
في صباح دامٍ جديد، استفاق العراق على فاجعة أليمة في مدينة الكوت، حين التهمت النيران مبنى تجارياً (هايبر ماركت) بمن فيه، وذهب ضحيتها أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا يسعون للرزق أو يقضون حاجاتهم اليومية. هذه الحادثة أعادت للأذهان مأساة “عرس الحمدانية” في نينوى قبل سنوات، حين تحول الفرح إلى مقبرة جماعية بسبب حريق مشابه كان يمكن تفاديه لو احترم المسؤولون في العراق أبسط قواعد السلامة والأمان وغيرها من الحرائق التي التهمت بضائع الناس وحياتهم .
حرائق متشابهة.. ضحايا متشابهون( مواطنون) .. ولا أحد يتعلم:
ما يجمع بين حريق الكوت اليوم والحرائق الاخرى التي اندلعت في المحافظات هو الغياب الكامل لمعايير السلامة، الوقاية، والرقابة.
لا مخارج طوارئ صالحة، لا أنظمة إنذار حقيقية، لا أجهزة إطفاء قريبة، ولا خطط للإخلاء أو فرق مدربة. المباني التجارية في العراق، من الأسواق الكبيرة إلى قاعات المناسبات، تُبنى لتدرّ الأرباح، لا لتحفظ الأرواح.
من المسؤول؟
في بلد يحكمه الفساد وتسيطر عليه الصفقات الرخيصة، تتوزع المسؤولية بين أطراف عديدة:
1-الجهات الحكومية:
الدفاع المدني ودوائر البلديات تمنح تراخيص السلامة بشكل صوري أو بالرشوة دون تفتيش حقيقي. لا متابعة لاحقة، ولا محاسبة للمخالفين.
2-المستثمرون وأصحاب المباني:
يختصرون التكاليف، يستهينون بالأرواح، يجهلون أو يتجاهلون أبسط شروط البناء المقاوم للحريق ومستلزمات الحماية.
3-غياب ثقافة السلامة:
لا يُدرَّب العاملون، ولا تُفرض قوانين صارمة، ولا يلتزم الناس بإجراءات الوقاية.
أي مبنى تجاري أو صالة مناسبات ينبغي أن يتوفر فيه:
• مخارج طوارئ سليمة وواضحة.
• سلالم هروب مقاومة للنيران.
• أجهزة إنذار مبكر ودقيقة.
• أنظمة رش آلي ضد الحرائق.
• خراطيم مياه وصناديق طفايات
جاهزة للاستخدام.
• فريق مدرب على الإخلاء والطوارئ.
لكن في العراق، نرى نوافذ مغلقة بالحديد، وسلالم متآكلة، وبوابات مقفلة خوفاً من السرقة بدل أن تكون منفذاً للنجاة.
النتيجة ؛ حرائق متكررة، موت جماعي، دموع في كل بيت، وتصريحات باردة بعد كل كارثة:“سوف نشكل لجنة تحقيق”.
“الأسباب ما زالت مجهولة”.
“نأسف لما حصل”.
ثم تُغلق الملفات بصمت.. كما أُغلقت ملفات فواجع سابقة في بغداد، نينوى، وبابل.
بأي ذنب مات هؤلاء؟
ذنبهم أنهم يعيشون في بلد لم تُبنَ فيه دولة مؤسسات، ولم تُحترم فيه حياة الإنسان. دولة ينخرها الفساد من رأسها حتى قاعدتها، حيث تُباع تراخيص السلامة بأثمان بخسة، ويُمنح الفاسدون الحماية، بينما يموت المواطن البسيط حريقاً، خنقاً، أو سحقاً.
رحم الله ضحايا الكوت كما رحم ضحايا الحمدانية وكوردستان وبابل وبغداد وكل ضحايا هذا الإهمال المزمن.
لكن دماء الأبرياء يجب أن توقظ الضمير، لا أن تمر كما مرّت كل الفواجع السابقة.
إن مسؤولية الحكومة، الجهات الرقابية، أصحاب المباني، وحتى المجتمع، أن يتحركوا لوضع حد لهذه المآسي المتكررة. كفى عبثاً بالأرواح، فالأرواح لا تُعوّض، ولا يُبرر موتها بأي اعتذار أو تعويض.
“اللهم احفظ العراق من الفساد قبل أن نحترق جميعاً من جديد. والرحمة والجنان لشهداء اهالي الكوت .