
تُقاس حضارة الشعوب ورقيّها بمعايير عديدة؛ منها مستوى التعليم، قوة القوانين، احترام الحقوق، لكن من أبرز تلك المعايير وأكثرها وضوحاً النظافة. فهي ليست مجرد ممارسة يومية لإزالة الأوساخ، بل انعكاس مباشر لعقل الإنسان ووعيه ونظام حياته. المدينة النظيفة تشي بشعب منظم يحترم نفسه ويحترم الآخر، فيما المدينة الغارقة بالنفايات تحكي قصة مجتمع فقد صلته بأبسط معايير العيش الحضاري.
في العراق، وبغداد على وجه الخصوص، تحولت قضية النظافة إلى مأساة يومية تُذكّر الناس كل صباح بأن مدينتهم تُدار بعشوائية، وأنهم أنفسهم تخلوا عن أبسط واجباتهم تجاه بيئتهم. لا يحتاج المرء إلى بحث طويل ليكتشف حجم الكارثة؛ يكفي أن يسلك أي شارع رئيسي ليرى النفايات متناثرة في كل زاوية، أو يشاهد سيارة بلدية تفرغ حمولتها بجانب الطريق العام، وكأن الشارع مكان طبيعي لرمي القاذورات!
من المسؤول؟ الدولة أم المواطن؟
المعضلة لا يمكن تعليقها فقط على غياب الخدمات البلدية، فالنظافة قبل أن تكون مسؤولية مؤسسات، هي سلوك فردي يومي. العراقي اعتاد أن يفتح نافذة سيارته ليرمي كيس النفايات في وسط الطريق، وكأنه يرمي عبئه على المدينة لا على نفسه. هذا السلوك تكرر حتى صار جزءاً من “الاعتياد الجمعي”، فصارت الشوارع مقابر للنفايات، والأرصفة أسواقاً عشوائية، ومداخل العاصمة بغداد صورة تختزل الإهمال: أكوام السكراب، باعة يفترشون الأرض، مساكن بائسة، وروائح تزكم الأنوف.
المفارقة المؤلمة
العراق، بلد الثروات الهائلة والنفط والأنهار، يُفترض أن يكون من أجمل بلدان المنطقة وأكثرها نظافة. لكن الواقع يعكس العكس تماماً: مدن تتذيل قائمة العواصم العالمية في النظافة، ومشهد لا يليق إلا بدول مدمرة فقدت كل مقومات الإدارة. بينما في الدول الفقيرة جداً أو “الأكثر تخلفاً” – كما نصنّفها نحن – قد يجد الزائر شوارع أكثر نظافة وتنظيماً.
النظافة ثقافة قبل أن تكون خدمة
المشكلة الجوهرية أن العراقي لم يُربَّ منذ عقود على ثقافة احترام المكان العام. التربية الأسرية والمدرسية لم تُغرس هذا الوعي بشكل عميق، والقوانين لا تطبّق رادعاً على من يلوث البيئة. وهكذا نشأت أجيال ترى أن الشارع ليس سوى مكبّ للنفايات، وأن الدولة وحدها المسؤولة عن تنظيف ما يلوّثه الجميع.
من بغداد إلى مدن العراق الأخرى
المشهد لا يقتصر على العاصمة، بل يتكرر في جميع المحافظات. النفايات تحاصر الطرق العامة، وأكوام الأنقاض تملأ الأزقة، وصور الإهمال تروي قصة بلد منكوب لا يعرف من ثرواته إلا أسماءها. والأخزى أن هذا الخراب البصري يُستقبل به كل زائر يدخل بغداد من مداخلها التي تشبه حدود مدينة مهجورة.
خاتمة: النظافة مسؤولية مشتركة
إن النظافة ليست مجرد “مرفق خدمي” تؤديه البلدية، بل هي انعكاس لثقافة مجتمع بأكمله. وإذا لم يغير العراقي عاداته في التعامل مع المكان العام، فإن أي جهود حكومية ستبقى محدودة الأثر. المطلوب هو ثورة وعي تعيد للإنسان علاقته بمدينته، وتحوّل سلوك النظافة إلى عادة يومية مثل الصلاة أو الطعام. فمدينة نظيفة لا تحتاج إلى معجزة، بل إلى إنسان نظيف أولاً، ودولة تطبق القانون بحزم ثانياً.