هل تستطيع الكتابة والبحث والتأمل ان توفر لك ملاذا امنا من عواصف التفاهة العامة؟ . يقولون هذه الايام انك كلما كنت تافها وسطحيا ستحصل على رصيد كبير من الاهتمام من قبل بعض المسؤولين لان التاريخ السلطوي الراهن يستبعد الصالح والمفكر والمتنور ويقرب المقاول والتاجر والمبتز . في زمن التفاهة لا يمكن للناس ان ترى بعضها بعضا على مستوى الوضوح والضمير والاخلاق والصدق والنزاهة والعفة والنبل والمروءة والكبرياء ‘ لان الانسان بالاساس هو فاقد لصورته الذاتية لذلك تتسيد الثقافة المظهرية المحتفية بالشكل والشكليات ‘ في حين يرى الكاتب السويدي ستيج لارسون ان الواقع الخارجي يبدو جميلا وساحرا وعادلا ونظيفا لكن هذه ليست الصورة الحقيقية لواقع محجوب بالخداع والكذب والنفاق والمراوغة .
وقد نكون اكثر شعوب العالم حديثا عن الاخلاق والقيم والمواعظ لكننا اكثر ازدراء واحتقارا لها في الممارسة والسلوك . لقد تم افساد كل شي في حياتنا ‘ الاعلام والثقافة والمؤسسات والادب والفن والذوق حتى ازداد التبرج الفاضح والرقص المبتذل والخفة والوضاعة والكلمات التافهة والانشاء اللفظي الباهت فصار التافهون يخرجون الينا من ثقوب الارض مثل الفئران في كل مكان . تذكر الكاتبة والباحثة البريطانية فرانسيس ستونر سوندر في كتابها ( من يدفع للزمار ) وقائع وسرديات مرعبة بشكل توثيقي تتعلق بعمل بعض الوكالات ومنها وكالة المخابرات الامريكية ودورها في اشاعة التفاهة في بعض المجتمعات من اجل السيطرة والتلاعب بمقومات الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية وقد استندت الباحثة على الكثير من الوثائق المخابراتية المفرج عنها بعد مرور 50 عاما . معركتنا مع التفاهة معركة معقدة خاصة بعد ان تمكنت هذه التفاهة من المجتمع وتغلغلت حتى الى البنية النفسية . لقد هيمنت ثقافة الاستهلاك والترفيه السريع على حساب التفكير النقدي والعميق ‘ وانتشار المعلومات المضللة والاخبار الكاذبة على حساب الحقائق الناصعة والمعلومات الدقيقة . سيطر التافهون على منصات الرأي العام بغض النظر عن محتواهم الفكري وفي المقابل تراجعت المعرفة والتعليم لصالح من يسعى وراء الشهرة والظهور والمال . ربما يمكننا ان نربط معركتنا مع التفاهة بعد عوامل منها الحداثة وثورة التواصل والاتصال الاجتماعي حيث سهلت هذه الوسائل من انتشار التفاهة بسرعة وسهولة . ومنها ما هو متعلق بالمتغيرات الاقتصادية والتركيز على الربح الى تشجيع انتاج المحتوى الذي يجذب عددا اكثر من المشاهدين ‘ ومنها ما هو مرتبط بالجانب النفسي حيث اصبح الناس يفضلون المحتوى السهل والممتع . يُعدَ التصدي لمعركة التفاهة مسؤولية مشتركة بين المؤسسات والدولة وبين الافراد . على المجتمع ان يعي خطورة التفاهة على واقع الناس والحياة . لذلك من الاهمية بمكان التركيز على دعم المحتوى الرصين والجاد والهادف من خلال المشاركة في المناقشات والندوات الفكرية والثقافية لتربية الاجيال القادمة على المعرفة والتفكير النقدي والوضوح من جهة اخرى على المؤسسات ذات العلاقة ان تدعم الانتاج الثقافي الجاد ونشر الوعي حول مخاطر انتشار التفاهة وتعزيز قيم التعليم والبحث العلمي . هذه المعركة ليست سهلة لكنها تحتاج تعاون الجميع ومن خلال التضامن نستطيع خلق مجتمع اكثر وعيا ومعرفة وثقافة ورؤية لاستشراف المستقبل . لن تكون ( الكنطرة ) بعيدة عن غاية اهدافنا السامية . التافهون يصلون الى ما يريدون بسرعة لكننا على سكة الوعي والمعرفة ثابتون.