شؤون اقليمية

النظام العالمي الجديد: كيف حاربت الولايات المتحدة أعداء من صنيعة يدها؟!

وحدة الرصد والإعلام : مركز تبيين للتخطيط والدراسات

يُعد أستاذ اللسانيات والفيلسوف الأمريكي “نعوم تشومسكي” واحدًا من أبرز رموز الفكر في اليسار الأمريكي في العصر الحديث. وعلى يده، خرج للنور العديد من الكُتب السياسية المؤثرة التي كانت تنتقد السياسات الأمريكية علانية. والمتابع لمسيرته المعرفية الحافلة سيحظى بالكثير من العناوين التي تضيق السطور عن الإبحار في أعماقها؛ مثال على ذلك: كتابه بعنوان “في حرب مع آسيا” عام 1971، “وأولاد البنات عام 1973″، “ولأسباب الدولة عام 1973″، و”السلام في الشرق الأوسط عام 1975”. إلى جانب كل ذلك، يُعد “تشومسكي” شخصية عالمية بارزة في مجال علم اللغة، إلى درجة يرقى معها إلى أن يتم وصفه بأنه “أبو علم اللغويات الحديثة”.  وولد “تشومسكي”، في ديسمبر 1928، في ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، لأب يهودي ذو أصول أوكرانية. ويعيش في الوقت الحالي بولاية بنسلفانيا، ويُعرف عنه الإلحاد.

 

وأبرز منتجاته الفكرية كتابه تحت عنوان: “النظام العالمي القديم والجديد”، والذي على الرغم من أن تاريخ إصداره يعود إلى عام 1996، إلا أنه يمثل دلالة بارزة على أن الكتب ليست مثل البشر، لا تشيخ، ولا يضفي عليها مرور السنوات شيئًا سوى أن يكتسب حضورها في النفوس بصمات أكثر قوة وأعمق تأثيرًا.

ومن المحتم على من يُطالع هذا الكتاب، شأنه كشأن سائر أعمال “تشومسكي”، أن يعرف سلفًا أن أي سطور مهما زادت أو نقصت لن تكون أبدًا وافية لنقل ولو لمحات قليلات عما ورد من قيمة في محتوى هذا الكتاب. حيث يأخذنا “تشومسكي” في كتابه عبر ثلاثة فصول وخاتمة في رحلة تبدأ من عند حقبة الحرب الباردة والسيطرة على الشعوب، مرورًا بتفسير كلمة “الأعداء الجدد” في قاموس الولايات المتحدة، والنظام العالمي الجديد، وصولًا إلى شرح طبيعة ما أسماه “تشومسكي” بـ حكومة العالم وعصر الإمبريالية الجديدة.

الحرب الباردة والسيطرة على الشعوب

يشير الكتاب إلى أنه من الممكن اعتبار سقوط حائط برلين في نوفمبر 1989 بمثابة النهاية الرمزية لحقبة في العلاقات الدولية وقعت فيها أحداث جسام تحت ظلال الحرب الباردة المشؤومة، بكل ما احتوت عليه من تهديدات مستمرة من الرعب النووي. وينطلق “تشومسكي” من عند هذه النقطة شارحًا كيف أدت نهاية الحرب الباردة إلى ظهور ضرورات جديدة فيما يتعلق بالسيطرة على الشعوب.

ويشرح تشومسكي كيف تعد السيطرة على السكان مهمة أساسية لأي سلطة حكومية تهيمن عليها جماعات المصالح. ويُدلل على ذلك بالقول إنه على الرغم من أن القوتين الدوليتين في زمن الحرب الباردة كانتا على طرفي نقيض بشأن القضايا المعاصرة المرتبطة بالحرية الداخلية والديمقراطية، إلا أنهما اشتركتا في قوة السلطة المحلية عند تعاملهما مع قضية السيطرة على شعبيهما.

ويتابع “تشومسكي”، شارحًا أنه من البديهي أن تختلف آليات التحكم بين الدولة الشمولية والدولة الديمقراطية الرأسمالية، لكن هناك آليات مشتركة تبناها الطرفان خلال حقبة الحرب الباردة؛ فحينما أرسل الروس الدبابات إلى برلين الشرقية وبودابست، أو براغ، أو دمرت قواتهم أفغانستان، كانت سياسة إقناع الشعب في الداخل والدول التابعة في الخارج تسوغ ما يجري بوصفه حتميًا لمواجهة خطر إمبراطورية الشر ودرئه.

