بالعودة للجذور التاريخية لبداية حلقات مسلسل التطبيع العربي الخياني مع كيان اسرائيل اللقيط منذ نهايات سبعينيات القرن الماضي (اتفاقية كامب ديفيد 1977) بين مصر واسرائيل برعاية امريكية ومايسمى بمؤتمر اوسلو 1993م واتفاقية وادي عربة بين اسرائيل والأردن 1994 ، فقد فتحت هذه الاتفاقيات والتسويات المذلة الباب على مصراعيه لأن يكون لاسرائيل موطىء قدم في المنطقة ، وهي بمثابة مكافآت مجانية لسلسلة جرائم اسرائيلية بحق الفلسطينيين وتجاه الأرض والإنسان والمقدسات لأكثر من سبعة عقود من الزمن .
وبعد أن مرت مؤامرة التطبيع وفاعلياتها بحالة من الجمود الظاهري لعقود من الزمن ، ليعيد احياؤها عهد الرئيس الامريكي دونالد ترامب عام 2020م وتتوج مسيرة التخاذل العربي بالتحاق اربع دول بمسار التطبيع علنيا”( البحرين ، الإمارت ، السودان ، المغرب) ليصل لحد التحالف مع العدو الغاصب ، وإضفاء صفة الشرعية في قواميس عواصم هذه الدول الأربعة ، في حين جوبهت برفض شعبي واسع وكبير من داخل هذه الانظمة خاصة وعموم الرأي العام العربي والإسلامي عامة .
ورغم الرفض الشعبي العربي والإسلامي لكن يجب أن لايغيب عن الأذهان أن الترويج بأي طريقة أو أسلوب لشأن دعم مسار هذا التطبيع المتعثر يضر بالدرجة الأولى والأخيرة بالقضية الأسلامية الكبرى القضية الفلسطينية سواء من خلال تخفيف حدة كراهية اسرائيل أومحاولة تعزيز حضورها في الوجدان الثقافي أو الشعبي العربي والإسلامي ، ففي المعيار الإخلاقي والإنساني والوازع الديني فأنه لاريب لدى كل عاقل أن التطبيع مع إسرائيل يُعد فعل محرم وجريمة لاتغتفر ، فاسرائيل اليوم لاتعترف بأي حق إنساني لأكثر من ستة ملايين فلسطيني مشردين في الأرض ، وترفض عودتهم الى أراضيهم وبيوتهم ومزارعهم بعد أن أخرجوا منها .
والتطبيع مع اسرائيل لاينطوي حدوده على مجرد إقامة علاقات اعتيادية معها ، وإنما يدخل في عنق الذات العربية والإسلامية وله انعكاسات ذاتية وجماعية ذات صبغة حضارية وتاريخية .
والتطبيع مع اسرائيل بمضمونه الظاهري أو الباطني ليس تطبيعا” بمعنى إقامة علاقات مع كيان لم يكن موجود أصلا” ، وإنما مراجعة تاريخ طويل وإعادة النظر في إبعاد تاريخية وحضارية ودينية ، ولاينطوي على مجرد مصالح متبادلة أو مشتركة تعود بمنافع مادية على طرفين ما ، وإنما يشمل الوعي بالذات والقراءة العربية للتاريخ والهوية والأصول .
ولايخلو التطبيع من الامتدادات النفسية واستهداف مقومات الشخصية الإسلامية والهوية ، وليس هو مجرد شعار مرحلي ، بل يتغلغل في وعي الإنسان بعجزه لتجذيره كحقيقة لا يمكن تجاوزها أو التغلب عليها ، أنه الترجمة العملية لترسيخ الهزيمة الذاتية ، أي أنه استدخال للهزيمة بحيث لاتشعر النفس بارتياح في أجواء غير أجواء الهزائم والاندحارات ، وبذا يكون عملية قلب جذرية للنظرة العربية والإسلامية تجاه إسرائيل .
وتأسيسا” على ماتقدم فأن التطبيع يراد منه أن يكون منهاجا” حياتيا” جديدا” ومبرمجا” ” بطريقة مؤثرة تخلق قيما” تربوية وإخلاقية جديدة متناسبة مع المرحلة وتشكل أساس المستقبل .
والمتابع للمسارات السياسية لهذه الدول المُطبعة ، يتجلى له بوضوح أن هذه الدول منذ دخول الاتفاق النووي الايراني حيز التنفيذ بدأت دول المنطقة المُطبعة تتحرك باتجاهات مختلفة في محاولة منها لتطويق دور ايران الإقليمي المعترف به عالميا” على عوانين رئيسيين : تضخيم مايسمى بـ ( الخطر الايراني) بموازاة الترويج بكثافة إعلامية ونفسية للـ ( التطبيع مع الكيان الصهيوني) ، فهذه الانظمة العربية ومنها الخليجية قد رأت في الكيان الاسرائيلي الحليف القوي ، بعد أن اندفعت الى الإرتماء في حضن اسرائيل لتوفر لها الحماية المزعومة مما يعتبرونه النفوذ الإيراني في المنطقة ، ومتناسين بذلك ومخالفين قواعد العلاقات السياسية التي تدعو للتحالف مع الدول التي تتشارك معها بأكبر عدد من القواسم المشتركة مثل الجغرافيا والتاريخ والدين والإرث الحضاري المشترك .
والثابت أن أميركا بعدما أصيبت بالعجز من تمري رمؤامرة التطبيع بارتياح ، واليأس من إخضاع الشعوب المقاومة ومنها الشعب الفلسطيني وفصائل مقاومته الصامدة ، وكل معطيات الأرض والسياسة والقوة تشير الى عمق المأزق السياسي الصهيوني وشعوره الدائم بأنه مهدد أكثر من أي وقت مضى ، بعد الانتصارات السياسية والعسكرية لمحور المقاومة الذي أخذ بالاتساع وتبني هذا المحور سياسة الردع الآني والمرحلي والستراتيجي المتنوع زمانيا” ومكانيا” سواء في فلسطين أو اليمن ولبنان وسوريا والعراق وايران وفي كل مرحلة من مراحل الصراع مع هذا الكيان ، وهذا ماخلق قناعة لدى المحللين المنصفين والموضوعيين أن الولايات المتحدة وسياساتها المتخبطة ماهي إلا واهمة بأن سياسة التطبيع ومساراته المتنوعة وإن نجحت مرحليا” في تحقيق جزء من اهدافها الآنية ، لكنه لن يضمن ويحقق الحماية والضمان الجيوسياسي لأمن الكيان الصهيوني، أو أن التطبيع سيغير المعادلة القائمة في المنطقة بوجود محور المقاومة كقوة ردع كبيرة في المعادلة الستراتيجية العسكرية والاستخباراتية ، وهذا ماسيكون عائقا” أمام تصفية القضية الفلسطينية والتمدد الإسرائيلي في المنطقة .
وقد أثبتت هذه المعطيات رسائل فصائل المقاومة الفلسطينية وهي تمثل جميع فصائل محور المقاومة ذات الأهداف التكاملية صورا” وأشكالا” بتحقيق انتصاراتها المتكررة على العدو الاسرائيلي سواء في غزة او باقي المدن الفلسطينية ، ولم تخف هذه الرسائل تأكيدها على هزالة عملية التطبيع وأنها ستضع هذا الكيان المسخ على فوهة البركان ، كما بذات الوقت أن الشعب الفلسطيني لن يقف لوحده في المواجهة ، بل يقف خلفه ويدعمه محور قوي يمتد من طهران الى بغداد الى بيروت مرورا” بدمشق حتى صنعاء التي أظهرت قدرات هائلة في الصمود والتصدي لكل مشاريع الإرهاب والعدوان العسكري ومقاومة الضغوط السياسية والاقتصادية الهائلة لإرغامها على الانصياع والتخلي عن خيار المقاومة دون جدوى .
ونجد كل المعطيات تشير اليوم إلى أن هذا المحور يسير بشكل حاسم وقاطع من نصر إلى آخر مهما بلغ حجم المؤامرات وأنه أصبح منذ انطلاق مسار التطبيع أكثر تماسكا وتوازنا وثباتا وأن العدو الاسرائيلي بات يحسب له الف حساب على مختلف الجبهات العسكرية والإقتصادية والثقافية والنفسية والإعلامية .