ثقافية

كيف نتحرر من الاستعمار الثقافي؟

د. سليمان صالح / أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة

لا يتوقف تأثير الاستشراق على تبرير السيطرة الاستعمارية، والتمهيد الفكري والثقافي لها، لكنه يتجاوز ذلك إلى تشكيل نظرة المثقفين العرب لتراثهم، وتطبيق المناهج والأدوات الاستشراقية في قراءة هذا التراث.
ويتجلى ذلك في الدور الذي قام به طه حسين الذي قام بالترويج لنظرية الشك في التراث، وتوجيه الباحثين والمثقفين العرب لاستخدامها في النقد العلمي والأدبي، والتقليل من أهمية الحضارة العربية والإسلامية، وتمجيد الحضارة الغربية.
ولو تتبعنا مسيرة طه حسين الفكرية؛ لاكتشفنا أنه لم يكن يؤمن بهذه النظرية قبل ذهابه إلى فرنسا، حيث تأثر هناك بالمستشرقين، ونقل نظرية الشك في الشعر الجاهلي من مارجليوث والمستشرقين الفرنسيين، واستخدمها كأساس لما أطلق عليه اتجاه التجديد في النقد الأدبي وقراءة النصوص.
الاستعمار واستخدام المثقفين العرب
ليس هناك شك في أن طه حسين نقل مقولة مارجليوث إن الشعور الجاهلي منتحل، فهو لا يمثل العصر الجاهلي، ثم انطلق من ذلك إلى التشكيك في وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ حيث يقول: “للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، لكن ورود هذيين الإسمين في التوراة والقرأن لا يكفي لاثبات وجودهما التاريخي“.
وبهذا انتقل طه حسين خطوات أوسع من تلك التي قطعها اساتذته المستشرقون الذين نقل عنهم وطبق نظريتهم.
وهذا يوضح الهدف من استخدام المستشرقيين للمثقفين العرب الذين تم إعدادهم في الغرب وتأهيلهم للقيام بدور في اثارة الشكوك في اصول العقيدة الإسلامية، والحضارة والثقافة الإسلامية.
لكنهم ليسوا مجرد بقر!
أثارت مقولات طه حسين، وتطبيقه لنظرية الشك في التراث معركة قادها الأزهر، حيث خرجت الجماهير للتظاهر ضد كتاب “في الشعر الجاهلي” ، وقد وقف سعد زغلول يخطب في المظاهرات قائلا: ان هذا الدين متين، وليس الذي شك فيه زعيم أو إمام حتى نخشى من شكه على العامة، فليشك ما شاء.. فماذا علينا إذا لم تفهم البقر!

لكن من الواضح أن سعد زغلول هون من هذا الاتجاه وأخطأ في التوصيف، فطه حسين احتل مكانه مهمة في الثقافة العربية الحديثة واثر على توجهات الكثير من طلاب كلية الآداب جامعة القاهرة والباحثين فيها، وهناك من ساهم في رفع مكانة طه حسين، ومنحه لقب عميد الادب العربي .
تساؤلات مشروعة تكشف الحقائق
في ضوء ذلك يمكن أن نعيد تقييم الكثير من الأبحاث؛ التي تم انتاجها بهدف نقد التراث العربي. ونطرح سؤالا مهما هو ما تأثير الاستشراق على المثقفين العربي في القرن العشرين؟
ويمكن أن نطرح المزيد من التساؤلات حول دور السلطات في تشجيع هذا الاتجاه، ودور وزارة الثقافة المصرية في ذلك بعد عام 1952، ولماذا حرصت هذا الوزارة على تمجيد طه حسين وتقديمه كعميد للأدب العربي حتى وفاته، بالرغم من توليه منصب وزير المعارف قبل عام 1952، فلماذا لم يتخلص عبد الناصر منه كما تخلص من معظم المثقفيين المصريين الذين ارتبطوا بالعهد السابق، أو تقلدوا مناصب في الحكومات السابقة ؟
وهل كان طه حسين يقود معركة ضد التراث الإسلامي بهدف دفع مصر إلى الانفصال عن العرب والحضارة الاسلامية مستخدما في ذلك مناهج المستشرقين وأدواتهم. وما دور الغرب في تمجيد طه حسين والعمل على رفع مكانته، وزيادة أهميته؟
وما القيمة الأدبية لقصة مثل “دعاء الكروان” ليتم تقديمها في السينما، ولماذا تم الاحتفاء بالسيرة الذاتية لطه حسين “الأيام”؟
هذا يعني أن مقولة سعد زغلول كان تهوينا وعدم إدراك للخطر، وأن زعيم الأمة في ذلك الوقت لم يقم بدوره في الدفاع عن ثقافتها، والتفاعل مع الجماهير التي أدركت خطر ذلك الاتجاه، وأنه تمكين للسيطرة الاستشراقية على الثقافة المصرية.
سيادة المنهج المادي في التفكير
والقضية ليست في أن طه حسين قد صدم مشاعر الجمهور المسلم، أو أنه شكك في وجود إبراهيم وإسماعيل. لكن القضية تكمن في سيادة منهج مادي عقلي في التفكير ينفي كل معرفة لا يتم التوصل لها عن طريق الحواس والتجربة. وأن على الباحث ألا يقبل أية ثوابت لا يقرها عقله، وبالتالي فإنه يمكن أن يقوم بنفي كل التراث الإسلامي، الذي يتعامل معه كمجرد نصوص يقوم بتحليلها باستخدام مناهج المستشرقين. ولقد أوضح طه حسين إنه يريد تطبيق منهج ديكارت بشكل يتجرد فيه الباحث من كل انحياز ديني أو قومي يحول بين وبين الوصول إلى الحقيقة.
في ضوء ذلك يتم اتهام الباحثين في الجامعات الذين يعبرون عن رؤية إسلامية بأنهم منحازون وغير محايدين وغير موضوعيين.
وقد أثر ذلك بشكل كبير على البحث العلمي في كل المجالات حيث يتم فرض استخدام المناهج العلمية الغربية. وهناك الكثير جدا من رسائل الماجستير والدكتوراه التي اقتصرت على تقديم جداول واحصائيات، ولم يمتلك الباحثون الجرأة والشجاعة على التعبير عن الحقيقة التي يعرفونها خوفا من الاتهام بعدم الموضوعية.

وفي الكثير من الأحيان تم اعتبار الهجوم على الإسلام، والتركيز على الجوانب السلبية في التاريخ الإسلامي، وعدم ذكر الجوانب الإيجابية من أدلة الالتزام بالموضوعية وعدم التحيز.
لقد أصبح الهجوم على الإسلام من باحثين مسلمين يوصف بأنه موضوعية وحياد والتزام باستخدام المنهاج العلمية، بينما الدفاع عنه وإبراز الجوانب الإيجابية فيه تحيزا.
ولم يقتصر ذلك على الجامعات، فالكتب التي تنشرها وزارة الثقافة المصرية يتم اختيارها طبقا لشروط من أهمها الالتزام بتطبيق مناهج المستشرقين، ويتم تمجيد الكتب التي تركز على الجوانب السلبية في التاريخ الإسلامي، والهجوم على رموزه فتوصف تلك الكتب بالتقدمية والإستنارة والتجديد وعدم التحيز. وشكل ذلك اغراء للكثير من الباحثين للهجوم على الإسلام، والبحث عن الجوانب السلبية في تاريخه. حيث أن ذلك هو أقصر الطرق للشهرة والمال والمناصب.
هذا يعني أن طه حسين قد أسس لعملية سيطرة المناهج الاستشراقية، واستخدامها في هدم ثوابت الإسلام، والهجوم على رموزه. وهذا يشكل تحيزا مركبا للغرب والاستعمار، وتحيزا ضد الإسلام والحضارة الإسلامية.
كما يعني أيضا عدم الالتزام بأخلاقيات البحث العلمي؛ حيث أدى ذلك إلى الكثير من الظلم الذي تعرض له الباحثون الإسلاميون في الجامعات المصرية، وكنت أنا واحدا منهم.
الأيديولوجية المادية الغربية
إن تطبيق منهج الشك، والاعتماد على التفكير العقلي وعدم الالتزام بالثوابت الإسلامية، واضطهاد الباحثين الإسلاميين، ومنع نشر كتبهم هو نتيجة للانحياز للأيديولوجية المادية، وهذا يشكل انحيازا للغرب، وتحقيقا لأهداف الاستشراق في تمجيد العنصرية الغربية، وفرض الدونية على الشعوب الشرقية، لكي تقبل بالخضوع للاستعمار.
هذا يعني أن الكفاح من أجل تحقيق الاستقلال الشامل، ومقاومة الغزو الفكري والثقافي الغربي يحتاج الى مراجعة استخدام هذه المناهج في البحث العلمي، وبناء منظومة من الأخلاقيات العلمية التي يجب الالتزام بها، ومن أهمها التزام الباحث بشجاعة الضمير العلمي ورفع الظلم عن الباحثين الذين ينطلقون في ابحاثهم من الانتماء لأمتهم وإيمانهم بالإسلام.
طه حسين والانتحال
لقد انتحل طه حسين مقولات مارجليوث وغيره من المستشرقين، والغرب يعرف ذلك، فلماذا لم يكشف سرقته الأدبية، وبالرغم من أن الجامعات الغربية تطبق احكاما قاسية على الانتحال والسرقة.
هل تم التسامح مع طه حسين، لأنه كان يقوم بدور مهم لصالح الغرب يتمثل في فرض المنهج المادي الذي يقوم على الشك على الجامعات المصرية، وأنه تم تأهيله للترويج لمقولات المستشرقين وإعداد جيل من الباحثين والمثقفين يشككون في ثوابت الإسلام والأسس التي قامت عليها حضارته؟

ولقد بدأ تطبيق المنهج على الشعر الجاهلي، والتشكيك في وجود إبراهيم وإسماعيل، ثم ينتقل إلى التشكيك في صحة الحديث والهجوم على البخاري وانكار وجود المسجد الأقصى، أو الادعاء بوجوده في الطائف.
وإذا كانت قوة الأزهر في عشرينات القرن العشرين أجبرته على تعديل بعض مقولاته وإعادة تحرير الكتاب ونشره تحت عنوان “في الأدب الجاهلي” فإن استخدام المنهج وفرض السيطرة الاستشراقية قد أثرت بشكل كبير على مسيرة البجث العلمي في الجامعات المصرية، وعلى الثقافة المصرين، وانحياز وزارة الثقافة المصرية لهذا المنهج.
لقد كان تأثير المستشرقين أكبر بكثير من الترويج لبعض المقولات مثل التشكيك في وجود إبراهيم وإسماعيل، فلقد أدى استخدام مناهجهم للتقليل من امكانيات تطوير البحث العلمي، وانتاج ثروة معرفية وثقافية على أساس الإسلام.
مرحلة كفاح جديدة!
لذلك تحتاج الأمة إلى مرحلة جديدة من الكفاح للتحرر من الاستعمار الثقافي؛ بإعداد علماء ومفكرين ونقاد يقومون بمراجعة شاملة للانتاج العلمي والأدبي خلال القرن العشرين، والعمل لبناء مناهج جديدة لاكتشاف الحقائق وبناء وعي الأمة.
كما تحتاج الأمة لتطوير أخلاقيات البحث العلمي، وحماية الباحثين الإسلاميين من الاضطهاد، وفتح المجال أمامهم لنشر أبحاثهم، بعد أن شهد القرن العشرين سيطرة المتغربين على الجامعات والمجلات العلمية ودور النشر.
إن هناك الكثير من العلماء والمفكرين في العالم العربي لم يحصلوا على حقوقهم، وتم تقليل قيمتهم العلمية والأدبية بسبب دفاعهم عن الإسلام وحضارته. لذلك فإن تحقيق العدل في الجامعات من أهم الأسس التي يمكن أن تقوم عليها نهضة علمية وأدبية تسهم في تحقيق الاستقلال الشامل، والتحرر من الاستعمار الثقافي، ومن تأثير الاستشراق على ثقافتنا.

المصدر: موقع الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى