مشروع «علم الاجتماع الديني الشيعي» للمفكر العراقي الدكتور علي المؤمن
د. راشد الراشد / باحث وأكاديمي من البحرين

مبادرة مهمة ومشروع ملح وبحث متميز طرحه المفكر العراقي الدكتور علي المؤمن مؤخراً في كتابه «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع»؛ فدراسة دراسة المجتمع الإنساني لأية أمة وكيان حضاري إنساني هو ضرورة ملحة معرفياً، لأنها تغني الفكر الإنساني وتزوده بالطاقة اللازمة للحياة، ليمارس دوره في قيادة إنسانيتنا نحو الكمال. والشيعة مكون إنساني عريض، له وجوده المؤثر في أكثر من إتجاه، ليس لأبناء المكون بذاته، وإنما أصبحت له تأثيراته الواضحة على حضارتنا الإنسانية، بما يمتلكه من مقومات فكر ومضمون أخلاقي في وصاياه وتعاليمه، كما له هويته الفريدة الخاصة، وبروزه نظاماً إجتماعياً له امتداداته العريضة وتأثيراته الواسعة في حضارتنا الإنسانية، وبات من الضروري اليوم دراسته بوصفه مكوناً كبيراً فاعلاً في مسرح الأحداث، وله إسهاماته في صناعة الواقع، رغم نشوئه قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وهي تجربة فريدة يختصه بها «الاجتماع الديني الشيعي» الذي تجاوز كل حقب التاريخ التي مرت عليه رغم ضرواتها في معظم الفترات تلك.
هناك ضرورة ملحة لدراسة «التشيع» بعيون البحث الهادف، للوصول إلي معرفة العوامل التي ساعدته للبقاء والإستمرار طيلة قرون متمادية، بالرغم من حملات القمع المتواصلة التي استهدفته وجودياً، والتي وصلت إلى حد التصفية المجنونة لكل ما يتعلق بتراث وإرث وكل هذا الكيان. فمن المؤكد بأن هناك نظام إجتماع ديني يتفرد بخصائص ومميزات جعلته يصمد طيلة فترات التاريخ التي مضت عليه، بل استطاع بفعل تلك المميزات والخصائص أن يتجاور الحدود الجغرافية الضيقة، ليواصل انتشاره، ويغطي اليوم رقعة واسعة من كرتنا الأرضية، وله إسهاماته الخلاقة في رفد الإنسانية بالمضمون الأخلاقي الفريد، الذي يحمله فكراً ومنهجاً وحركة. ولأن الشيعة وعقيدة «التشيع» أصبحت حالة مؤثرة مشهودة؛ فإنّ تتبّع تطور «النظام الاجتماعی الديني الشيعی» هو أمر تفرضه طبيعة حجم الانتشار، وما يمتلكه «التشيع» من عناصر قوة في الفكر والمضمون الأخلاقي بصفة خاصة.
أهمية مشروع المفكر العراقي الدكتور علي المؤمن:
ما يطرحه البحث الذي يقدمه الأستاذ الباحث والمفكر الدكتور على المؤمن يجيب على العديد من التساؤلات التي يثيرها موضوع «علم الاجتماع الديني الشيعي»، بدءاً من: هل يمكن أساساً دراسة «الاجتماع الديني الشيعي» أو «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»؟ وما هي أهم مكوناته وعناصره التي يتشكل منها؟ وما هي طبيعة التحدّيات التي تواجه الإجتماع الشيعي للتغيير والتجديد؟ وما هو دور الفقهاء والمراجع الدينية والحوزة العلمية في الاجتماع الشيعي؟ وهل هناك في «التشيع» قواعد عقدية وفقهيه يستند إليها «الاجتماع الديني الشيعي»؟، وغيرها من الأسئلة الهامة والملحة حول واحد من أكثر الموضوعات حساسية وإثارة للجدل، ليس على المستوى الشيعي الخاص، وإنما على المستويين الإسلامي العام والعالمي، لما ينطوي عليه من إشكاليات في طبيعة الفهم والموقف من ظاهرة الاجتماع الديني الشيعي. ونحاول في هذه السطور قراءة المشروع بعيون منفتحة، على مدى الحاجة إلى مثل هذه الأبحاث المعرفية، لإثراء ساحتنا الفكرية بما يمكن أن يساعدنا كأمة على المضى قدماً وبخطوات راسخة نحو الريادية وتبوء مواقع الصدارة في حضارتنا الإنسانية المعاصرة.
إن طبيعة البحث في شأن تطور الاجتماع الديني الشيعي؛ له حساسيته الخاصة، إذ يصطدم الباحث ــ عادة ــ بين مناهج التوصيف وكتابات النقد الموجهة والمنحازة وتحديات إسقاطات قيم التطوير والتجديد والإصلاح من جهة البحث، وبين إسقاطات المواقف المنهجية والعاطفية المسبقة من هذا الاجتماع. وفي كل الأحوال؛ إن مجرد شغل «علم الاجتماع الديني الشيعي» هذه المساحة من الاهتمام هو بحد ذاته دعوة صريحة وواضحة لكي يتقدم مفكرو الشيعة بتغطية هذا البحث من زاويتهم الخاصة التي تنطلق من «التشيع» فكراً ومنهجاً ورسالة ومضامين أخلاقية، وهو ما يحتاجه «النظام الديني الإجتماعي الشيعي»، ومما لا يستطيع من هم خارج دائرته الإبداع فيه.
ويأتي کتاب «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع» للباحث والمفكر العراقي الدكتور علي المؤمن في هذا السياق من معركة القيادة والريادة في فضاء في الفكر الإنساني، والذي يتناول فيه الدكتور على المؤمن موضوعاً له أهميته القصوى في فضاء الفكر الإنساني. وتنبع قيمة البحث الأساسية من أن هذه المقاربة النوعية في فضاء علم الإجتماع، لها حساسيتها الخاصة، خاصة لصلة البحث المركزية بما وصفه بالاجتماع الديني الشيعي، نظراً للظروف الراهنه التي يعيشها «مجتمع الشيعة» في الخارطة العالمية، رغم أن علم الاجتماع أضحى اليوم في وقتنا الراهن ثقافة أكاديمية تدرسها الجامعات والهيئات الأكاديمية البحثيه في جميع أنحاء العالم، بغية الوصول إلى فهم دقيق للقواعد والأسس التي تقوم عليها مكونات مجتمعاتنا الإنسانية، إلاّ أنّ «التشيع» لم يحظ بما يستحقه من اهتمام وعناية الأبحاث الأكاديمية في هذا السياق.
لقد قام الباحث الدكتور علي المؤمن بدراسة التطورات التاريخية التي رافقت ظهور التشيع كفكرة دينية ومذهب وعقيدة، باعتبار أن ذلك مقدمة يقوم عليها موضوع البحث الأساسي في «علم الاجتماع الديني الشيعي»، إذ تستدعي منهجية البحث العلمي مثل هذه الدراسة، وما يستلزمه من استعراض تطور حركة الشيعة ونموها كاجتماع مدني واسع الإنتشار، والذي أصبح اليوم يغطي رقعة ومساحة جغرافية هائلة، وله تفاعلاته وتأثيراته على مسرح الحياة.
نعم؛ لقد أشار الباحث في مقدمته للبحث، الى أنّ موضوعه ليس متعلقاً بدراسة التشيع كمذهب ديني أو مدرسة فقهية تتميز بسجالاتها العلمية في ميدان العقيدة والفقه بمختلف فروعه، وإنما هي محاولة لتأسيس نظرية علم إجتماع خاصة لمكون استطاع أن يفرض وجوده رغم كل الظروف السياسية الصعبة والقاسية التي مر بها. والحقيقة أن الباحث نجح في خلق مبادرة حيوية مهمة للغاية في سبيل تأسيس نظرية لعلم اجتماع ديني يختص بالتشيع كأمة لها من الحضور والفعالية، بحيث تستحق البحث والدراسة لمعرفة الأسس والقواعد التي تقوم عليه فكرة هذا الاجتماع، وتنبع قيمته الأساسية من أن الباحث يأتي من رحم الكيان الشيعي ومن داخله.
في تقديرنا ليس هناك سابقة في البحوث الفكرية وحتى العلمية المتخصصة في قضايا وشؤون علم الاجتماع في مكتبتنا الإسلامية والعربية التي تناولت تأسيس علم اجتماعي ديني يختص بالشيعة كمكون إجتماعي كبير في خارطتنا الإنسانية، وقد طالعنا مجموعة ضخمة من الدراسات والبحوث العلمية لعدد من الجامعات العربية والإسلامية، ورغم غزارة الإنتاج في الدراسات العليا؛ إلّا أننا لم نقف على دعوة واحدة تتناول موضوع علم اجتماع لمكون الشيعة كموضوعة تخصصية قائمة بذاتها. وبالتالي؛ فلمفكرنا العراقي الدكتور علي المؤمن تسجيل السبق في طرح هذه المبادرة المهمة لأمة لها انتشارها وحضورها الواسع في عالمنا المعاصر، وهي أمة ــ كما تشير الاستقصاءات الميدانية ــ ناهضة في شتى الميادين، وأن سرعة انتشارها وحجمه، أصبحت ملحوظة بشكل لا تحتاج إلى عناء بحث أو تقصي، وهذا ما يجعل تأسيس علم اجتماعي شيعي هو في غاية الأهمية، لا أقل لإثراء البعد المعرفي في ظاهرة الاجتماع الشيعي، لما تستحقه الظاهرة معرفياً من أمر الدراسة المعمقة والبحث العلمي.
المتتبع لحركة علم الاجتماع وحتى العلوم المتفرعة منه؛ فإنه يلحظ فقراً شديداً، بل انعدام شبه مطلق في دراسة ظاهرة الاجتماع الديني الشيعي دراسة موضوعية بعيدة عن ما علق بها من تشويه، بسبب طغيان البعد السياسي المشحون بالحساسية المفرطة لكل ما يتصل بفكرة التشيع وموضوعه الشيعة، حيث طغت الأبحاث ذات الطابع والايحاء السياسي الموجّه أو المذهبي المستغرق في القواعد الفقهية والأصول الدينية، مما أخذها بعيداً عن الموضوعية في دراسة «الاجتماع الديني الشيعي»، والأسس والقواعد التي يقوم عليها، وغابت عن معظم تلك الدراسات والأبحاث المطروحة في فضاء الفكر الإنساني العام الأصول المنهجية السليمة لدراسة الاجتماع الشيعي وبحثه، رغم ما وصل إليه هذا الاجتماع من قوة حضور وانتشار وتأثير لا يمكن تجاهله أو إغفاله بأي حال، بل إننا نقف اليوم أمام أهم ظاهرة اجتماعية دينية وسياسية في العالم، وهي تستحق العناية والدراسة والبحث.
لابد هنا من التعمق في هذه الظاهرة الكونية الفريدة، عبر استعراض جذورها وخلفياتها التاريخية، مروراً بدراسة بيئة النشأة والتأسيس، وكذلك محاولة التعرف على منظومتها الفكرية وهيكلتها الاجتماعية وعناصر قوتها، وبحث كل العوامل التي أدت إلى تطورها ووصولها إلى ما هي عليه اليوم من حضور وانتشار كبيرين، وما قام به الدكتور المؤمن في هذا المجال، هو تأسيس منهجي متفرد.