وكان الشيء نفسه يحدث حينما كانت سلطة الدولة تفرض أساليب قمعية ووحشية ضد جموع السكان بينما كانت تراعي امتيازات وسلطة رجال الدولة الموالين من القوات المسلحة والأمن والمخابرات والصناعات الحربية. وقد استُخدمت حيل مشابهة في الولايات المتحدة للتحكم في السكان حين كانت السلطة تمارس برنامجها العالمي في الخارج للعنف والتدمير، في وقت كان يتم فيه الحفاظ على سياسة الدولة التي يوجهها البنتاجون، والتي كانت عاملًا أساسيًا في النمو الاقتصادي وتأسيس نظام “التضحية والقصاص”، والذي أشير إليه في واحدة في وثائق الحرب الباردة بمذكرات مجلس الأمن القومي الأمريكي، والتي تلقب بالمذكرة رقم “68”.

وتعد هذه الوثيقة واحدة من الوثائق الأكثر سرية خلال هذه الحقبة؛ إذ يقول “تشومسكي” إنه تم فيها تحديد الأطر الأساسية لسياسة “الحاجة إلى القمع”، تلك السياسة البارزة التي سعت إلى تحقيق الطريق الديمقراطي والتي وجب اتباعها مع أولئك “الخارجين على الولايات المتحدة”، في وقت كانت الموارد العامة في الدولة يعاد توجيهها لتلبي احتياجات الصناعات المتقدمة.

تفسير كلمة “الأعداء الجدد” في قاموس الولايات المتحدة

يقول “تشومسكي” إن السياسة الأمريكية لم تتغير منذ لحظة سقوط الاتحاد السوفيتي في الثمانينات. لكنها فقط اتخذت شكلًا جديدًا يسمى بضرورة البحث عن “أعداء جدد” تستمد منهم الولايات المتحدة ما تقول عنه إنه مصادر تهديد خارجية. ويشير إلى أن الولايات المتحدة قد وجدت بالفعل ما تبحث عنه في أشكال من التهديدات مثل الإرهاب الدولي، والتجارة الدولية للمخدرات، والأصولية الإسلامية، وعدم الاستقرار في دول العالم الثالث، وصور الفساد بشكل عام.

ويقول “تشومسكي” إن الولايات المتحدة لم تنفك تُعلن محاربتها لهؤلاء الأعداء الجدد، غير أننا لو تفحصنا بمفهوم “الإرهاب الدولي”، على سبيل المثال، سنجد أنه لم يتم الإشارة فيه –لا من بعيد ولا قريب- إلى دور الولايات المتحدة وزبائنها في هذا الإرهاب. وهي مشاركات يقول عنها “تشومسكي” بأنها كسرت الأرقام القياسية كافة، بينما لم يشر إليها بكلمة واحدة في وسائل الإعلام أو الدراسات السياسية الأمريكية الرصينة. وبالمثل لم تتضمن مناقشات الحرب على المخدرات دور “السي آي ايه” في هذه التجارة منذ الحرب العالمية الثانية، أو دور الدولة الامريكية ومؤسساتها في الاستفادة من أرباح هذه التجارة، وغيره في القائمة كثير.

النظام العالمي الجديد

بانزواء الحرب الباردة، ظهرت الحاجة إلى تأسيس النظام العالمي الجديد، والذي يصفه “تشومسكي” بأنه ينبغي أن يكون قادرًا على الاستجابة لسعي القوى العالمية نحو العدل والمساواة والديمقراطية في المجتمع العالمي. لكن بمعنى آخر، يصف “تشومسكي” هذا النظام على لسان كلمات قالها “ونستون تشرشل”، رئيس وزراء البريطاني السابق في أعقاب الحرب العالمية الثانية، “يجب أن تؤتمن حكومة للعالم تعبر عن الأمم التي لا ترجو لنفسها شيئًا أكثر مما بحوزتها. فلو أن حكومة العالم كانت في أيدي شعوب جائعة سيكون الخطر دومًا محدقًا. وليس لدى أي منا دوافع للسعي لشيء أكثر مما نملكه. يجب أن يتم الحفاظ على السلام من قبل شعوب تعيش على طريقتها دون أن تكون لديه مطامع في الاخرين. إن قوتنا تضعنا فوق الجميع. فنحن أشبه برجال اغنياء يعيشون آمنين في مساكنهم“. هكذا يُدلل تشرشل على أن الحكم هو حق ومهمة للرجال الأغنياء الذين يعيشون في سلام يستحقونه.

