ثقافيةمقالات

شهادات بلا عقول

كتب رياض الفرطوسي

لم يكن أشد المتشائمين يتخيل أن تتحول الشهادة في العراق إلى مجرّد بطاقة عبور إلى مكتب، بدل أن تكون جواز سفر إلى المعرفة. لم يعد يُطلب من المتعلم كتاب، بل يُنتظر منه أن يحمل حقيبة جلدية أنيقة، وربطة عنق، وبعض العبارات المنمقة عن التنمية والاستثمار والحوكمة، لينال لقب “دكتور” وتُفتح له الأبواب كأن المعرفة نزلت عليه وحياً.

في هذا البلد الذي اكتفى من المجد ذات يوم بشهادة المتنبي حين قال: “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي”، تحوّل التعليم إلى سباق تسلّق، لا في مدارج العقل، بل على سلالم المصالح. جامعات تُوزّع الشهادات كما تُوزّع الحلويات في الأعياد، ومراكز وهمية، ومكاتب استنساخ معرفي، ومؤتمرات تُحاك من خيوط الهواء، ومجلات تنشر للتفاخر لا للعلم. والمصيبة لا تقف عند من يشتري الشهادة، بل بمن يشرعنها.

لا خطة مدروسة لتأهيل البشر، ولا مراجعة لمفهوم “ما نحتاجه فعلًا” كدولة تتلمّس طريقها وسط الركام. آلاف من حملة الماجستير والدكتوراه، في تخصصات أصبحت مجرد زينة كلامية: علوم سياسية تُنتَج في فراغ السياسة، وقانون لا يحكمه قانون، ودراسات دينية تنمو بلا تقوى ولا حكمة. الكل يريد أن يجلس على كرسي. الكل يبحث عن مكتب، عن سكرتيرة، عن تبجيلٍ لم يستحقه، وعن هوية لغوية يتشدّق بها أمام المساكين، بينما يجهل حتى الفارق بين التنظير والتنفيذ.

من يزرع الأرض؟ من يشغّل المعمل؟ من يُصلح الطريق؟ من يطرق الحديد بيديه؟
كلهم أصبحوا دكاترة.
وداخل كل دكتور، ثمة بيروقراطي صغير يحلم بمكيف ومقعد جلدي وصورة معلّقة له وهو يفتتح ورشة لا تعني له شيئاً.

لا يُعيب الإنسان أن يعمل سائقاً، أو نجاراً، أو بائعاً، بل العيب كل العيب أن يتخرج من الجامعة ولا يعرف الفرق بين المنهج والحفظ، أن يحمل شهادة ولا يحمل معها حسّاً بالمسؤولية، أن يُدعى دكتوراً بينما لا يستطيع تركيب جملة من دون لحن.

تحوّل المجتمع إلى مسرح للتمثيل الأكاديمي، حيث يتقمص الجميع دور النخبة، بينما الواقع يئن من الجهل المقنّع بالشهادات. وما زاد الطين بلّة، هو هذا الانهيار الأخلاقي الذي شرّع الكذب العلمي، وأصبح الوصول إلى الشهادة يتمّ بضغط العلاقات، أو بفاتورة تُدفع بالدولار، أو بختم من جامعة في بلد لا يعرف العراق عنه شيئًا سوى أنه سوق مفتوح لبضاعة مقلدة.

إن التهديد الحقيقي للعراق لم يعد يأتي من الفقر وحده، بل من هذا التزوير الممنهج في الوعي، حين تتحول الجامعات إلى مصاعد اجتماعية بدل أن تكون معامل لصناعة الإنسان.

ما نحتاجه اليوم ليس شهادات أكثر، بل عقول فاعلة، تُعيد الاعتبار للعلم لا كوسيلة ترقية وظيفية، بل كقيمة حضارية.
نحتاج إلى ثورة هادئة في المعايير، تنفض الغبار عن كراسي التعليم، وتُعيد سؤالًا بسيطاً صار صعباً: ماذا نريد من التعليم؟ هل نريده حافزاً للنهضة، أم ملصقاً على جدار الوظيفة؟

حين نرى أن المزيفين صاروا يشرّعون القوانين، ويدافعون عن معادلاتهم المزورة، ويعتلون المنابر ليكرزوا علينا بأخلاقيات لم يعرفوها يوماً، فاعلم أن الخراب لم يعد سياسياً فقط، بل أصبح خراباً معرفياً منظماً.

ألم يحن الوقت لأن يُسحب البساط من تحت أقدام الزيف؟
أن تتقدم الجامعات العراقية بدلاً من أن تُختزل في نشرات أخبار الفضائح؟
أن نكفّ عن إهانة الشهادة بتحويلها إلى بطاقة انتخاب أو وسام استعراض؟

في هذا الركام الذي يعلو شيئاً فشيئاً، يبقى بصيص الأمل قائماً.
هناك من لا يزال يقرأ، يتعب، يُفتّش، يدرّس بضمير، ويحلم بأن تكون الشهادة مرآة لعقل لا ينعكس إلا بالحكمة.
هؤلاء هم البذور التي تُعوَّل عليها في بلد أرهقته العقول المزيفة.

العراق لا يحتاج إلى دكاترة إضافيين.
يحتاج إلى أوفياء للعقل.
إلى رجال ونساء يفكرون قبل أن يتكلموا، ويعملون قبل أن يتباهوا، ويُحبّون هذا البلد كما تُحب الأم أبناءها: لا طمعاً في ورث، بل خوفاً من ضياع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى