ثقافية

نحتاج النبي قدوة في الرحمة والتسامح في عالم يتزايد فيه الصراع

   بقلم :  عثمان أمكور

الأكاديمي الأميركي خوان كول: نحتاج النبي قدوة في الرحمة والتسامح في عالم يتزايد فيه الصراع

الأكاديمي الأميركي خوان كول مؤلف كتاب “محمد رسول السلام: وسط صراع الإمبراطوريات” مختص بدراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا بجامعة ميشيغان (الجزيرة)

                                                                  بقلم :  عثمان أمكور

الإسلام نزل في حقبة شهدت غزوات فارسية للأراضي الرومانية منذ عام 603، كما كان الغزو الساساني للقدس عام 614، وحسب خوان كول في كتابه فإن القراءة المتأنية للقرآن تظهر سعي النبي (ﷺ) إلى بناء مجتمع بديل عما هو سائد، قائم على السلام.

 

 

يطرح دائما عند المستشرقين سؤال كيف كان الوضع عند ظهور الإسلام؟ وما الذي ميز هذا الدين الحنيف ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم على بقية الرسل والأنبياء؟

هذه هي الأسئلة التي حركت الأكاديمي الأميركي خوان كول للتفاعل مع سيرة النبي محمد صل الله عليه وسلم وفق منظور جديد يخالف فيه السائد عند المستشرقين حيث يرى أن الدين الإسلامي نشأ في ظل وجود صراع كبير بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الساسانية في إيران، هذا الصرع شهد مواجهات عنيفة امتدت لما يقرب من 3 عقود.

يطرح كتاب خوان كول المعنون بـ “محمد رسول السلام: وسط صراع الإمبراطوريات” (Muhammad: Prophet of Peace Amid the Clash of Empires) -الذي شهد ترجمة بديعة للعربية من قبل عمرو بسيوني وهشام سمير منشورات عن دار ابن النديم للنشر والتوزيع- إعادة تقديم تفسير لمرحلة للإسلام المبكر باعتبارها حركة متأثرة بقوة بقيم صنع السلام التي أنتجها الإسلام لمواجهة ما هو سائد في العالم حينها .

ويسعى كول في هذا الكتاب إلى استقراء القرآن الكريم وفق سياق زمن النزول التاريخي، ليخلص بأنه يحتوي على قيم السلام والتسامح تجاه المخالفين.

 

ويرى الكتاب أن الفهم الشائع عند المستشرقين الذين يرون أن الإسلام دين حرب ظهر بسبب سوء فهم مركب يعتري طرحهم، والمرتبط بالأيديولوجيات السائدة، وكذا بسبب الصعوبات التي واجهتهم في تفسير القرآن الكريم. كما أنهم لم يقوموا بمقارنة ما قدمه القرآن بما كان سائدا في النصوص الرومانية والإيرانية حينها، وهو ما قام به الكتاب وخلص إلى أن الإسلام دين سلام بالأساس.

فالإسلام نزل في حقبة شهدت غزوات فارسية للأراضي الرومانية منذ عام 603، كما كان الغزو الساساني للقدس عام 614.

وحسب المؤلف فإن القراءة المتأنية للقرآن تظهر سعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى بناء مجتمع بديل عما هو سائد، مجتمع قائم على السلام.

فكول يرصد خطاب القرآن الذي يوجه المؤمنين نحو اليسر بدل العسر، والجنوح للسلم بدل الجنوح للحرب. فهو يرى أن سياق هذه الآيات مرتبط بالصراع المندلع بين الروم والفرس والذي انخرطت فيه القبائل العربية المشركة كحليف لأحد هذين الطرفين.

الكاتب يرى في كتابه أن المسلمين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كانوا متحالفين بشكل صريح مع إمبراطور الروم المسيحي هرقل الأكبر (حكم 610-641).

فكول يرى النبي حليفا للغرب، والغزوات التي قام بها ضد المشركين في شبه الجزيرة العربية كان دافعها السعي نحو السلام، كما قام النبي بترسيخ مبادئ الحرب العادلة.

وحسب كول فإن القرآن يؤكد أن الإسلام انتشر بالسلام في ربوع المدن الرئيسية غرب شبه الجزيرة العربية. وهو هنا يظهر أهمية القوة الناعمة للرسالة الروحية للقرآن في عملية انتشار هذا الدين.

ومن أجل أن نتوسع أكثر في هذا الباب، قامت الجزيرة نت بإجراء حوار مع الأكاديمي الأميركي خوان كول حول مضامين كتابه، وهذا نصه.

ذكرت في كتابك أن في حقبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم شهد العالم صداما بين إمبراطوريات فما هي؟

في تلك الحقبة، كانت القوى المهيمنة بالأساس هي الإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية (إسطنبول اليوم) والإمبراطورية الساسانية في فارس وعاصمتها طيسفون (المدائن اليوم وهي مدينة بالعراق اليوم). وقد دافع الأباطرة الرومان في القسطنطينية عن المسيحية وحكموا ما بات يعرف اليوم بتركيا وسوريا الكبرى ومصر وتونس في الشرق الأدنى. كان الساسانيون، الذين دانوا بالزرادشتية، قد توسعوا في آسيا الوسطى وإيران وبعض مناطق أرمينيا وشمال باكستان والعراق واليمن.

عام 603، عندما كان النبي محمد في الثلاثينيات من عمره، قام الإمبراطور الفارسي كسرى الثاني بغزو الإمبراطورية الرومانية وعلى مدى السنوات 16 التالية غزا كلا من سوريا الكبرى ومصر واستولى على معظم الأناضول وحاصر القسطنطينية. لقد كانت حربا وحشية واسعة النطاق قلبت السياسة رأسا على عقب.

كول يعتبر في كتابه أن النبي عليه السلام نظر للمؤمنين كجزء من مجتمع أبناء دين إبراهيم (الجزيرة)

    كيف نظرت هاتان الحضارتان إلى السلام تلك الحقبة؟

كان لكل من المسيحية والزرادشتية رؤى للسلام ، رغم أن تراث كلتا الديانتين اعترف بأن احتمال وجودهما في الجنة أكبر مقارنة بغيرهم. إلا أنه في المسيحية، غالبا ما يتوسط الرهبان لإنهاء النزاعات في القرى المجاورة أو بين القبائل الرعوية. سعى الكهنة والأساقفة إلى السلام بين رعاياهم.

صنع القادة التوسعيون أحيانا السلام من خلال الدبلوماسية والمساومة السياسية. وأبرمت الإمبراطوريتان الرومانية الشرقية والساسانية سلام 50 عامًا (الذي استمر حتى عام 572 وشمل جميع أجزاء الإمبراطوريتين بما في ذلك حلفاؤهما العرب) قبل زمن النبي. ومع ذلك، لم تستمر أي من المعاهدتين فترة طويلة ، وكانت هناك دائما غزوات وغزوات مضادة.

بدأ اندلاع الحرب الطاحنة بين الطرفين عام 603 فترة طويلة كانت الدبلوماسية خلالها غير مجدية. أرسل الإمبراطور هرقل الأكبر، الذي وصل إلى السلطة عام 610، بعثتين لتكريس السلام إلى البلاط الساساني، لكن المتغطرس والمنتصر كسرى الثاني رفض هذه المبادرات، بل وقتل بعض السفراء وسجن آخرين.

كانت شبه الجزيرة العربية منطقة عازلة بين الإمبراطوريتين، فهي منطقة حدودية لا تتوفر على دولة قوية.

كيف كانت الجزيرة العربية قبل مرحلة الرسول محمد (ﷺ)؟ هل كانت متحدة أم كانت تنعم بالسلام أم تجاذبتها صراعات داخلية وأخرى خارجية بسبب طموحات الإمبراطوريتين؟

كانت شبه الجزيرة العربية منطقة عازلة بين الإمبراطوريتين، فهي منطقة حدودية لا تتوفر على دولة قوية. امتلك الفرس اليمن منذ عام 570، وامتد النفوذ الرومي من شرق الأردن إلى شمال الحجاز. وتحالفت بعض القبائل العربية، مثل بنو نصر في حراء، مع الفرس. وكانت قبائل أخرى مثل الغساسنة مسيحيين موالين لروما الشرقية.

ويجد علماء الآثار أدلة على أن المسيحية كانت أكثر انتشارا في الحجاز في القرنين السابقين للنبي أكثر مما كان يعتقده المؤرخون سابقا.

كما يذكر القرآن وجود أشكال من الشرك في مكة والمدينة، وهي تشبه ما نعرفه عن الديانة النبطية القديمة. المفسر القرآني المبكر مقاتل بن سليمان (توفي: 150هـ/767م بالبصرة) يقول إن المشركين في مكة تحالفوا مع الساسانيين ضد الرومان، في حين فضل المسلمون الأوائل روما المسيحية.

خلافا لما يقوله كثير من المستشرقين عن الرسول محمد (ﷺ) أنت تصفه بكونه نبي سلام فهل يمكن أن توضح فكرتك للقارئ العربي؟

أؤكد أن العلماء قد أهملوا آيات السلام المنتشرة بشكل كبير في القرآن، وركزوا بدلا من ذلك على التعليمات القليلة حول خوض الحرب الدفاعية.

آيات السلام موجودة بالقرآن في كل أجزائه وليس فقط فيما نزل الفترة المكية. فالقرآن يؤكد أن الجنة مرادف للسلام. فالملائكة يدعون بالسلام لمن يدخل الجنة، والمحبة والسلام تعم أهل الجنة فيما بينهم، حيث لا مكان للأحقاد والغضب هناك، كما أن الله ينعم على عباده بالسلام جميعا. أعتقد أن السلام كفيل بتحويل مجتمعاتنا إلى جنة على الأرض.

والقرآن يحث على المسالك السلمية في المقام الأول، ويسمح بالحرب فقط إذا تعرض المجتمع لهجوم عسكري. وكمثال على ذلك آيات السلام العديدة الموجودة في سورة فصلت، كقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿33﴾ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿34﴾.