ويُعلق، “تشومسكي”، قائلًا إنه من الضروري هنا إضافة ملحوظتين على كلام “تشرشل”، الأولى أنه ليس صحيحًا أن الرجال الأغنياء يقنعون بما في أيديهم ولا يسعون في ذات الوقت، بجانب أن النظام الاقتصادي يتطلب عمليا سعيًا مستمرًا، فالمتلكئون يخرجون من اللعبة. والملاحظة الثانية، تتعلق بالقول الواهم بأن الأمم لاعب أساسي في المجالات الدولية، وهو قول يعبر عن خداع قياسي، نظرًا لأنه يوجد دائما فروق بين الامتيازات والسلطات، داخل الأمم الغنية تمامًا مثل الأمم الجائعة.

وبمعنى أوضح، يقول “تشومسكي” إنه لإزالة الخداع المتبقي في الوصفة السياسية لتشرشل نقدم الخطوط العريضة للنظام العالمي على النحو التالي؛ يحكم الرجال الأغنياء في المجتمعات الغنية ويتنافسون فيما بينهم للفوز بحصة أكبر من الثروة والسلطة ويزيحون بلا رحمة أولئك الذين يقفون في طريقهم، ويساعدهم في ذلك الرجال الأغنياء من الدول الجائعة، أما الباقون فيخدمون ويعانون.

وفي هذا السياق، يُشير “تشومسكي”، إلى أن الولايات المتحدة حرصت، في عالم ما بعد الحرب العالمية، على حصار العالم في زاوية سوق الأمن، دافعة به إلى خدمة الحماية الكونية، بأسلوب يعتمد على بيع الحماية للدول الثرية القادرة على دفع فاتورة الحرب؛ فالولايات المتحدة اعتمدت على تحصيل أموال ضخمة من القارة الأوروبية بقيادة ألمانيا، ومن اليابان، ومن دول الخليج النفطية، بدرجة مكنت الولايات المتحدة من الحفاظ على سيطرتها على النظام الاقتصادي العالمي، كدولة جشعة واعية، وهي وظيفة أتقنتها خلال حرب الخليج بنجاح كبير. بحيث كانت الولايات المتحدة تتزعم ومن ثم تخرج من هذا النزاع وقد حققت أرباحًا وافرة، ناهيك عن الصفقات المربحة التي اقتنصتها واشنطن تحت شعار إعادة إعمار ما دمرته بنفسها من قبل.

حكومة العالم وعصر الإمبريالية الجديدة

يقول “تشومسكي” إن صندوق النقد الدولي ومجموعة الدول الصناعية السبع ومنظمة الجات وغيرها من المؤسسات الي تعمل لصالح الشركات العابرة للقوميات، فضلًا عن البنوك وشركات الاستثمار العالمية؛ هي بمثابة الحكومة التي تسير العالم فعليًا. وذلك في زمن يصلح تسميته بعصر الإمبريالية الجديدة.

وتعمل حكومة العالم بعيدًا عن دور الشعوب أو تأثيرها، وتتبع هذه الحكومة أشكالًا سرية في إدارة العالم لتخضعه لسيطرتها وتسيره تلبية لرغباتها، وتضع كلا في مكانه، متشدقة بشعارات نشر الديمقراطية. ولم تكن هذه الحكومة لتهتم في أي وقت مضى بتراجع الديمقراطية لأنها اهتمت فقط بفرض عقيدتها الاقتصادية على المجتمع الدولي.

ويستشهد “تشومسكي” بتصريحات عبر عنها “لويس فيرناندو جاراميللو”، رئيس مجموعة الـ 7 لدول الجنوب في خطابه الذي انتقد فيه “الظروف الدولية المعادية لدول الجنوب، وفقدان الدول النامية لشخصيتها السياسية والاقتصادية أمام زحف ما يسمى بالنظام العالمي الجديد مع فجر القرن الـ 21، وهي عوامل تسبب اضطرابًا حقيقيًا وتتعارض مع الأمل الذي دخلنا به حقبة ما بعد الحرب الباردة ومع مفاهيم الليبرالية الاقتصادية ومبادئ اتفاقية الجات”.

ويلاحظ “جارميللو” أن “استراتيجية الأغنياء موجهة في الأساس لدعم المؤسسات والهيئات الاقتصادية التي تعمل خارج قوانين ومبادئ الأمم المتحدة، تلك الهيئة التي تبقى –مع كل ما تسبب فيه من مآسٍ- الالية الوحيدة متعددة الأطراف التي يُسمع من خلالها صوت الدول النامية”.

وإجمالًا، يرى تشومسكي أن هدف واشنطن الذي لطالما سعت إليه على المدى الطويل دون تغيير هو بسط الهيمنة على مصادر الطاقة الرئيسة في العالم؛ فهذه الطاقة مصدر هائل للسيطرة الاستراتيجية، وواحدة من جوائز التاريخ الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى