاريخية، فيعلن القرآن في سورة الروم أن الدين يتناسق مع فطرة التكوين الإنساني: “فطرة الله التي فطر الناس عليها”، ويؤكد في سورتي الفتح والصف أن معرفة الدين تاريخية، تبدو من خلال إرسال الله تعالى الرسل لجميع البشرية ليعلموا الناس الدين”هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق”.
ويخلص الباحث من ذلك إلى أن الدين يستمد مكانته كمفهوم أخلاقي من مصدرين أيضا، الأول هو أن القرآن أقر أن الله هو مصدر الدين. وأما الثاني، فكما أن التكوين البشري ينتج عنه معرفة الدين، فإنه أيضا، ينتج في الوجود الإنساني نزعة طبيعية لتوجيه النفس نحو الدين بطريقة أخلاقية مناسبة، “فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.
وهكذا، يخلص الباحث إلى أن الطبيعة تؤسس كلا من الأبعاد المعرفية والأخلاقية للدين، وهو ما يفسر في الوقت ذاته، سبب أن معرفة البشر بالدين هي معرفة عالمية، وأنه أيضا يمتلك مفهوما أخلاقيا عالميا، ولأن الدين مفهوم أخلاقي، يستجيب الوجود الإنساني معه كجزء من الأخلاقية الإنسانية الكونية.
ويخلص الباحث في ورقته إلى أن الممارسة البشرية للدين (التدين) بقدر ما تكون معيبة، فهي نتاج تفكير بشري تعسفي مدمر لرفاهية الإنسان، يتحدث بتجديف عن الله، وأن الدين، حتى وهو يتسم بصفة الاستقامة، فإن المجتمع المستقيم، هو المجتمع الذي تتطابق ممارساته العملية للدين مع المفاهيم العالمية والمجردة للدين في القرآن.
قيمة الحب في القرآن بين الكونية والخصوصية
قدمت بهار دافاري الأستاذة في جامعة سان دييغو بالولايات المتحدة الأمريكية ورقة مقارنة حول الحب في القرآن الكريم وفي تصورات الشاعر والروائي جيمس بالدوين، وانطلقت من بحثها من أن الفكرة القائلة بمحافظة القرآن على القيم التي تحسب بأنها كونية ليست فكرة هامشية في تاريخ الفكر الإسلامي، وأنها على العكس من ذلك معروفة في حقل الدراسات المقارنة للأديان. واعتبرت أن القيم مثل السلم والحب، الكرامة الإنسانية، الرحمة، العدل، والخلاص، هي القيم القرآنية المتجذرة في مفهوم الوحدة والاتساق بين جميع الكائنات المعبر عنها بشكل أساسي في التوحيد أو وحدة الإله.
وقد ركزت في ورقتها على الحب كسبيل كوني للمعرفة والوجود التي تتخلل الخطاب الإسلامي عن الذات والمجتمع والكون، واستندت في ذلك إلى آراء الحكماء المسلمين عبر القرون، والذين أسسوا فلسفاتهم عن الحب بناء على الرسالة الشمولية للقرآن. وقد تبنت في ورقتها مقاربة نقدية، قصدت من خلالها وضع مفهوم القرآن للحب كما فهمه الحكماء المسلمين، جنبا إلى جنب مع الحب كما فهمه جيمس بالدوين، الروائي الأمريكي وشاعر الحب، واستعرضت في ورقتها آراء الفلاسفة والحكماء المسلمين في موضوع الحب، ثم حاولت مقاربة الحب من خلال النص القرآني.
تورد الباحثة وصف الصوفية للقرآن بأنه كتاب عشق، رغم أن كلمة عشق لم ترد في القرآن، وتستقرئ لفظة الحب والود في القرآن، وترى أن القرآن استعملهما حوالي 80 مرة أو أكثر. وتذكر من ضمن هذه الاستعمالات آيات تصف الذين يحبهم الله (المتقين، التوابين، المتطهرين، المتقين، المقسطين، المحسنين وآخرين) وآيات أخرى تصف الذين لا يحبهم الله (المسرفين، الظالمين، المعتدين، الكافرين، الفرحين، المختال الفخور، وآخرين)، وتستند الباحثة إلى أسماء الله الحسنى (تسعة وتسعين اسما) وترى أن أغلبية هذه الأسماء مرتبطة بالرحمة مثل: الرحمان، الرحيم، الغفور، الكريم، الرؤوف، ومن بين هذه الأسماء يوجد اسم الودود التي تكرر مرتين في القرآن، وتلاحظ على القرآن نسبة الحب لله، وعدم نسبة الكراهية له (لا يوجد لفظ الله يكره كما تقول الباحثة)، وترى أن لفظة “الله لا يحب” تكررت في القرآن أكثر من أربعين مرة.
وتعرج الباحثة إلى آراء الحكماء المسلمين في تفسير لفظة الحب في القرآن، فتخلص إلى أن الحب يبدأ مع فعل الخلق الإلهي، وأن مبادرة الله بالحب في فعل خلقه، يولد وسيطا بالنسبة إلى جميع المخلوقات للاستجابة والمعاملة بالمثل، كما هو مبين في قوله تعالى “يحبهم ويحبونه”.
وتخلص من ذلك إلى أنه من المحبة الإلهية التي بدأ بها الخلق، تستمد الكائنات القدرة على نشر الحب والعاطفة إلى الآخرين، وأن الكائن الإنساني ليس هو من يحب وحده، ولكن كل الكائنات وهبها الله الحب. فإذا كان فعل الخلق ذاته، هو فعل الحب، والتنشئة، والانبثاق، وتعليم الحب، فالحب لا يمكن أن يكون سمة من سمات الإنسانية وحدها.
وفي خلاصة أخرى، تذهب الباحثة إلى أن سعة محبة الله في مبادرة الحب في فعل خلقه، تنعكس كغريزة في المخلوقات، قادت المسلمين في الجانب المجتمعي إلى تطوير أخلاق للعيش في تضامن روحي، ومثلت لذلك بالزكاة والصدقة، وأنهما شكلتا مظهرين من مظاهر المحبة الصحيحة. “ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين”.
وتركز الباحثة على سورة بوسف عليه السلام، وتعتبرها نموذجا للحب، وتقابل في ذلك بين التفاسير المشهورة للقصة وبين التأويلات التي استقرت في تمثلات الشعر والفلكور في عدد من المجتمعات المسلمة، وتمثل لذلك بالمجتمع الإيراني، وكيف تحولت قصة الحب، والأمل، والعفو والتسامح والرحمة والجمال كما وردت في القرآن، إلى قصة فتنت المخيلة الصوفية، ووجدت طريقها إلى أدب المسلمين بلغات مختلفة منها الفارسية والعربية والتركية والأردية والبنجابية والبنغالية.
واستعرضت ضمن الروايات الفارسية القصيدة الرومانسية لعبد الرحمان جامي التي عنونها بـ”العروش السبعة” التي أضافت للقصة كما وردت في القرآن فصولا أخرى درامية (يروي جامي، أن يوسف رأى زليخة وهي أرملة عمياء، فأعاد لها شبابها وبصرها بإذن الله، وتزوجها يوسف وأنجب منها أطفال) وكيف تحولت زليخة إلى بطلة رومانسية ونموذج أصلي لعشيق مشهور. تمكنت من التعريف بجمال يوسف، وكان ذلك انعكاسا للجمالية الإلهية. وكيف حولت هذه التفسيرات هذا الحب الأرضي الذي هو مظهر من مظاهر الحب الإلهي الطاهر، إلى قصة منفى، وتقرأ يوسف كرمز للبشرية جمعاء، بشوق روحي لمن انفصل عن أصله الإلهي، أي كشخص روحي عاش دائما في العالم في المنفى، وكيف مثلت لشوق زليخة ليوسف باعتباره رمزا للحب والشوق إلى الروح المنفية.
الأدب الفعلي في القرآن.. موجه للمسلمين أم لمجموع الناس؟
ركزت ورقة ديفين استيوارت الأستاذ بجامعة إيموري بالولايات المتحدة الأمريكية على موضوع الأدب الفعلي باعتباره جزءا من الأخلاق في الإسلام أو جزءا من مقتضيات السلوك الإسلامي، وحاول أن يستقرئ التعابير القرآنية المرتبطة بالأدب الفعلي، وذلك من زاوية إشكالية، تطرح التساؤل عن قواعد هذا الأدب، وهل هي موجهة لتأطير السلوك الإنساني (كونية)؟ أم هي مختصة بالمسلمين لتأطير سلوك مجموعة معينة بقصد تنظيم المجتمع المسلم (خصوصية).
ويستعرض ديفين ستيورات جملة من الآيات التي وردت فيها هذه التعابير، ويستقرئ ما كان موجها منها للمسلمين، وما كان موجها لعموم الناس (السلام والتحية والرد عليها، ربط الفعل المستقبلي بمشيئة الله، عدم مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وغيرها من التعابير القرآنية في الأدب الفعلي). ويستنتج أن القواعد العامة المؤطرة للأدب الفعلي في القرآن تشي بأنها كونية، غير مقتصرة على المجتمع المسلم، ويورد بعض التعابير التي تثير إشكالا بهذا الخصوص، مثل نهي القرآن عن سب المشركين حتى يسد ذريعة عدم تجرؤهم على سب الله، فيستشكل الباحث أن يكون المنع معللا بتلافي نتيجة الفعل، لا مقررا لقاعدة عامة في السلوك، كما يستشكل ما ورد في قصة نوح من الجدل حول حقيقة وعد الله لنبي الله نوح بنجاة أهله، وإهلاك ابنه، مع أن صفة العدل الإلهي تقتضي الوفاء بالوعد، ويرى أن التفسيرات التي قدمت بهذا الشأن، تقرر كلها عموم قاعدة الأدب الفعلي وعدم خصوصيته، سواء بالتفسيرات التي ذهبتن إلى نفي العلاقة البيولوجية بين نوح وابنه، أو بالتفسيرات التي تعللت الاعتبار العقدي، بتأويل أن مفهوم الأهل حسب السياق القرآني مرتبط بمن آمن.