هذا التصور يذهب إلى أبعد من رؤية السلام وعلاقتها بالمجتمع أكثر مما قد طرح في العهد الجديد في المسيحية، لأنه يتحدث عن تحويل أعدائك إلى مؤيدين من خلال فعل الخير مقابل اقترافهم لأفعال السوء. فإذا كان المسيح يقول في إصحاح متى “أحب أعداءك” فإنه لم يتحدث حقا عن رد فعلهم على ذلك.

    كيف يعكس تعامل النبي محمد (ﷺ) مع المشركين في مكة سعيه إلى السلام؟

يذكر القرآن أنه يحق للمشركين التمسك بدينهم بشكل يوازي تمسك النبي محمد لأتباعه بدينهم، وهو ما نجده في سورة “الكافرون” حيث يقول القرآن: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾

لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ﴿4﴾ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿5﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿6﴾.

ورغم هجوم المشركين على المدينة المنورة ، فإن الآية السابعة من سورة الممتحنة تحث المؤمنين على المودة والعلاقة الطبية: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿7﴾.

عام 528، تفاوض النبي محمد على معاهدة سلام مع أعدائه المكيين في الحديبية وقدم العديد من التنازلات، وفقا لسيرته النبوية فهو سمح بأن تكون لغة المعاهدة محايدة، وأبرم المعاهدة مع المشركين تحت اسم “محمد بن عبد الله” بدل أن يبرمها تحت اسم محمد رسول الله وذلك سعيا منه للسلام معهم

عام 528، تفاوض النبي محمد على معاهدة سلام مع أعدائه المكيين في الحديبية وقدم العديد من التنازلات، وفقا لسيرته النبوية فهو سمح بأن تكون لغة المعاهدة محايدة، وأبرم المعاهدة مع المشركين تحت اسم “محمد بن عبد الله” بدل أن يبرمها تحت اسم محمد رسول الله وذلك سعيا منه للسلام معهم.

قصة الحديبية المنسوبة إلى عروة بن الزبير والمذكورة عند العديد من المؤلفين لاحقا لا يمكن إثباتها من القرآن.. بعض الأحكام المذكورة تشبه تلك الواردة في معاهدة السلام المبرمة بين الإمبراطورية الرومانية وساسان 561-562، بما في ذلك الاتفاق على رفض استقبال المنشقين، وربط الحلفاء العرب القبليين بالسلام، والنص على حرية الدين للأتباع الذين يعيشون في ظل حكم أجنبي.

يمكننا الآن أن نطلق على المعاهدة التي قام بها النبي محمد أنها معاهدة سلام تجنب المجتمع العنف، بهدف استعادة الهدوء الاجتماعي في الحجاز. إن المشاعر المتعلقة بالتسوية وصنع السلام تجد مستقرا لها في القرآن .

كما يجدر الإشارة  إلى أنه بعد ذلك بعامين، عندما جاء النبي إلى مكة مع أتباعه مطلع عام 630 فاتحا، ويذكر القرآن أنه لم تكن هناك إراقة للدماء.

رغم أن المشركين في مكة قد حاولوا 6 سنوات غزو المدينة وقتلوا مئات المسلمين، إلا أنه وفقا للقرآن لم تكن هناك أي أعمال انتقامية. وآية من سورة الفتح تظهر ذلك حيث تقول وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴿24﴾ حتى أن بني أمية، الذين كانوا من أشرس أعداء الرسول ودينه الجديد، تحولوا بعد العفو عنهم إلى قادة للمجتمع الإسلامي.

ما الدروس المستفادة من السيرة النبوية في عصرنا سواء للمسلمين أو البشرية؟

كان النبي محمد دائما على استعداد للعفو عن أولئك الذين غيروا قناعاتهم وكانوا على استعداد لتنحية الخلافات والعداوات السابقة. كان النبي محمدا ساعيا لمسالك صنع السلام. كان هذا الرفض للأحقاد والخلافات طويلة الأمد مختلفا تماما عما نعرفه نحن الغرب عن الثقافة العربية في ذلك الوقت.

تظهر معلقات الشعر الجاهلي والنقوش الصخرية الجاهلية بالعربية القديمة أو الفارسية عن الثأر كهدف نهائي في الحياة. من الواضح أنه في عالمنا، بفعل تزايد التضخم القبلي والصراعات الجيوسياسية، فإننا محتاجون للنبي كقدوة في الرحمة والتسامح وما يحمله من قيم كبيرة للإنسانية.

تظهر معلقات الشعر الجاهلي والنقوش الصخرية الجاهلية باللغة العربية القديمة أو الفارسية عن الثأر كهدف نهائي في الحياة. من الواضح أنه في عالمنا، بفعل تزايد التضخم القبلي والصراعات الجيوسياسية، فإننا محتاجون النبي كقدوة في الرحمة والتسامح وما يحمله من قيم كبيرة للإنسانية.

ويحث القرآن أيضا الناس على رؤية الجمال في الاختلافات في لون البشرة واللغة والجنس، وجعل هذه الاختلافات مناسبة لتعلم شيء جديد وقيم من هؤلاء الآخرين كقوله في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿13﴾. هذا المبدأ وحده من شأنه أن يحبط الكثير من صراعاتنا الحالية.

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى